انتخابات نقابة الصحفيين استحقاق نقابي لكنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة العامة وأزماتها، وبالحريات والديمقراطية وتطورهما في المجتمع.
لذلك فأي قراءة جادة لا يمكنها فهم نتائج انتخابات نقابة الصحفيين التي جرت الجمعة، بعيدًا عن السياسة، ولا يمكن إهمال نتائجها ومؤشراتها ورسائلها المباشرة، تلك التي وجهها الصحفيون لكل الأطراف بصورة حاسمة.
في أجواء غير مسبوقة من الغضب داخل أوساط الصحفيين جرت انتخابات النقابة، وعلى خلفية أحوال اقتصادية ومعيشية صعبة وحصار كبير للمحتوى الصحفي وقيود على المهنة؛ ذهب الصحفيون إلى الصناديق، محملين برغبة عارمة في تغيير طال انتظاره، وبأمل في تحسّن عاجل مطلوب لظروفهم الاقتصادية والاجتماعية ولأحوال مهنتهم، وبإرادة مؤكدة لعودة النقابة من غيابها الكبير، لتصبح رقمًا فاعلًا في معادلة قدرتهم على الكتابة والنشر والدفاع عن مصالحهم.
وربما هي الانتخابات الأولى منذ سنوات التي كان عنوانها الكبير وشعارها الرئيسي هو "الغضب".
نتائج الانتخابات السياسية واضحة ولا تحتاج إلى اجتهاد كبير، وظني أنها وجهت رسائل عديدة لكل الأطراف، لكن هناك ثلاث رسائل كانت الأهم والأكثر حسمًا ووضوحًا في يوم كان تاريخيًا بالنسبة للصحفيين.
حرية الصحافة تنتصر
2450 صوتًا وضعت خالد البلشي، أحد أهم رموز تيار الاستقلال النقابي وأحد أبرز الصحفيين المدافعين عن حرية الصحافة، على مقعد النقيب. وربما كانت هذه المرة الأولى التي تصبح قضية حرية الصحافة حاضرة في الانتخابات على هذا النحو الطاغي، وربما هي المرة الأولى أيضًا التي يرتفع فيها أنين الصحفيين من غياب قدرتهم على الكتابة ورفضهم للقيود غير المسبوقة المفروضة على مهنتهم بهذا الشكل.
هذا السياق صعد بالبلشي من عضو فاعل في الجمعية العمومية يهتم بالدفاع عن حرية الصحافة، إلى الموقع الأهم الذي يحمي المهنة وحريتها، مع الأخذ في الاعتبار المفارقة العجيبة التي التفت إليها الصحفيون في تصويتهم وهي أن النقيب الجديد يرأس تحرير واحد من المواقع المحجوبة، وهو موقع درب المعروف بدفاعه عن الحريات العامة والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين وللمواطنين على السواء.
هذه الرسالة السياسية المنحازة بوضوح للصحافة الحرة تبدو الأبرز والأوضح خلال الانتخابات، وتعيد قضية حرية الصحافة إلى الواجهة مرة أخرى، بعد أن قرر آلاف الصحفيين توجيهها إلى السلطة القائمة بصورة قوية وغير مترددة.
إسقاط الحصار المفروض على النقابة
منذ سنوات قررت السلطة الحالية فرض حصار كامل على المجال العام. هذه القيود غير المسبوقة طالت النقابات المهنية وفي القلب منها نقابة الصحفيين، إحدى أهم مؤسسات المجتمع المدني في مصر.
تمزج نقابة الصحفيين، بحكم طبيعتها كنقابة رأي، بين المهني والسياسي، ويحمل تاريخها دفاعًا عن حقوق أعضائها في بيئة عمل عادلة وعن حق المجتمع نفسه في حرية الرأي والتعبير والاعتقاد وغيرها من صور الاهتمام بالحريات التي حفل تاريخ النقابة العريقة في الدفاع عنها.
وبآلاف من الأصوات التي دخلت إلى صناديق الاقتراع وجه الصحفيون رسالتهم الثانية للسلطة القائمة، اختارت الجمعية العمومية للنقابة بأغلبية كبيرة مرشحي تيار الاستقلال النقابي، بداية من النقيب وحتى أعضاء المجلس الجدد.
غالبية المُنتخبين يوم الجمعة من أنصار رفض تأميم المجال العام، ومن المنادين برفع الحصار عن النقابة، ومن الفاعلين في مجال الدفاع عن حرية العمل النقابي، وهي رسالة بالغة الوضوح في رفض "التكفين" الذي عانت منه النقابة في المبنى والمعنى على السواء، وهي رسالة لها طبيعة سياسية تعلن موقف الصحفيين الرافض لحصار الحياة العامة.
ضرب "الزلزال" المدينة وانتهى الأمر، وفرض الصحفيون إرادتهم بلا تردد
ولما لم يعد الصحفيون قادرون على كتابة هذا الرفض في صحفهم، وضعوه في الصندوق، فكانت رسالتهم في الانتخابات واضحة كالشمس وحاسمة بلا خوف.
الإرادة الحرة تهزم الحشد والتوجيه
مع كل المحاولات التي شهدتها الانتخابات لإجبار الصحفيين على التصويت للمرشحين المحسوبين على السلطة، جاءت النتيجة لتؤكد أن غالبية الصحفيين تجاهلوا كل الضغوط، وانحازوا في التصويت إلى ضميرهم المهني، وشعورهم بأن الواقع السيئ الذي تعيشه المهنة والنقابة لا يجوز أن يستمر.
ورغم الانحياز الإعلامي الفج لمرشحي السلطة، والحشد المصنوع في المؤسسات، وانحياز رؤساء التحرير لهؤلاء، ورغم الأوتوبيسات المحملة بالأصوات والوجبات؛ جاءت النتيجة كرسالة سياسية مباشرة تؤكد أن الأوضاع المهنية والمعيشية ضاغطة بما يدعو إلى التغيير.
هذه الرسالة، في تقديري، تتجاوز النقابة لتصل إلى المجتمع ذاته ورغبته المؤكدة في تغيير السياسات والوجوه على السواء، فاتجاهات التصويت انحازت بشكل مباشر لتيار يحمل هموم الصحفيين على نحو حقيقي، ولا يضحي بهم ويتخذ النقابة سلمًا للترقي والصعود والمصالح الشخصية.
على بساطتها، كانت الرسالة كاشفة لوعي جديد انتشر بين صفوف الصحفيين، وفي أوساط الجيل الشاب الذي يبدو أن قطاعًا منه لا يزال مرتبطًا، رغم كل الإحباط، بحالة التمرد التي سرت في أوصال المجتمع بعد ثورة 25 يناير الخالدة. هذا الوعي هو الذي انحاز بعد سنوات من الحصار إلى الحق الأصيل في نقابة حرة، وصحافة خارج بيت الطاعة، ومجلس يدافع عن المهنة وحريتها، وعن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لهؤلاء الذين عانوا كما لم يحدث من قبل.
ماذا بعد؟
ضرب "الزلزال" المدينة وانتهى الأمر، وفرض الصحفيون إرادتهم بلا تردد، وبات السؤال الطبيعي الآن عن رد فعل السلطة، وعن كيفية تعامل المجلس الجديد برئاسة البلشي معها هو الأهم.
في تقديري أن السلطة الحالية ستتعامل بواقعية مع الأمر الجديد باعتبار أن هناك صعوبة كبيرة في تغييره، وستفتح الأبواب المغلقة قليلًا لتبدأ في تغيبر موقفها، ولو نسبيًا، من حصار المهنة والضغوط التي فرضتها عليها طوال السنوات الفائتة.
لا يمكن أن يستفيد أحد من صدام يقع بين السلطة وإحدى أهم النقابات المهنية في مصر، ولكن ربما يبدأ التغيير من حوار حول فتح مساحات أوسع وسقف أعلى نسبيًا لحرية الصحافة، فضلًا عن تحسين الأحوال المعيشية قليلًا، وهو أمر في حالة حدوثه سينال تقدير الصحفيين وسيدفع المجلس الجديد لمزيد من الانفتاح على الحوار والتفاوض حول القضايا الكبيرة والمهمة، التي حملتها رسائل الصحفيين وقت التصويت في الانتخابات.
وظني أن كل الرسائل السياسية التي حملتها الانتخابات ستكون حاضرة في ذهن المجلس والنقيب الجديد، وهو ما سيدفعهم إلى العمل على إعادة الروح إلى النقابة، وإعادتها كـ"بيت للصحفيين"، واستعادة قيمتها بعد غياب لتكون طرفًا أصيلًا في التعامل مع هموم الصحفيين.
وظني كذلك أن النقيب الجديد سيكون ملتزمًا بخطابه الناضج، والواضح، الذي أسس عليه حملته الانتخابية، متضمنًا إيمانه بالحوار الجاد دفاعًا عن مصالح أعضاء الجمعية العمومية وسعيًا لتغيير واقع المهنة، وهو ما سيزيد من شعبيته التي حصل عليها في الصناديق، وصعدت به إلى موقع النقيب.
الحوار الجاد والصريح بين السلطة والنقابة بات ضروريًا ولازمًا لفتح مسارات جديدة بين الصحفيين وأهل الحكم، هذه المسارات دورها ترجمة الرسائل الانتخابية إلى واقع جديد ومختلف جذريًا عن السنوات الفائتة، ولعل الانتخابات تكون هي البداية لتغيير كبير تستحقه مهنة البحث عن الحقيقة.