صورة تندد بالقيود على الصحافة: أحمد محمد- فليكر. برخصة المشاع الإبداعي

الإعلام المصري بين التغييب ودعوة الرئيس

منشور الجمعة 5 أيلول/سبتمبر 2025

يحتل الحاكم في مصر منذ فجر التاريخ مكانةً فوقيةً بلغت وضعه في منزلة الإله أو ابنه، وفق معتقدات المصريين القدماء.

وفي هذا "البلد الأمين"، الذي يُعدُّ أقدم دولة موحَّدة بحدودٍ مستقرةٍ امتدادها معروف وغير متنازع عليه، يبدو غريبًا أن يخرج بعض أركان وأطراف النظام بممارسات لا تتفق مع ما يراه، وما أعلنه رأس الدولة بنفسه بعد اجتماع نادر مع أرباب الإعلام الرسمي.

هكذا تأتي شكوى وزير النقل ضد جريدة فيتو، لنشرها تقريرًا عن عدد ومخصصات المستشارين في معظم الوزارات، عقب طرح رؤية الرئيس لتطوير الإعلام، كمفارقة نادرة الحدوث. ربما لم تكن لتحدث لولا عدم مطالعة بعض الوزراء والمسؤولين أخبار الرئاسة بالعناية الواجبة.

صحيح أن الوزير، الذي حمل رتبة فريق خلال خدمته العسكرية، تفرَّد عن بقية الوزراء بشكوى -تنازل عنها لاحقًا- ضد الجريدة إثر ضجة لم يكن لها داعٍ، لكننا نكاد نجزم بتوقع مسار اتخاذ قرار التنازل، وليس هذا هو المطلوب بالطبع. 

جانب من لقاء المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والمهندس عبد الصادق الشوربجي رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، بالرئيس عبد الفتاح السيسي، 10 أغسطس 2025

تبدأ المقاربة عندما التقى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع المسؤولين عن الإعلام الرسمي المملوك للدولة في اجتماع غير دوري في العاشر من أغسطس/آب الجاري. ونقل أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام عن السيسي ما قال إنه ملامح رؤية الرئيس للنهوض بالمنظومة الإعلامية الوطنية، ودعم رسالتها في مواجهة التحديات وبناء وعي مجتمعي يواكب طموحات "الجمهورية الجديدة".

ما نقله المسلماني، وهو باحث وكاتب صحفي، عن رؤية رئيس الجمهورية الذي عيَّنه في منصبه قبل ستة أشهر تضمن الكثير من النقاط، التي تماست مع مختلف قضايا الإعلام وأطرافه ودوره وقيمته، بحيث يمكن القول إن تلك النقاط تغطي بالفعل الجوانب المختلفة اللازمة لتطوير الإعلام.

ما يعنينا كصحفيين من كل هذه النقاط المنقولة عن الرئيس أربعٌ، تتماس مباشرةً مع مهنة القلم، وتعتبر منعطفًا إيجابيًا في علاقة مؤسسة الرئاسة بالإعلام، إذا صدقت النيّات ووجدت طريقًا عمليًا لتطبيقها في الممارسات الفعلية. 

الآخرون دائمًا

النقطة الأولى هي رؤية الرئيس لضرورة استيعاب الرأي الآخر واحترامه، وألَّا يكون محجوبًا أو ممنوعًا من الظهور في وسائل إعلام الدولة. إذن هذا اعتراف ضمني بأن المنظومة الإعلامية الحالية تُقصي ولا تستوعب كل الآراء.

هذا الاعتراف فضيلة في حد ذاته، لكنه مؤشر أيضًا أن الخطوة قد تستغرق وقتًا، إذ يجب أن ننتظر فترة مناسبة لنرى مدى استجابة إعلام الدولة، فالاستيعاب لن يأتي بغتة ولن يتنزل على الشاشات وغرف الأخبار والإذاعة، ولن يهبط على الصفحات بمجرد نشرها رؤية الرئيس، وكل هذا مفهوم. 

النقطة الثانية هي دعم النخب الثقافية والكتاب المتميزين، حيث نُقل عن الرئيس تشديده على ضرورة استعادة مكانة الكتاب والمفكرين المصريين في المشهد الثقافي، كما كان الحال في العقود الماضية عندما كانت الصحافة المصرية تحتضن أسماء بارزة مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود.

احترام أصحاب الآراء المختلفة يصب في دعم النخب

لا تنفصل النقطتان سالفتا الذكر عن بعضهما؛ فاحترام أصحاب الآراء المختلفة سيصب بالتأكيد في خانة دعم النخب واستعادة مكانة الكتاب والمفكرين. فليس من المتصور أن يكون التميز نتاج تكرار الرأي وتماثله مع السائد من توجهات، حتى إذا امتلك القائم بالاتصال مهنية وجودة تتيحان له الوصول للمتلقي، دون خوف من سخافة الإلحاح وملل الإصرار على المحتوى ذاته الذي تبثه جميع الوسائط والمنصات. فالمؤكد أن الآراء المتطابقة والصوت الواحد لا يُفسح المجال للتميز بأي حال. 

وليس من المتصور أن تعلو مكانة النخب الصحفية والإعلامية، بينما البلاغات وقضايا النشر تلاحق من يحيد عن الخط المرسوم.

النقطة الثالثة هي إتاحة المعلومات في الأزمات وتطوير أداء المتحدثين الرسميين، وإذا صحت صياغة المسلماني فنحن أمام إشكالية قد تتطلب مراجعةً أو تصحيحًا مستقبليًا. فمطالب الصحفيين وشكواهم الدائمة خلال السنوات العشر الأخيرة ليست عدم إتاحة المعلومات في الأزمات، بل عدم إتاحتها كل الوقت؛ في الأزمات وغيرها، ثم عدم إيجاد سبيل لنشر ما قد يتحصل عليه الصحفي من معلومات بعد كَبَد ومعاناة، وهذا مرتبط بالنقطة الأولى، وهي احترام تعدد الآراء. 

إحساس مؤسسة الرئاسة بوجود مشكلة في أوقات الأزمات منسجم مع ما نقله المسلماني، من تشديد الرئيس على ضرورة إتاحة البيانات والمعلومات فورًا، وتدريب المتحدثين الرسميين على الرد السريع، لأن التأخر يمنح فرصة لنشر معلومات غير دقيقة أو مغلوطة، مما يجعل الدولة في موقف "رد الفعل"؛ لذا، يجب على جميع مؤسسات الدولة إتاحة المعلومات، كما يجب على المتحدثين الإسراع بمساعدة الإعلام.

والحقيقة فإتاحة المعلومات هي خدمة للمسؤول وللدولة، لأن تبصير الرأي العام يصب في صالح المسؤولين ذوي الكفاءة وتكشف الغطاء عن فقراء الموهبة وعديمي القدرات. 

لا للتغييب

نصل للنقطة الرابعة والأخيرة، وهي عن تشديد الرئيس أنه لا يريد "شعبًا مغيبًا" أو "جاهلًا"، بل يريد "شعبًا واعيًا ومثقفًا ومتعلمًا"، مؤكدًا أن الدولة لا تسعى لإلهاء الشعب بقضايا تافهة على السوشيال ميديا كما يثار بين الحين والآخر.

من المؤسف أن مسارات التغييب محفورة كالأخاديد العميقة في الممارسة السياسية والإعلامية على حدٍ سواء، وأنها قد تحتاج لزلازل وبراكين لردم هواتها، كما أن وسائل الإعلام والسوشيال ميديا ساهمت بقدر كبير في تغييب الوعي. 

المفارقة الرئيسية إن الإعلام المصري نفسه في حالة تغييب وجهل بقضايا المواطن منذ سنوات، ويحتاج إلى ثورة معرفة ليعود لممارسة دوره الذي نسيه أو تناساه، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك قريبًا رغم دعوة الرئيس.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.