82 عامًا وقبلها 50 أخرى في محاولات التأسيس؛ هي تاريخ نقابة الصحفيين. وخلال هذا العمر الممتد، جرت كل الألاعيب حتى تدخل النقابة بيت الطاعة، ولا تعود صوتًا لإرادة أعضائها، أو مدافعة عن حقوقهم وحرياتهم، أو رافضة لكل القوانين المقيدة لحرية التعبير، بل منكفئة على نفسها وملهية بمشاكل مصطنعة.
تاريخيًا، وقبل تأسيس النقابة رسميًا، مُورست كل الحيل من قبل سلطة الاحتلال والقصر والحكومات المأمورة والمغلوبة على أمرها بالدس أو الوقيعة أو الإغواء أو الالتفاف، حتى لا يظهر إلى النور رسميًا أي كيان نقابي ينضوي تحته الممارسون للمهنة، الذين كانوا عرضة للاستغلال والقهر والتضييق، لكن محاولات الصحفيين لم تتوقف على مدى خمسين عامًا قبل أن تظهر النقابة رسميًا للنور في مارس/آذار 1941، لتتكلل جهودهم بالنجاح ويتحقق حلمهم في تأسيس كيان نقابي يدافع عن حقوقهم ويحمي مهنتهم!
لذلك، كان تعامي صاحب الفعل الفاضح بإنشاء هذا الكيان الهزلي الذي سمعنا عنه مؤخرًا بديلًا عن النقابة، عن هذا التاريخ، هو الذي وقف وراء موت الفكرة وإعدامها الفوري والعلني وعلى رؤوس الأشهاد، بفضل العقل الجمعي للجمعية العمومية التي اكتسبت جيناتها بالوراثة، وعرفت كيفية الحفاظ على كيانها النقابي، واستنفار الجهاز المناعي لأعضائها لإعدام أي فيروس أو فكرة خبيثة.
محاولات رئاسية فاشلة
تعددت المحاولات لاستهداف النقابة أو استنزافها. مرة تولاها رأس الدولة بنفسه، ومرة تولتها أجهزة الدولة وأدواتها. مرات تمت عبر وسطاء من صغار وتابعين ومنفذين للتعليمات، وكان بعضها محاولات فردية توافرت فيها حسن النية وسوء التقدير معًا، وثبت بتراكم الخبرات أن مردودها سلبي فتم التوافق على الالتفات عنها.
كانت المحاولة الأخطر عندما قرر الرئيس السادات في عام 1979 تحويل النقابة إلى مجرد نادٍ؛ والقضاء عليها ككيان قانوني له حق الدفاع عن المهنة وحقوق الصحفيين. كان السادات بهذا القرار الغريب يُعبر عن غضبه من دور النقابة المستقل، بعد أن رفع نقيبها كامل زهيري شعار "العضوية كالجنسية"، تعبيرًا عن رفضه لفصل الصحفيين المعارضين، الذين هاجموا زيارة السادات للقدس وبدء مشوار التطبيع مع إسرائيل، من عضوية النقابة، مؤكدًا أن الصحفي يُقيَّد في النقابة طبقًا للقانون، ويُشطب فقط إذا فقد شرطًا من شروط العضوية، وليس وفق تعليمات من أحد.
واستنفرت الجمعية العمومية لدعم موقف النقيب، وتضامنت معها قوى كثيرة ممن يقدرون دور النقابة ورسالة مهنة الصحافة. وتحت الضغط ووحدة الجماعة الصحفية خلف نقيبها، وتضامن شيخ الصحفيين حافظ محمود مع النقيب كامل زهيري، وتدخل بعض رجال الدولة من العقلاء؛ تراجع السادات عن قراره.
لكن رغم ذلك لم تتراجع المحاولات، بل ظهرت بعدها بأقل من عام واحد فقط محاولة أخرى في ثوب جديد، بقرار إنشاء المجلس الأعلى للصحافة، الذي كان يستهدف في البداية الاستيلاء على كثير من صلاحيات النقابة، لتصبح كيانًا مهمشًا، لكن صمود النقابة ووعيها نجح في إفشال الهدف، وفرض الإبقاء على الكيان النقابي بكل صلاحياته دفاعًا عن المهنة وحقوق الصحفيين، باعتباره الممثل الشرعي الوحيد لهم، وإن كان هذا الأمر في حينه قد أحدث توترًا كبيرًا. وأعتقد أن رحيل الرئيس السادات، الذي لم يتوقف عناده مع الصحافة والصحفيين، خفف إلى حد كبير من حدة هذا التوتر.
حروب الاستنزاف.. "خش عليه"
لكن بعد هاتين المحاولتين، بدأت ما كان يطلق عليه نقيب النقباء كامل زهيري "حروب الاستنزاف"، التي جرت بالمناوشات والحروب بالوكالة من خلال محاولات فردية على طريقة "خش عليه"، وتم التهديد في أكثر من محاولة بابتلاع النقابة بضم الإعلاميين إليها، ثم دعم كيانات وهمية أو جمعيات توافرت لها بسخاء أموال مشبوهة المصدر، أو تم غض الطرف عن محاولات استغلالها لبسطاء بدفع أموال؛ مقابل إضفاء صفة صحفي على أشخاص يحملون بطاقات تعريف تفتقد للشرعية.
القاعدة الثابتة تؤكد أن مؤسسة النقابة القوية هي التي تقدم، ضمن أدوار أخرى، الخدمات الحقيقية
وللأسف علينا الاعتراف بأن بعض هذه المحاولات شارك فيها بعض الذين ينتسبون إلينا؛ من زملاء غلَّبوا مصالحهم والتعليمات الصادرة إليهم، ولعبوا أدوارًا تستهدف الكيان النقابي في الصميم، وكان آخرها "جبهة تصحيح المسار"، التي أجهزت عليها طلقة واحدة صوبت نحوها في مقتل، عندما أُشير إليها بـ"جبهة تخريب المسار"، فتحول الزخم المصطنع في تجمعها الأول بداخل مؤسسة صحفية كبرى، إلى فضيحة في الاجتماع الثاني، بعد أن خلا من الحضور، وصُوِّرت المقاعد خالية وتم إعلان بيان الإفلاس، وانصرف أغلب الحضور إلى مناصبهم ومواقعهم الجديدة التي كوفئوا بها!
هذه المحاولة كانت هي الأشهر التي جرت في السنوات الأخيرة، بعد حشد قتال كان الأكبر في تاريخ حضور الجمعيات العمومية، التي دُعيت ردًا على اقتحام قوات من الأمن لمبنى النقابة، في واقعة غير مسبوقة، وإلقاء القبض على اثنين من الصحفيين.
وبسبب قهر الرجال ولهفة المشتاقين والطامعين والطامحين في ركوب كراسي الوظائف الزائلة، تصور من خططوا ومن شاركوا في هذه المحاولة، وبعضهم كان له ما له من رصيد مهني ونقابي، أن بإمكانهم توجيه ضربة قاضية للكيان النقابي، لكنها كانت محاولة لحقت بالمحاولات التي سبقتها، وبقيت النقابة شامخة تقاوم وتؤدي دورها. ولم يفقد أعضاؤها، حتى في أحلك الظروف، إيمانهم بها.
أما المحاولة الخائبة الأخيرة لنقابي متدرب نشر على زملائه في نقابة الرأي والحريات بيانًا منفلتًا من قاموس الجاهلية السياسي والجهل النقابي؛ فلن تكون الأخيرة، ولكن جاءت فجاجتها أن مرتكبها حاول أن يُروج لها تحت راية نقابية، وبزعمٍ لم يعد ينطلي على أحد؛ أن الكيان النقابي مجرد مجمع خدمات رخيص، رغم أن القاعدة الثابتة تؤكد أن مؤسسة النقابة القوية هي التي تقدم، ضمن أدوار أخرى، الخدمات الحقيقية التي تحترم فيها أعضاء الجمعية العمومية دون مَنٍّ أو تفضُّل.
كفاح أجيال متراكم
لكن يبقى السؤال: لماذا صمد الكيان النقابي أمام كل هذه المعاول التي حاولت النيل منه عبر تاريخه وفي كل الأوقات؟ وكيف هضمت كل هذه المحاولات، القاسية منها والتافهة، ولفظتها؟
أتصور، بلا ادعاء، أن هذا الأمر ارتبط بالمشوار الطويل الذي خاضه ونشأ فيه الكيان النقابي، حيث وضع كفاح أجيال متعددة لنحو خمسين عامًا، قبل تأسيس النقابة رسميًا، حجر الأساس المتين الذي تجذرت فيه قيمة الحفاظ على الكيان.
وتجلى ذلك أيضًا في التقاليد التي كرسها الأجداد والآباء لتصبح لنا دستورًا غير مكتوب، فقد نجح أعضاء نقابة الرأي، الذين ينتمون لأجيال ومدارس صحفية وفكرية وسياسية مختلفة، أن يدركوا أنهم ينتمون لمهنة واحدة، وأن بينهم ما هو مشترك، وتدربوا ليتعايشوا معه داخل ما يسمونه بيتهم الذي توافقوا على الحفاظ عليه، وأن يخلعوا أرديتهم الحزبية على بابه.
كلُّ ذلك، بالإضافة إلى تراكم الخبرات التي خلفتها معارك الصحفيين دفاعًا عن نقابتهم، وكل المواجهات التي خرجوا فيها منتصرين بفعل تماسكهم ووحدتهم، يُفسر لنا كل هذا النفور من أي محاولة تستهدف النيل من الكيان النقابي، لتبقى الكلمة الخالدة لكامل زهيري، التي طالما رددها على مسامعنا في شبابنا؛ "إللي بيحاول ييجي على النقابة ما بيكسبش".