تصوير: عمرو عادل بإذن للمنصة
كشك صحافة بوسط القاهرة

حديث "الصحافة المحجوبة"

منشور الاثنين 10 يوليو 2023

في الحديث عن انفتاح سياسي قادم وتغييرات سياسية يتم التجهيز لها دون الإجابة على سؤال "الصحافة المحجوبة"، انتقاص من المصداقية. تقديري أنه لا مناخ ديمقراطي دون صحافة مهنية ومتحررة من القيود وبعيدة عن الرقابة. هذه مسلمات لا يمكن التشكيك في صحتها أو التقليل منها.

المؤكد أن الصحافة المصرية تعاني من أوضاع صعبة لا سيما في مساحة الحريات الممنوحة لها، ولكن تبقى قضية "الحجب" هي المؤشر الأكثر تعبيرًا عن حصار قاس تعرضت له مهنة الصحافة خلال السبع سنوات الأخيرة.

على مدار سنوات، وبالتحديد منذ 2017، توسعت السلطة في استخدام سلاح الحجب، حدث هذا الأمر وقتها دون سند من القانون، ودون معرفة من "الجهة" التي تقف وراء ذلك الإجراء الجديد، ودفعت عشرات المواقع، وربما المئات، أثمانًا من حقها في العمل المهني، وفقد عشرات الصحفيين فرص عملهم فجأة ودون مقدمات.

لكن المدهش كان ما شهده عام 2018، إذ أن قوانين الصحافة التي صدرت وقتها، 180 لسنة 2018 على سبيل المثال، "شرعنت" سلاح المنع، ومنحت المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحيات واسعة في حجب المواقع.

الأمر لا يتوقف على غياب الترخيص القانوني فقط، بل يمتد لسلسلة من الكلمات المطاطة التي يعدها القانون مخالفات تستحق حجب الوسيلة الإعلامية، مثل "التحريض والكراهية والإباحية ومعاداة الديمقراطية"، وغيرها من مفاهيم ليست محددة ولا منضبطة ولا لها تعريف واضح، لكنها قادرة دون مقدمات على أن تجعل الموقع أو الوسيلة الإعلامية في خبر كان.

في المعاناة من سلاح الحجب البغيض هناك تجارب صحفية مهمة دفعت، وما زالت، ثمن إيمانها بالصحافة الحرة والمهنية، ويبدو أن هذا الإيمان يشكل جريمة في نظر بعض ممن يعادون الصحافة ولا يطيقون الحوار أو الاختلاف.

المنصة ومدى مصر ومصر 360 وغيرهم، لا يزالون تحت الحصار، ولا تزال صحافتهم محاصرة دون أسباب مهنية أو قانونية، وهو الأمر الأقسى على الإطلاق فيما يتعلق بهذا السلاح الذي ينال من الصحافة، فليس أقسى من أن تتعرض للعقاب دون أسباب من أي نوع، لا مهنية أو قانونية.

بل على العكس فجميع هذه المواقع تعمل من داخل مصر، ولها مكاتب تعمل من خلالها، ويحررها صحفيون مصريون، بما ينفي عنها إمكانية أن تفلت من أي عقاب قانوني في حالة ارتكاب مخالفات تستحق العقاب، ويجعل من استمرار الحجب علامة استفهام كبرى ليست لها إجابة.

في شهر مايو/أيار الماضي تابعنا نقاشًا دار خلال جلسات الحوار الوطني حول قانون حرية تداول المعلومات، وحضر خالد البلشي نقيب الصحفيين الجلسة، فضلًا عن عدد من المهتمين بشؤون الصحافة والحريات العامة، وكان النقاش الذي دار خلال الجلسة جيدًا وجادًا، ولكنه للأسف أشبه بمن يضع العربة قبل الحصان، فلا يمكن الاقتناع بإمكانية وجود تداول للمعلومات، فضلًا عن قانون ينظم هذا التداول، بينما سيف الحجب مسلط على رقاب الصحفيين، والمواقع تدفع ثمنه دون مبررات مهنية أو قانونية.

إن حجب المواقع والوسائل الإعلامية هو خصم من رقابة شعبية ومهنية على كل صور الانحراف

الأولى أن يدور النقاش حول رفع الحجب عن المواقع التي "ستتداول المعلومات" أولًا قبل الحديث عن التداول ذاته، مع ملاحظة أن إلزام كل المواقع المحجوبة بالقانون بعد رفع الحجب هو أمر طبيعي وضروري وواجب، فضلًا بالطبع عن التزامهم الدائم بكل مواثيق الشرف التي تنظم عمل الإعلام.

أما استمرار سياسة الحجب واعتبار أن هذا هو الأمر الواقع فهو أمر يخصم من إمكانية تصديق أن هناك تغييرًا يمكن أن يحدث قريبًا فيما يتعلق بالقضية الأهم لمهنة الصحافة؛ وهي حريتها واستقلالها وخضوعها لقوانين تضمن رفع القيود عنها.

وبعيدًا عن التفاصيل القانونية فإن هناك أثمانًا سياسية تدفعها البلد، أي بلد، إذا ما استمرت الصحافة مقيدة ومحاصرة.

في حسابات السياسة، حجب المواقع والوسائل الإعلامية، لا سيما المستقلة أو حتى المعارضة، هو خصم من رقابة شعبية ومهنية على كل صور الانحراف، وتقليل من قدرة الإعلام على التعبير عن اتجاهات الرأي العام بما يدعم صانع القرار وينير له الطريق. ثم أنه قبل هذا وبعده "تحصين للفساد" الذي يكشفه الإعلام كجزء من دوره المهني؛ بما لهذا الفساد من ضريبة اقتصادية كبرى تدفعها البلد في صورة إهدار لمواردها وقدرتها المادية.

مسألة حرية الصحافة واستقلالها ورفع القيود عنها لم تعد ترفًا، ولا مجرد قضية عابرة، بل أضحت جزءًا من قدرة، ورغبة، أي بلد في التقدم، فتقدم الدول بات مشروطًا بالعديد من الشروط المهمة التي تبدأ بالشفافية ومكافحة الفساد ونقد السياسات الفاشلة وكشف كل صور الانحراف التي تهدر موارد الدولة. وكلها جزء لا يتجزأ من دور ومهمة الصحافة في العالم كله لا في مصر فقط.

أما التعامل مع الإعلام باعتباره ملكية خاصة بالسلطة وأن عليه تلقي الأوامر وتنفيذها فقط، فهو فكر عفا عليه الزمن ولا يمكن أن يستمر، بل هو خصم مؤكد من قوة أي بلد يتطلع لمستقبل أفضل.

حان الوقت لرفع الحجب عن المواقع الصحفية، وتأكيد خضوعها للقانون فقط، ثم أنه آن الأوان أيضًا لتغيير الكثير من القوانين التي تنظم عمل الإعلام، بداية بالقانون 180 لسنة 2018، لتصبح القوانين ضامنة لعمل الصحافة والإعلام لا مقيدة لهما.

ولعل الحوار الوطني يكون بداية لمساحة أكبر تُمنح للصحافة، لتقوم بدورها الذي رسمه الدستور بلا معوقات، وتؤدي واجبها المهني والوطني دون قيود، وتفتح مساحات جديدة لأهل مصر وحقهم في متابعة ما يحدث في بلدهم من إعلام مصري خالص، لا يحمل إلا هموم البلد وصوت أهلها وحقها في التقدم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.