حين كان تيار الاستقلال في نقابة الصحفيين يطلب الحرية، الآن وهنا، كان ثمة من يتوهم أن ذلك المطلب مجرد أمنية لمجموعة من الحالمين، لا يعبر عما تريده الأغلبية الباحثة عن منفعة مادية ولو شحيحة، وأنه مجرد مزايدة على ما يتبناه أولئك الذين يتعاملون مع نقابة تقوم على مهنة لا يمكنها أن تبقى وتنمو وتزدهر في ظل الكبت والكتم والقهر والتقييد، على أنها مجرد جمعية استهلاكية، أو مكتب تشهيلات وتسويات وترضيات، لا سبيل أمامها سوى الإيمان بمبدأ "الصمت مقابل الفتات".
ها هي الأيام دارت، والتجربة اكتملت، والخبرة استوت على سوقها، ليتضح للجميع، إلا من قلة تنتفع بما يجري حاليًا، أن الحرية إن ضاعت أو توارت أو تم تأجيل انتزاعها أو اكتسابها والحصول عليها، تحت أي سبب أو حجة أو ذريعة، تردَّت أحوال الصحافة، وضاقت أرزاق العاملين بها، وألقي بهم في ذيل الطابور.
صحافة منكمشة
أيام إتاحة هامش لحرية التفكير والتعبير، كانت الصحف يتتابع صدورها، والمواقع الإعلامية يتوالد حضورها، ومنابر الأخبار والرأي تتناسل أشكالها وأنواعها، فيتسع المجال أمام الصحفيين، وتظهر الفرص أمام كل نابه ومجتهد، فيجد مسارًا لجهده وموضعًا لقدرته ومكانًا لقلمه. فيكتب هنا وهناك، ويحصل على ما يساعده على توفير حياة مناسبة لنفسه وأهله، دون أن يريق ماء وجهه، ويقف تائها حائرًا خائرًا على باب الأعطيات العابرة الرخيصة.
اليوم ضاقت الأرزاق، بل كادت تموت، حين احتُكِرت الصحافة، وزاد الضيق منها والتضييق عليها، وعاد الرقيب من غير تمهل، والحسيب من غير اعتبار لدور الصحافة ومهمتها الأصيلة والأساسية في الكشف والتبصير والتنوير، وتزكية الوعي والمعرفة، وتمثيل الشعب ورفع صوته عاليًا، والدفاع عن المصلحة العامة، وهي أدوار جعلت المصريين يرون في الصحافة "صاحبة الجلالة" و"السلطة الرابعة"، فوثقوا فيها واحترموها، وأقبلوا عليها، فصارت لها مسارب وسيعة للتوزيع والانتشار والتأثير.
إن سيطرة السلطة بإحكام على الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، وإغلاق عشرات المواقع الإعلامية، ومنع أي راغب في فتح منبر إعلامي من تحقيق ذلك، وحبس صحفيين، ومطاردة آخرين، وكسر أقلام أصحاب الرأي أو إجبارهم على الصمت، كلها أمور أدت إلى انكماش الصحافة وتغييبها. ومعها تضاءل دور الصحفيين، وانفض الناس عنهم، وسخروا منهم، وفقدوا الأمل فيهم. وهذا، والله، سهم مسموم نافذ ضرب المهنة في مقتل، وأورث أهلها الذلة والفقر والمسكنة.
وأحد هذه السهام المنقوعة في سمٍّ زعاف كان قيام قوات من الشرطة باقتحام النقابة، واعتقال صحفيين اثنين، للمرة الأولى في التاريخ. بعدها صارت النقابة، مبنىً وحرمًا ومعنىً، مستباحة، وهي مسألة ما كان لها أن تمر مرور الكرام يومها، لكنها مرت للأسف، إذ لم يبذل الصحفيون الجهد الكافي في التضامن مع النقيب ومن رفض الاقتحام من أعضاء المجلس، بل راح بعضهم يبرر للسلطة فعلتها الشنعاء، التي ندفع ثمنها إلى الآن.
حرية الصحافة، ليست رفاهية، بل جزءًا أصيلًا من حقوق الصحفيين وأساسًا متينًا من استحقاق الشعب
الحرية لا الخدمة
لقد بح صوت تيار "الاستقلال النقابي" عبر سنوات طويلة، وهم ينبهون أبناء المهنة إلى أن حرية الصحافة ليست رفاهية، وليست استعلاءً وغطرسة على صاحب قرار، وليست تحليقًا بعيدًا تمامًا عن أرض الواقع، بل جزءًا أصيلًا من حقوق الصحفيين، وأساسًا متينًا من استحقاق الشعب، الذي ينص الدستور على حقه في أن يعرف كل شيء في هذا البلد، لأنه صاحب المال والسيادة والشرعية.
اليوم جاءت الفرصة للصحفيين كي ينفضوا عن أنفسهم كل ذلك الغبار والعتمة بعد أن وعوا الدرس. وأدركوا، أو ازدادوا إيمانًا، بأن الحرية للصحافة كالدم، بل الروح للجسد، وأن المطالبة بصحافة حرة، ونقابة غير تابعة وخاضعة ومستكينة وخاملة وخامدة، ليست بعيدة عن تحصيل أرزاقهم واستقامة عيشهم على قدر من الكرامة والثقة والاقتدار.
إن الانحياز إلى المرشحين الذين يمثلون "تيار الاستقلال" أو إلى كل من يؤمن بأن "الخدمة" لا يمكن أن تكون بديلًا عن "الحرية"، لا يمكن أن يكون تفريطًا في مصلحة، أو جورًا على منفعة، أو استهانة برزق، بل وعلى النقيض من هذا، هو نيل لحقوق الصحفيين دون ذل، وإعلاء لصالحهم دون خسة، ودفاع عن مطالبهم دون اعتلال.
وهو انتصار لصحافة تليق بمصر، أقدم دولة في تاريخ البشرية، فضلها ظاهر في العلم والمعرفة على البشر أجمعين، وأهلها ينتظرون في عشم ورجاء ولهفة وشغف، أن يكون الصحفيون أول من يحمل رسالتهم إلى أهل الحكم وأصحاب القرار، في كل ما تمر به بلادنا من متاعب ومصاعب.
إن نقابة تدافع عن حرية الصحافة، وتنتزع حقوق الصحفيين، وتدافع عن أمنهم وعيشهم، وتساعد في الارتقاء بمستواهم المهني، لهي الأمل الذي يجب أن نعمل له من اليوم، وليس غدًا. ولتكن الانتخابات التي باتت على الأبواب، هي الفرصة العريضة السانحة لنضع علامة قوية راسخة على أول طريق استعادة الحق المهضوم، واسترجاع الدور المُغيَّب، وإنقاذ المهنة من خطر يهدد بقاءها، يزري بأحوال أهلها.
فيا أيها الصحفي الواعي، العارف بمكانه ومكانته، ليكن رأيك من رأسك، واختيارك من نفسك، وانحيازك تعبيرًا صادقًا وأمينًا عن ضميرك الحي، لا سيما بعد أن علَّمَتْك السنوات الأخيرة أن مصلحتك الخاصة والمباشرة مربوطة بالحرية، تدور معها أينما دارت، وتقوم معها أينما قامت، وتضيع منك إن ضاعت.
فلا تقبل بوصاية أو توجيه أو إكراه أو إجبار من أيِّ أحدٍ كان، فالذي يطلب منك الانحياز إلى غير حريتك، والاختيار بعيدًا عن كرامتك، يسلب منك صوابك ويدمِّر بيدك مهنتك التي تعتز بها، بل يسلب منك إنسانيتك، ويتركك ملومًا محسورًا، حين يكون أمامك أن تختار بإرادتك المنفردة الحرة، لكنك تختار ما يُملى عليك، وهذا، والله، خطأ جسيم، وخلل مقيم، وخطل سقيم، أستعيذ بالله سبحانه وتعالى أن تقع فيه، أو حتى أن تحوم حوله، أو يرد يومًا ما على خاطرك.