بينما تُجرى انتخابات نقابة الصحفيين يوم الجمعة المقبل، لاختيار نقيب وتجديد نصف أعضاء المجلس، يُطرح السؤال: لماذا كل هذا الاهتمام التي تفرضه تلك الانتخابات رغم مناخ الإحباط والتراجع وانسداد الأفق العام؟ وما الذي يمكن أن تأتي به؟ وهل لها أن تعيد الكيان النقابي إلى القيام بدوره الذي من أجله قامت في الدفاع عن المهنة وحقوق الصحفيين؟ وهل تملك الجمعية العمومية في هذه اللحظة رفع كل ذلك الركام النقابي الذي اختفت تحته ملامح هذا الكيان العظيم، وأن تبدأ في استعادة ملامحه الحقيقية ودوره الطبيعي؟
كنا نفخر بأن انتخابات نقابة الصحفيين مناسبة لفتح الحوار حول القضايا التي تشغلنا والهموم التي نحملها. وكان نقيب النقباء كامل زهيري يحكي لنا أنه عندما كان نقيبًا للمرة الأولى في الفترة من 1968 إلى 1970، تقدم لمجلس الأمة (البرلمان) بمشروع قانون جديد للنقابة، يتضمن كثيرًا من الضمانات غير الموجودة في القوانين التي سبقته، وتمسك بانتخابات التجديد النصفي لنقل الخبرات بين أعضاء المجلس، ومعها انتخابات النقيب كل عامين ولدورتين متتاليتين فقط، وذلك عكس ما كان سائدًا وقتها في النقابات المهنية الأخرى، التي كانت دورة النقيب فيها لأربعة أعوام.
وكان يرُد على منتقديه والعاتبين عليه من رؤساء تلك النقابات، بأن نقابة الصحفيين وضعها مختلف وتسبق ظروفها في الطموح الشخصي لأي شخص وأي نقيب، وأن مناقشة قضايانا كل عامين غير كل أربعة، وأن وجود جمعية عمومية حاضرة كل عامين يُعمل له ألف حساب، خاصة فيما يتعلق بمصالح المهنة وحقوق الصحفيين، وكل من يفكر في دس القوانين المقيدة للمهنة.
لذلك تفتَّح وعينا النقابي على هذا المعنى العميق، وأصبح هو الذي يصيغ معاركنا الانتخابية.
ولذلك أيضًا أخذت انتخابات الصحفيين معنًى مختلفًا، ودلالة أكبر عن كونها مجرد انتخابات نقابة مهنية، فمنذ 31 مارس/آذار سنة 1941، وهو اليوم المشهود في تاريخ نضال الصحفيين، الذي سبقته 50 سنة من المحاولات، حتى انتزعوا حقهم في إنشاء كيانهم النقابي بصدور المرسوم رقم 10 بإنشاء النقابة.
في ذلك اليوم امتلك الصحفيون حلمهم، وبدأوا مشوار العبور من الدروب الفرعية ومفارق الطرق إلى مسار رئيسي تحولت فيه جهود عدة أجيال إلى رايات من الفعل والمواجهات واجتياز التحديات.
اخلع رداءك الحزبي
قصة طويلة وتاريخ متصل من الكفاح، استطاع الصحفيون خلاله التغلب على العقبات التي واجهتهم وسجلوا صفحات من نور في صمودهم ضد قوى الاحتلال ورجال القصر الملكي الذين دبّروا المكائد ومارسوا كل وسائل التحايل، لرفض الاستجابة لمطلب الصحفيين.
ثلاثة توائم ولدت في مصر معًا أواخر القرن الثامن عشر: الصحافة، والبرلمان، والدستور. هكذا ارتبطت الصحافة المصرية، منذ نشأتها الأولى، بالحركة الوطنية والمطالب الدستورية، وكانت من روافع التحديث في المجتمع المصري.
معركة إنشاء النقابة من أهم معارك الصحفيين المصريين، بعدما انطلقت الدعوة عام 1891، وتكررت المحاولات عدة مرات حتى تقدم رئيس الوزراء علي ماهر في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1939 إلى مجلس النواب بمشروع قانون أعدّه الدكتور محمود عزمي، صدر أخيرًا في 31 مارس 1941 لتتأسس النقابة.
وظل الوعي الجمعي للصحفيين منذ تلك اللحظة يفرق بين انشغالهم بقضايا الوطن من جهة، والعمل الحزبي من جهة أخرى، ولم تسمح الجمعيات العمومية المتعاقبة بتحويل النقابة إلى بوق لأي تيار أو جماعة سياسية، ورفعت شعار "اخلع رداءك الحزبي على باب النقابة".
تكرّست كل تلك المعاني منذ انعقاد أول جمعية عمومية لاختيار أول مجلس منتخب في الجمعة 5 ديسمبر/كانون الأول 1941 بحضور 110 أعضاء من بين 120 عضوًا ضمّتهم النقابة في سنتها الأولى، وحفلت تلك الجمعية بنجوم في الفكر والصحافة والسياسة، منهم أحمد حسن الزيات وجلال الحمامصي ونبوية موسى وفاطمة اليوسف ومصطفى أمين وحافظ محمود وشكري زيدان وفاطمة نعمت راشد- أول امرأة تصبح رئيسة تحرير في مصر.
تحول الكيان النقابي إلى ركام وبقايا أطلال، على أنقاضه نال البعض المناصب وتحته دفنت حقوق الصحفيين
منذ ذلك اليوم وانتخابات الصحفيين تتجاوز جدران المبنى والمهنة. وكانت سفارات الدول الكبرى، خاصةً بريطانيا والولايات المتحدة، يتابعونها من خلال مراقبيهم، يظلون على مدار اليوم وقوفًا ناحية الرصيف المقابل لمبنى النقابة؛ لرصد وقائعها، وحتى إعلان النتيجة.
وفي إشارة واضحة لاستمرار ذلك الاهتمام على مدى العقود الماضية؛ طلب سفراء الاتحاد الأوروبي في القاهرة لقاء النقيب جلال عارف، مرشح تيار الاستقلال، الذي نجح في عام 2003 في مواجهة صلاح منتصر المرشح الحكومي، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يعود فيها لذلك الموقع نقيب ينتمي لهذا التيار منذ عام 1981، عندما كان النقيب وقتها كامل زهيري.
وتركزت كل الأسئلة خلال ذلك الحوار الذي امتد لساعات بإحدى قاعات النقابة، على دلالة هذا الاختيار وانسحابه على مجمل المشهد السياسي. هم يعتبرون أنها انتخابات يشكل جمهورها في مجمله العام قطاعات واسعة من النخبة، الذين يؤخذ نمط تفكيرهم واختيارهم باعتباره بوصلة تشير إلى ما بعد.
الاختبار المزدوج
وأهمية الانتخابات التي تجرى وقائعها يوم الجمعة المقبل؛ أنها اختبار مزدوج لأعضاء الجمعية العمومية والدولة معًا، وذلك لأسباب، أولها أن هذه الانتخابات تأتي بعد أكثر من ست سنوات على واقعة اقتحام النقابة غير المسبوقة، التي كشفت المستور. لأن بعدها تحددت المسارات وتفاعلت، وذهبت المهنة إلى طريق مجهول وتحول الكيان النقابي إلى ركام وبقايا أطلال، على أنقاضه نال البعض المناصب واحتلوا المواقع، وتحته دفنت حقوق الصحفيين وضاعت مهنتهم. وبعد كل تلك السنوات لم تعد تنطلي على أحد كل الأكاذيب التي قيلت لتبرير هذه الجريمة.
أما السبب الثاني، فلأنها، أي الانتخابات، تتم في ظل مناخ الأزمة العام وانسداد الأفق الذي بلغ مداه والبحث عن مخرج، كنا نتمناه مراجعة شاملة، ومقتضيات الحال تجعل الدولة في اختبار.
فهل تغير من نهج التدخلات المعلومة، خاصة إدارة بعض الأجهزة للأمر عبر تعليمات واضحة وصريحة لاختيارات معينة، وهو ما لم يتوقف حتى الآن؟ أم تغل يدها وتترك الأمر لإرادة الصحفيين وحدهم؟
هل بات الوعي الجمعي للجمعية العمومية مدركًا لدوره الاستثنائي في هذه الانتخابات الفارقة، وأن تغيير الحال ليس من المحال، وأن الأمر بيدها وحدها بعد أن خسرت المهنة وسندها النقابي وتم تغييب دورها وطال الخراب بيتهم وانهارت أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، وضاع هامش الحرية الذي انعكس على إغلاق صحف ومواقع والتضييق على أخرى وطالت البطالة المئات؟
هل تنفض قطاعات واسعة من أعضاء الجمعية العمومية، خاصة الكبار منهم، وبعض من الشباب، باعتبارهم أصحاب المصلحة في المستقبل، عن نفسها روح الإحباط واليأس والشعور بعدم الجدوى الذي تعمق لديهم على مدى السنوات الماضية، وتدرك أهمية وضرورة مشاركتها بإيجابية وأن هذه انتخابات عناوينها واضحة وغير ملتبسة؟
لقد أدرك الصحفيون مبكرًا أن الحرية هي معركتهم الأم ومنها تأتي الكرامة والحقوق، وأن حرية الصحافة حق لكل مواطن، وبالتالي لم يكن غريبًا أن يساند الرأي العام وكل القوى الحية الصحفيين في كل معاركهم، دفاعًا عن مهنتهم.
لقد استطاعت قامات نقابية عظيمة أن تترك لنا ما نفخر به وما يستحق أن نحافظ عليه وأن نبني فوقه.
وستبقى سيرة ومسيرة هؤلاء البنائين العظام نبراسًا يضيء للأجيال القادمة من الصحفيين، وروحًا نستلهم منها عظمة المهنة وشموخ النقابة.