برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
مراسل قناة الحرة يغطي مسيرة مؤيدة لفلسطين في العاصمة الأمريكية واشنطن، 4 نوفمبر 2023

إغلاق "الحرة" وواقع الصحافة المرير

منشور الثلاثاء 15 أبريل 2025

مساء السبت، أُسدل الستار على قناة الحرة الأمريكية الموجهة للعالم العربي. سُرِّح ما يزيد عن 90% من صحفييها والعاملين فيها في إطار الحملة الموسعة التي يقوم بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتخفيض الإنفاق الحكومي. لا يملك المرء سوى الشعور بالتعاطف والتضامن مع مئات الزميلات والزملاء الذين فقدوا وظائفهم فجأةً، فإغلاق القناة يعكس الواقع المرير الذي تعيشه مهنة الصحافة في العالم العربي منذ سنوات فيما يتعلق بمحدودية فرص العمل في وسائل إعلام تتمتع بحدٍّ أدنى من الاستقلالية والمهنية.

شهدتُ شخصيًا نشأة وانطلاق القناة مطلع عام 2003 عندما كنت مراسلًا لصحيفة الأهرام في واشنطن، قبل أسابيع من قرار الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش الأحمق بغزو العراق. تأسست القناة لترويج الموقف الرسمي الأمريكي بشأن هذه الحرب وغيرها من الحروب التي قرر بوش الابن شنها لنشر الديمقراطية وقيم الحرية في الشرق الأوسط في أعقاب هجمات 11 سبتمبر.

أي أننا بصدد الحديث عن قناة دعائية أمريكية بتمويل حكومي يُقرُّه الكونجرس سنويًا، ومن غير المسموح بث إرسالها داخل الولايات المتحدة بحكم القانون الذي يحظر تعريض الأمريكيين للبروباجندا، وذلك بافتراض أن الأصل في الصحافة أن تقدِّم الأخبار الموضوعية والصادقة والمتوازنة البعيدة عن الدعاية، ليقرر المشاهد بعد ذلك ما يصدقه وما يستبعده.

في هذا الصدد، كانت الحرة امتدادًا لقنوات إذاعية وتليفزيونية دعائية أخرى تتولى الحكومة الأمريكية الإنفاق عليها منذ حقبة الحرب الباردة، مثل إذاعتي صوت أمريكا وأوروبا الحرة، وهذه الأخيرة كانت موجهة لدول أوروبا الشرقية الموالية للاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، ومعها قنوات أخرى لمواجهة الصين والنظام الشيوعي هناك. أما داخل الولايات المتحدة، فلا تُنفق الحكومة على الإعلام ولا تمتلك قنوات خاصة بها، بل تركت هذا المجال للشركات الخاصة.

السيطرة بالخطاب

كان لبريطانيا السبق في تمويل وسائل الإعلام الموجهة لمختلف مناطق العالم التي تخضع لسيطرتها عبر محطات هيئة الإذاعة البريطانية BBC بعشرات اللغات، لكنها تمتعت دائمًا بدرجة أعلى من المصداقية مقارنة بالمحطات الإذاعية والتيلفزيونية الأمريكية، التي كانت دائمًا تواجه عداء شعوب العالم تجاه القوة العظمى المتورطة في العديد من المغامرات العسكرية الإمبريالية الفاشلة في التاريخ الحديث، من كوريا إلى فيتنام، ونهاية بالعراق وأفغانستان.

وقبل عصر الإنترنت والموبايلات، وفي مواجهة الهيمنة الحكومية الكاملة على الإعلام المحلي في مصر، لم نكن نملك سوى هذه الإذاعات الخارجية الموجهة للمنطقة العربية لنعرف بعض الأخبار المحظور نشرها في بلادنا، تحديدًا BBC وراديو مونت كارلو الفرنسي وأخيرًا صوت أمريكا.

ومثل كثيرين من رافضي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بانحيازها المطلق للعدو الإسرائيلي، كنتُ نادرًا ما أستمع لإذاعة صوت أمريكا على اعتبار أن كل ما تقوله أكاذيب ودعاية أمريكية. وفي المرات النادرة التي كان مؤشر الراديو يتوقف عندها وأسمع المذيع يعلن "هنا صوت أمريكا"، كنت أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأرفض مقدَّمًا كل ما سيقوله.

ما يحدث في الواقع أن كلَّ قارئ يتوجه إلى وسائل الإعلام التي تتوافق مع توجهاته

لا شك أن الحرة واجهت مهمة صعبة منذ إنشائها؛ لأنها تبيع بضاعة يصعب شراؤها في العالم العربي، بتبريرها ما كانت ترفضه الغالبية الكاسحة من شعوب العالم، وليست المنطقة العربية وحدها، من غزو واحتلال العراق وما تبع ذلك من خسائر بشرية فادحة فضلًا عن تقسيم وانهيار البلد العربي تحت شعار إنهاء ديكتاتورية الرئيس العراقي السابق صدام حسين.  

وفي صدفة جمعتني مؤخرًا مع أحد الذين تولوا مسؤولية إدارة الحرة في فترة قريبة سابقة، أَقرَّ بأن السبب الرئيسي وراء عدم تمتع القناة بالشعبية والانتشار رغم مرور ما يزيد عن عشرين عامًا على إطلاقها؛ فَهْم المشاهدين العرب أنها قناة دعائية، إلى جانب التدخل المتواصل في عملها من قبل أعضاء الكونجرس الذين يُقرّون تمويلها بعد مراجعة برامجها للتأكد من أنها لا تقدم سوى وجهة النظر الأمريكية الرسمية فقط، وأنها لا تبث دعاية معادية للحليفة إسرائيل، مثلما حدث عندما تعرَّضت إدارتها لهجوم شرس من الكونجرس، بعد إجراء لقاء مع متحدث باسم حركة حماس، في سياق تقديم مختلف وجهات النظر. 

الكثير من الزميلات والزملاء في قناة الحرة كانوا يقولون إنهم يقومون بعمل مهني فقط، ويُقرّون بصعوبة العمل في القناة بسبب توجهاتها السياسية المدافعة عن وجهة النظر الرسمية الأمريكية، خاصة وأن وجهة النظر هذه تتأثر بالطبع بتوجهات الإدارة القائمة في واشنطن، وما إذا كانت جمهورية أم ديمقراطية، وحسب هوية الرئيس؛ بوش أو أوباما أو بايدن، والآن الأهوج ترامب.

ولكن بقي العمل في الحرة، خاصة لمن نجحوا في الالتحاق بالمقر الرئيسي في ولاية فيرجينيا، فرصة ذهبية ليس فقط للإقامة في الولايات المتحدة، بل أيضًا لنيل الجنسية؛ بحكم أن وزارة الخارجية الأمريكية تضمن وظائف القناة. وحدث أن غادر كثيرون العمل فيها بمجرد حصولهم على الجنسية، وتوجهوا للعمل في قنوات أخرى.

لكن من المستقل؟

مقابل الاتهام بالعمل لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وأجندتها في المنطقة، فإن التساؤل المشروع لمن يعملون في القناة كان عن القناة الناطقة العربية المستقلة والمهنية ولا تعكس وجهة نظر الدولة التي تُموّلها. فقناة الجزيرة صاحبة الشعبية الأعلى في العالم العربي تمثّل قطر وتدعم بفجاجة جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، وقناة العربية تروّج للسعودية، وقناة سكاي نيوز لا تخرج من فلك الإمارات، ولكلِّ دولة أجندتها ومصالحها الخاصة التي تنعكس على التغطية الإعلامية. 

الحقيقة التي لا يمكن إنكارها في السنوات الأخيرة، أن سوق العمل الصحفي باتت محدودًا للغاية لمن يرغبون في التمسك بقواعد الاستقلال والمهنية والحياد، بناءً على المثل المصري الشهير "اطبخي يا جارية، كلف يا سيدي". وبالطبع قنواتنا المصرية ليست استثناءً من هذه القاعدة. وأي صحفي يمارس المهنة الآن يجب أن يضع في اعتباره توجهات ومصالح الدولة أو الجهة التي تموّل وسيلة الاعلام التي يعمل بها، حتى لو حاول التمسك بأقصى درجات المهنية والاستقلال.

وهنا تنتقل المسؤولية، نظريًا، إلى المشاهد أو القارئ، في أن يبذل جهدًا لتكتمل لديه الصورةُ عبر التنقل بين مختلف القنوات والمواقع، واضعًا في الاعتبار الجهة التي تقف وراء تمويل كلٍّ منها. وأقول "نظريًا" لأن ما يحدث في الواقع أن كلَّ قارئ يتوجه إلى وسائل الإعلام التي تتوافق مع توجهاته وتعبّر عنه، ونادرًا ما يهتم بالنظر إلى الجانب الآخر من السردية.

وبين هذا وذاك، يكون الصحفي في مواجهة الخيار الصعب بين البحث عن فرصة عمل وتلبية احتياجاته الأسرية والشخصية، وضميره الذي قد يؤرقه أحيانًا لعلمه أن ما يكتبه ويبثه لا يعكس الحقيقة بالضرورة، ولكن ما يطلبه "صاحب المحل". لن يتأثر المشهد الإعلامي كثيرًا بغياب تجربة قناة الحرة التي لم تتمتع أبدًا بنسب مشاهدة مرتفعة. ولكنَّ الضررَ كلَّ الضررِ لحق بالمئات من صحفييها في القناة سواء في المقر الرئيسي في الولايات المتحدة، أو في مكاتبها حول العالم العربي.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.