منشور
الاثنين 9 يناير 2023
- آخر تحديث
الاثنين 9 يناير 2023
بقدر ما خاضته الصحافة المصرية من معارك على مدى سنوات طويلة، بقدر ما اكتسبت من قوة ومصداقية وتأثير. ولم تتوقف الصحافة يومًا عن خوض المعارك؛ من مقاومة الاستعمار إلى الوقوف ضد الفساد والاستبداد والتطرف والتمييز، وحتى الصدام مع كل رؤساء مصر بعد يوليو 1952.
وفي السنوات التي سبقت ثورة يناير 2011، حصلت الصحافة على مساحات معقولة من الحرية، أهّلتها لكي تكون سببًا من أسباب زيادة الوعي وكشف الفساد وتأهيل المجتمع لرفض مشروع توريث الرئاسة من حسني مبارك الأب إلى ابنه جمال، بالتالي كانت سببًا من أسباب الرغبة العارمة في التغيير التي انتشرت في سنوات حكم مبارك الأخيرة، تلك الرغبة التي كانت المقدمة للحدث الأهم والأعظم في تاريخ المصريين الحديث: ثورة يناير الخالدة.
بالإحساس نفسه بقيمة وتأثير الصحافة، بنت السلطة الحالية خطتها على حصار المهنة والعاملين فيها، وفرض أكبر قيود ممكنة عليهم، فعلت ذلك تحت تأثير الخوف من إمكانية دفع الصحافة للناس إلى رفض السلطة ومقاومتها.
حتى العام 2016 كانت الصحافة ما زالت تتمتع بهوامش معقولة من الحرية، حتى قرر النظام العصف بكل المساحات المتاحة وإسكات كل الأصوات المختلفة معها. وفي سعيه لحصار المهنة، تبنى أربعة تكتيكات شكلت خطته الاستراتيجية لفرض الهدوء التام والتخلص من صوت الصحافة الذي يزعج ويعكر مزاج رجاله، وهي تكتيكات كانت كفيلة بأن تكتب كلمة النهاية، وتدخل صاحبة الجلالة إلى نفق مظلم لتسود أصعب وأسوأ مرحلة في تاريخ المهنة منذ 1952.
التكتيك الأول: حجب المواقع المستقلة
منذ عام 2017 استخدمت السلطة الحالية أسلوبًا جديدًا لمواجهة المواقع المستقلة التي كانت لا تزال تعمل خارج الوصاية، وتقدم الصحافة كما تعلمها الصحفيون بكل قواعدها وأدبياتها. ورغم ضعف الإمكانيات المادية التي تعاني منها المواقع فإنها خلقت نوعًا من التوازن مع الإعلام الرسمي، أو الوسائل التي قررت أن تدعم السلطة على طول الخط وبصرف النظر عن أي أخطاء أو كوارث.
واجتذبت المواقع المستقلة صحفيين كثيرين من أبناء الأجيال الشابة وجيل الوسط، ونجحت في أن تكون صوتًا آخر لما يجري، ورواية ثانية للأحداث. هنا شعرت السلطة بالقلق، وارتأت أن التعامل الخشن هو اﻷنسب، فقررت تغييب الأصوات الشابة والمستقلة، وحجبت عشرات المواقع الصحفية، دون أسباب أو مبررات قانونية، بل إنها حرمت المواقع المحجوبة من أن يكون لها الحق في الطعن القضائي على قرار الحجب، عندما لم تعلن أي جهة مسؤوليتها عن الحجب، ولم يعرف أحد من المؤسسة التي يمكن أن "يقاضيها" الموقع إذا أراد التظلم.
فعلت السلطة ذلك وما زالت تتبع التكتيك نفسه، بل زاد الأمور سوءًا حينما قننت الحجب في قوانين صدرت في 2018 ومنحت المجلس الأعلى للإعلام سلطة الحجب والوقف للصحف والمواقع.
التكتيك الثاني: تأميم الصحف والشاشات
بعد حجب المواقع، كان التكتيك الثاني يكمل ما بدأته السلطة من حجب للمواقع؛ جاء التأميم، غيبت السلطة الصوت المستقل وفرضت صوتًا واحدًا على الجميع: أي صوت رجالها وأنصارها.
دخلت السلطة على خط الإعلام فاشترت مؤسساتٌ في الدولة الصحفَ والمواقع والقنوات، واستحوذت الشركة المتحدة للإعلام على صحف الوطن والدستور واليوم السابع وصوت الأمة وأموال الغد، وقنوات دي إم سي وسي بي سي والحياة وإكسترا نيوز وأون والمحور والناس وغيرها.
بات الإعلام يعبر عن الرجل الواحد والصوت الواحد والفكرة الواحدة، فلا تنوع ولا مشاركة من أي نوع، بل حتى ظهور أصوات معارضة في الصحف والقنوات بات محاصرًا وممنوعًا وغير مسموح به إلا في أضيق الحدود وبما لا يتجاوز الهوامش الضيقة جدًا المسموح بها للحديث والنقد وطرح وجهات النظر.
التكتيك الثالث: "تقنين" الحجب والمنع والمصادرة
في عام 2018 أصدر البرلمان القانون رقم 180 الذي ينظم عمل الصحافة والمجلس الأعلى للإعلام، وهو الخطوة الثالثة في سياق استكمال خطة السيطرة على الإعلام، وجاءت نصوص القانون صادمة لأبعد مدى، واستخدام مصطلحات فضفاضة لا تحمل معان محددة لترسيخ المصادرة والحجب مثل: الكراهية والتعصب والإباحية ومعاداة الديمقراطية، وكلها مصطلحات لم يحددها القانون بدقة حتى تظل سيفًا مسلطًا على الصحافة والصحفيين، وحتى تتيح "للرقيب" الحجب والمنع والمصادرة.
ورغم الضجة التي أثارها القانون في الأوساط الصحفية فإنه مر بسلام، وأضحى المنع مشروعًا بقانون سارٍ، وبات من حق المجلس الأعلى للإعلام تغييب أي صوت صحفي تعتبره السلطة مزعجًا أو مشاغبًا، ولم يكتف القانون وواضعوه بالمصادرة بل منح المجلس سلطة فرض عقوبات مالية مغلظة وكبيرة على المؤسسات الصحفية والإعلامية، لتصبح الصحافة في حصار شامل بين منع وحجب من جهة، وغرامة مالية سترهق المؤسسات وقد تهدد بقاءها.
أربعة تكتيكات كانت كفيلة لأن نصل للحظة الحالية؛ صحافة تحت الحصار الكامل، وصوت واحد لا شريك له، ورواية وحيدة للأحداث
التكتيك الرابع: كتم صوت النقابة
على مدار سنوات اكتسبت نقابة الصحفيين قيمتها في الضمير العام من التأثير الذي تلعبه في الدفاع عن حقوق أعضائها، ودعمها المستمر لحرية الصحافة، بل كان تأثير النقابة يتجاوز الدفاع عن حرية العاملين بالمهنة للدفاع عن الحريات العامة، الرأي والتعبير والإبداع، وكان تقرير لجنة الحريات الذي تصدره النقابة كل عام مؤشرًا مهمًا ليس عن مساحات الحريات الصحفية فقط، بل عن مساحات الحريات العامة في المجتمع.
جمعت النقابة على مدار تاريخها كل المثقفين والمبدعين وفتحت أبوابها لهم، وساهمت بنشاطها الذي لم ينقطع أبدًا في رفع سقف الحريات العامة، وبدا أن هذا الدور الذي كانت تلعبه النقابة لا يرضي السلطة الحالية، فكانت مصادرة صوت النقابة قسرًا، جزءًا من الحصار المفروض على المجال العام، فتوارى صوت النقابة وانزوى وتراجع بدرجة لم تحدث في تاريخها كله، وباتت حرية الصحافة المحاصرة لا تجد نصيرًا يرفض أو يحتج أو يضغط من أجل رفع القيود أو حتى تخفيف الحصار، وبغياب صوت النقابة العريقة التي لقبها أعضاؤها دائمًا بقلعة الحريات، يختفي صوت آخر ويغيب نهار، تاركًا المهنة والعاملين فيها في مهب رياح الاستبداد والتسلط.
أربعة تكتيكات كانت كفيلة لأن نصل للحظة الحالية؛ صحافة تحت الحصار الكامل، وصوت واحد فقط لا شريك له هو السائد، ورواية وحيدة للأحداث هي التي يطلع عليها الناس، وانسحاب كامل من كل الذين كانوا يحلمون بصحافة حرة ومهنية ونزيهة، ومشهد غير مسبوق في تاريخ مهنة البحث عن المتاعب، وأفق مسدود لا يعلم أحد متى وكيف يمكن أن يتبدل غيومه إلى صفاء وحرية.
لكن المؤكد في كل ما حدث وما يحدث هو أن التاريخ يشهد بأن الصحافة خاضت معارك كبيرة مع مسؤولين وحكام، زالوا جميعًا وبقيت المهنة لتعبر عن ضمير الناس وهمومهم وأحلامهم.