عندما ألتقي بصحفيين أجانب ويتطرق حديثنا للأوضاع السياسية في مصر، كنت دائمًا ما أواجه سؤال "ولكن كيف تعمل صحفيًا في مؤسسة شبه رسمية، وتمارس مهامك في نفس الوقت كرئيس سابق لحزب سياسي معارض، أو متحدثًا إعلاميًا باسم الحركة المدنية الديمقراطية التي تضم تكتلًا من الأحزاب المعارضة؟".
وهنا يكون ردي مزدوجًا؛ الأول أن الصحافة في الأساس مهنة أو صنعة لها قواعد، ومن الممكن أن أكون صحفيًا معارضًا ولكن عندما أعد تقريرًا صحفيًا عن شأنٍ محليٍّ، فإني أطبق قواعد الموضوعية والتوازن في ما أكتبه، فاستعرض كل وجهات النظر المتعلقة بالقضية المطروحة، وأمنح مساحةً متساويةً لكل منهم مع خلفية تسمح للقارئ بفهم الموضوع.
ولأني أحب مهنة الصحافة واعتبر نفسي "صنايعي" في هذا المجال، كنت في سن الشباب أعمل مراسلًا لعدة صحف مصرية وعربية وأجنبية في نفس الوقت من أجل تحسين دخلي. وكان هذا يضطرني لكتابة نفس الموضوع، لنقل خطاب لرئيس الجمهورية، بعدة طرق حسب طبيعة وجنسية وتوجه كل وسيلة إعلام.
فكتابة التقرير للأهرام شبه الرسمية ستختلف عن الكتابة للنهار اللبنانية ثم الجارديان البريطانية أو وكالة الأنباء الألمانية. في الأهرام سألتزم بنص ما قاله الرئيس دون زيادة أو نقصان، مع زيادة حجم المقتطفات، وهو ما لن أقوم به في التقرير الذي أعده للصحف العربية أو الأجنبية، سيكون أقصر وسيضم رأي خبير في مضمون ما قاله الرئيس، مع إشارة لموقف المعارضين لوجهات النظر التي طرحها.
ويمكن أيضًا في هذه المهنة أن أتجنب تمامًا الكتابة في الشأن المحلي بعد أن أصبحت مواقفي السياسية معروفةً للكثيرين، بل أستغل خبرتي في الشؤون العربية والدولية.
وبعد أن قضيت تسع سنوات مراسلًا صحفيًا في الولايات المتحدة، يمكنني دائمًا متابعة وتحليل المشهد السياسي الأمريكي، أو تناول شؤون الدول العربية بعد أن عملت لسنوات مراسلًا متجولًا في مختلف عواصم الدول العربية؛ فلسطين، لبنان، سوريا، ليبيا، العراق، الأردن، المغرب والجزائر .
في مصر لا يوجد فصل قاطع بين الصحافة والسياسة من الأساس
أما الجانب الآخر من شرح كيفية الجمع بين العمل الصحفي الذي من المفترض أن يكون متوازنًا وموضوعيًا من جهة، والمواقف السياسية المعارضة والانتماء الحزبي من جهة ثانية، فهو أنه في مصر لا يوجد هذا الفصل القاطع بين الصحافة والسياسة من الأساس. فمنذ قيام الضباط الأحرار بثورتهم في 23 يوليو 1952، تنامى التوجه نحو السيطرة الكاملة على وسائل الإعلام واعتبارها وسيلة دعاية لمصالح النظام.
ولم يعد مقبولًا أن تمارس الصحافة دورها الرقابي على تصريحات وقرارات المسؤولين وعرض وجهات النظر المعارضة كما نرى في وسائل إعلام الدول الديمقراطية. وحُسم الأمر في العام 1960 باتخاذ قرار تأميم كل الصحف، وكانت الدولة هي التي أطلقت التلفزيون ودعمته هو والعديد من محطات الراديو فنشأ جهازًا حكوميًا صرفًا.
وكان ذلك كله في إطار خوض النظام حينها معاركَ حقيقيةً وحروبًا مع إسرائيل ومشاريعَ عدة للتنمية والتصنيع في سياق عالمي يحكمه الاستقطاب بين الاتحاد السوفيتي الشيوعي السابق والولايات المتحدة الرأسمالية الإمبريالية المعادية لحركات التحرر والاستقلال.
مات عبد الناصر عام 1970، وأجرى السادات وبعده مبارك تحولًا كاملًا واستراتيجيًا في سياسات مصر الخارجية والاقتصادية. وبعد الحروب مع إسرائيل ومعاداة أمريكا وملكية الدولة لكل شيء أصبحنا دولةً صديقةً للغرب والخليج العربي المحافظ ولدينا اتفاقية سلام مع إسرائيل وندعم القطاع الخاص. ثم انهار الاتحاد السوفيتي نفسه في 1991 وتمت إزاحة مبارك بصعوبة ومنع مشروع التوريث في أعقاب ثورة 25 يناير 2011.
ورغم كل هذه التغيرات التي مرت بها مصر والعالم، بقيت وسائل الإعلام المحلية أداةً لا يتخلى النظام عنها أبدًا مهما تغيرت الوجوه. وهي لم تكن كثيرة أساسًا مع قضاء مبارك بمفرده ثلاثين عامًا في الحكم، مقارنة بـ 18 عامًا لعبد الناصر و11 للسادات.
وعندما سمح السادات بالتعددية الحزبية المحدودة في نهاية السبعينيات، كان إصدار الصحف المعدودة التي تملكها أحزاب المعارضة كالتجمع والوفد والعمل، الأهالي- الوفد - الشعب، ربما هو النشاط الأساسي لتلك الأحزاب من خلال عناوين ومقالات تنتقد النظام وتكشف تزوير الانتخابات ووقائع التعذيب.
وعندما رأى السادات أن من يديرون تلك الصحف "قليلي الأدب" وتجاوزوا الخطوط الحمر، أغلقها جميعًا وألقى القبض على آلاف المعارضين قبل شهر واحد فقط من اغتياله في أكتوبر/ تشرين الأول 1981.
وقرب نهاية فترة مبارك المممتدة، وتحديدًا منذ قراره عقد انتخابات رئاسية تعددية صورية في 2005، تخطت الصحف المستقلة والخاصة كـالمصري اليوم والشروق والبديل مكانة الصحف الحزبية وأصبحت أكثر شعبية، في انعكاس آخر لاحتياج وإقبال المصريين على الصحافة الحرة البعيدة عن الخطاب الرسمي الممجوج المنفصل عن الواقع.
الربيع المقتضب
تنفسنا بعض نسائم الحرية في أعقاب ثورة يناير، وارتفع توزيع كل الصحف تقريبًا بعد تخليها عن الطابع الخشبي الذي كان يكتفي بترديد الخطاب الرسمي. صدرت عشرات الصحف والمواقع الإخبارية والمحطات التلفزيونية الجديدة، وتراجعت كثيرًا نسب مشاهدات المحطات العربية والأجنبية الناطقة بالعربية مثل الجزيرة والـ BBC. لم يعد هناك مبرر للاعتماد على تلك المحطات كمصدر موثوق للمعلومات عندما تكون كل القضايا مطروحة بحرية في وسائل الإعلام المحلية.
ولكن كانت هذه الفترة ربيعًا قصيرًا جدًا انتهى بسبب كل ما مررنا به في أعقاب تولي جماعة الإخوان المسلمين للحكم لفترة لم تتجاوز العام. وعندما سمعت تصريحًا للرئيس عبد الفتاح السيسي بعد أسابيع من توليه منصبه في 2014 يقول فيه "يا بخت عبد الناصر، الإعلام كان كله معاه" أدركت أننا في الطريق للعودة للسيطرة على كل وسائل الإعلام.
لم يسيطر عبد الناصر على الإعلام سوى عبر تأميمه. وبينما انتهت الحروب مع إسرائيل منذ 1979 بتوقيع اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، فإن الرئيس السيسي يرى أن الحرب ضد الإرهاب، والحرب من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية، والحرب من أجل البناء والحفاظ على تماسك الدولة، كلها حروب تستحق عودة السيطرة التامة على وسائل الإعلام. وفي هذا السياق، لم يعد الحديث ممكنًا عن صحافة حرة ومستقلة، بل إعلام له غرض سياسي دعائي في الأساس.
عندما انخرطت في العمل السياسي، كما كثيرين في أعقاب ثورة يناير، كان هدفي وحلمي أن تدفع الأحزاب السياسية نحو حرية وسائل الإعلام وتنوعها، وأن أستفيد من خبراتي للترويج لهذا الهدف. ولكن نظرًا للارتباط الوثيق بين الصحافة والسياسة في مصر، فإن الاهتمام البالغ بالسيطرة على وسائل الإعلام في عهد الرئيس السيسي صاحبه تأميم مماثل للعمل السياسي والحزبي.
فالسياسة والصحافة في مصر متلازمان متوازيان، ولن يصدق أحد نجاح الحوار السياسي الذي دعا له الرئيس ما لم يتم تخفيف القيود المفروضة على وسائل الإعلام وإنهاء حجب المئات من المواقع الإخبارية، ومنها موقع المنصة.
وحتى ذلك الحين، سيبقى الخط الفاصل بين السياسة والإعلام في مصر باهتًا وربما لا وجود له، ويصبح الصحفي المتمسك بحرية مهنته متبنيًا لمواقف سياسية رغمًا عنه.