على عكس ما يعتقده البعض أن مشروع قانون الإجراءات الجنائية هبط فجأةً على أجندة مجلس النواب؛ يكشف الترتيب الزمني والسياق السياسي ومسار القرارات في أروقة مجلس النواب عن نية إخراج مشروع القانون في هذا التوقيت، وبالنصوص التي أثارت المخاوف من إهدار العدالة في مصر.
بدأت خطة تغيير القانون الذي اعتبره رئيس مجلس النواب حفني جبالي الدستور الثاني في ديسمبر/كانون الأول 2022 عندما أعادت الحكومة تقديم مشروع قانون الإجراءات الجنائية الذي سبق وتقدمت به في 2017، وكانت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية انتهت من مناقشته، إلا أن الفصل التشريعي الأول انتهى دون إدراجه على جدول الأعمال.
تعمَّد مهندسو مشروع القانون الجديد اتباع سياسة السرية والتعتيم على مدار 20 شهرًا من الدراسة والمناقشات، ونجحوا في مفاجأة المختصين وأنصار الحوار الوطني والحقوقيين بخلطتهم التشريعية، خاصة مع تغييب الصحافة البرلمانية.
عودة من الأدراج
استدعت الحكومة مشروع القانون من أدراجها المغلقة مرة أخرى، دون إجراء أي تغييرات في نصوصه أو مذكرته الإيضاحية، حتى تاريخ الإصدار والأختام المرفقة به ظلت كما هي دون تغيير في النسخة التي كانت مع النواب في اجتماع لجنة الشؤون الدستورية يوم 4 ديسمبر، واطلعتُ عليها، وكأنه قرار متعجل اتخذته الحكومة سريعًا دون إعادة نظر أو وضع لمسات جديدة عليه أو على الأقل مراجعة أوراقه.
كان هذا التحرك بعد أسابيع من انطلاق الخطوات الأولى للحوار الوطني وتشكيل مجلس أمنائه، وبدء تحديد أولويات الحوار وأجندة المحور السياسي، في مقدمتها مسألة الحبس الاحتياطي التي ترتبط بنصوص وضوابط في قانون الإجراءات.
كان هناك مسار الحوار والبحث عن المساحات المشتركة وطريق آخر لقطع الطريق
يبدو أن هناك من قرر منافسة الحوار الوطني في نتائجه، أو تخوف من انحرافه عن مسار مرسوم لا يمكن الخروج عنه، يؤدي لتهديد المنظومة الأمنية التي تأسست بعد 2013.
المؤكد أنه أصبح هناك مساران، الأول طريق الحوار ومحاولة الوصول لمساحات مشتركة وحلول وسط، والثاني طريق الأمر الواقع والنصوص القانونية الجاهزة للخروج إلى النور، في محاولة لقطع الطريق على المسار الأول ومخرجاته، وهو ما حدث بالفعل، إذ يُعتبر المشروع "كرسي في الكلوب" لنتائج الحوار الوطني.
لنجد أنفسنا الآن بين نصوص لا تلبي الحد الأدنى من التوصيات التي لم يكشفها القائمون على الحوار حتى الآن بالتفصيل، لكن أوضحها بيان الرئيس السيسي بما تضمنه من توجيهات للحكومة بتنفيذ ما من شأنه الحفاظ على طبيعة الحبس الاحتياطي كإجراء وقائي تستلزمه ضرورة التحقيق، دون أن يتحول لعقوبة، مع تفعيل تطبيقات بدائله المختلفة.
كشفت النصوص المطروحة أمام لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية عن عدم وجود تغييرات في القانون تلزم النيابة العامة بالبدء بتطبيق التدابير البديلة للحبس الاحتياطي، كما لم تحدد مدة لانتهاء التحقيقات، التي تستلزم استخدام آلية الحبس للمتهمين، ويمكن بعدها اللجوء للتدابير البديلة مثل البقاء في المنزل أو عدم ارتياد أماكن معينة أو إلزام المتهم بتقديم نفسه لقسم الشرطة في أوقات محددة.
لجنة سرية
في 4 ديسمبر 2022 وافقت لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية على مشروع القانون المقدم من الحكومة وتشكيل لجنة فرعية لدراسته وإعداد تقرير بشأنه برئاسة النائب إيهاب الطماوي، عضو المجلس عن حزب مستقبل وطن، وعضوية عدد من النواب وأتاح ضم خبراء قانونيين وممثلين عن نقابة المحامين والمجلس القومي لحقوق الإنسان.
على مدار 14 شهرًا عقدت اللجنة الفرعية عدة اجتماعات مغلقة محاطة بالسرية، فلا المحررون البرلمانيون يحق لهم حضور المناقشات، ولا يحق لأعضائها من النواب أو ممثلي الهيئات الحكومية أو المجلس القومي لحقوق الإنسان أو نقابة المحامين الإدلاء بتصريحات أو تسريب معلومات، مع تلقيهم تعليمات مشددة من رئيس مجلس النواب بعدم الإدلاء بأي تصريحات لحساسية القانون، حسب مصادر عدة في اللجنة.
خفض مدد الحبس الاحتياطي كريزة لتزيين مشروع القانون
فيما اكتفى مجلس النواب بإصدار بيانات مقتضبة عقب كل اجتماع مرفقة ببعض صور، لم توضح أي منها طبيعة النصوص أو فلسفة مشروع القانون، حتى أعلنت اختتام أعمالها في مارس/آذار الماضي.
وبشرت اللجنة في بيان مقتضب بوضع الصياغات النهائية لمواد مشروع القانون، أبرزها تخفيض مدة الحبس الاحتياطي، وهي "الكريزة" التي يزين بها أنصار المشروع الكعكة ويروجون بها للإيجابيات، لتكون مدة الحبس في الجنح 4 أشهر بدلًا من 6، وفي الجنايات 12 شهرًا بدلًا من 18، و18 شهرًا بدلًا من سنتين إذا كانت العقوبة المقررة للجريمة السجن المؤبد أو الإعدام.
.. وحوار ميت
ما بين مراهنات النواب على خروج التعديلات من البرلمان، وحسابات آخرين يعولون على ثقل الحوار الوطني ووزنه السياسي حينها، كان الصراع الكامن بين مسار الحوار وأسلوب قطع الطريق.
بينما حافظت اللجنة على خطى ثابتة، وإن بدت بطيئة، لكنها كانت سابقة وأسرع من الحوار الوطني الذي تباطأ في مناقشة الحبس الاحتياطي والإجراءات البديلة وضوابط المنع من السفر ومحددات المنع من التصرف في الأموال، وكلها نصوص تتعلق بقانون الإجراءات الجنائية.
وضع القائمون على الحوار الوطني الحبس الاحتياطي وتوابعه في مؤخرة الأولويات، إذ جرت مناقشته في المرحلة الثانية من الحوار عبر جلستين مغلقتين، لم يلحق زخم البدايات وجلسات الفضفضة التي شارك فيها النشطاء السياسيون والحقوقيون بقوة، وكانت تبثها قنوات المتحدة على الهواء، أو تنقل مقاطع مسجلة منها تسمح للجمهور بالاستماع للأصوات المختلفة ومن بينها المعارضة.
فضَّل مهندسو الحوار المناقشة في غرفة مغلقة عبر جلستين مطولتين والخروج بتوصيات رُفعت للرئيس بينما لم تعلن بنودها للرأي العام، ولم تصل حتى لنواب البرلمان الذين يناقشون تعديلات قانون يتقاطع مع توصيات الحوار.
مناقشات الغرف المغلقة
رغم انتصار المسار المضاد للحوار، وإقرار الحكومة بموافقتها على مشروع القانون الذي خرج من اللجنة الفرعية، لا تزال المناقشات في مجلس النواب سرية، تسمح اللجنة التشريعية لنا كصحفيين بحضور عشر دقائق أو أقل في بداية اجتماع اللجنة، لا نسمع فيها سوى الإشادات والترحيب أما المناقشات الجادة، فنُستبعد من حضورها.
استمرت المناقشات في الغرف المغلقة بعيدًا عن عيون الصحفيين، لم نرصد التعديلات التي طرأت على نصوص المشروع خلال المناقشات، ولم نوثق آراء النواب بشأن المواد التي تتعلق بضمانات العدالة، سواء ضوابط القبض على المتهمين أو التحقيق أو المحاكمات أو الاستماع للشهود، فيما يكتفي مجلس النواب ببيانات مقتضبة عادة ما تتضمن إشادات بالمشروع ونصوصه.
ظل التعتيم والمنع سيدي الموقف حتى في الاجتماعات الأهم التي حضرها نقيب المحامين، عبد الحليم علام، بعد رفض نقابة المحامين لمشروع القانون واعتراضها على التوسع في سلطات الضبط والتحقيق على حساب حق الدفاع.
اقتصر الأمر على حضور جزء من الاجتماع الأول الذي قال فيه النقيب إن رئيس اللجنة، النائب إبراهيم الهنيدي، "شرح لي بعض الرؤى والفلسفة التي تم التعديل على أساسها وتفهمها".
ورغم نفي النقيب لكلمته الموثقة في مضابط اللجنة التشريعية، وإعلانه استجابة النواب لمطالب المحامين لم يطرح علام حتى الآن على الجمعية العمومية التغييرات التي استجدت على مشروع القانون وطبيعة الاستجابة للمطالب التي سبق وأعلنتها النقابة.
حسابات انتخابية
اختيار توقيت مناقشة مشروع القانون في العام الأخير لمجلس النواب الحالي، ومع استعداد الأعضاء لخوض معركة انتخابية جديدة والترتيب لشكل التحالفات وطبيعة التنازلات، قد يكون سببًا للأداء الضعيف الذي ظهرت به المعارضة، سواء في الأداء الشخصي للنواب أو الأحزاب المحسوبة على التيار المعارض بشكل عام.
لم تتفاعل الأحزاب السياسية المحسوبة على المعارضة، والممثلة في مجلس النواب الحالي بأحزاب المصري الديمقراطي الاجتماعي، والعدل، والإصلاح والتنمية، مع مشروع القانون، سواء من خلال بيانات توضح موقفها من المشروع أو من خلال عَقد ورش عمل أو موائد حوار لمناقشة نصوصه، كما لم يَصدر عن نواب هذه الأحزاب أي بيانات تشير إلى موقفهم من هذا المشروع.
في المقابل أصبح أداء بعض النواب المعارضين المستقلين والأعضاء في اللجنة التشريعية لغزًا لدى بعض المتابعين، إذ اصطف النائبان ضياء الدين داود وأحمد الشرقاوي في صفوف المدافعين عن مشروع القانون. يدافع داود الذي كان عضوًا في اللجنة الفرعية التي أعدت المشروع في صورته الحالية، قائلًا "مطمئن من حيث الإجراءات التي تمت لإعداد المشروع، ومن حيث المنتج النهائي".
أما الشرقاوي، فاعتبر أن بيان نقابة المحامين لم يستند إلى معلومات صحيحة، وأحكامه غير منضبطة، وأكد على أن المجلس لن يتأثر بأي ضغوطات أو مزايدات.
لم ينته مسار مناقشات مشروع القانون بعد، فاللجنة التشريعية على موعد الأسبوع الحالي لاستكمال جلساتها التي ربما تسفر عن تعديلات محدودة قبل عرضه على الجلسة العامة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
المؤكد أن قطار التغيير الشامل لقانون الإجراءات الجنائية قد انطلق ولن يتوقف إلا بتدخل سلطة أعلى قد تستشعر خطر المشروع على الوضع السياسي، فهل يمكن أن تستجيب السلطة لأجراس الإنذار؟