لا يمكن لأي متتبع لتاريخ الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل أن يغفل علاقته بدوائر السلطة والحكم، وهي علاقة لم تبدأ فقط مع ثورة 23 يوليو 1952، إذ كان الرجل وثيق الصلة بوزراء ورؤساء حكومات نهاية العهد الملكي، ولم تنتهِ برحيل "صديقه" جمال عبد الناصر عام 1970، بل امتدت مع أسلافه وإن تغيّرت صيغها وتوازناتها.
فكيف نجح هيكل في الاستمرار بالقرب من دوائر صنع القرار لأكثر من 6 عقود؟ وما مصدر قوته وسر انجذاب أهل الحكم أيًا كانت توجهاتهم وسياساتهم إليه؟ وما الذي امتلكه هيكل ليجعل من عارضهم من الرؤساء يسعون للكلام معه وإن لم يتفقوا مع ما يطرحه؟
ذات يوم من مارس/آذار عام 1948، وفور دخوله إلى أخبار اليوم، أُبلغ هيكل بأن مصطفى أمين يسأل عنه، وما إن أطل عليه أمين حتى بادره بالسؤال؛ "أين أنت.. النقراشي باشا يطلب أن يراك الآن". كان هيكل حينها صحفيًا شابًا عاد لتوّه من فلسطين، ونشر مشاهداته للمستعمرات اليهودية واستعدادات الحرب في سلسلة تحقيقات بعنوان "النار فوق الأرض المقدسة"، استرعت انتباه رئيس الحكومة فأراد معرفة المزيد.
هكذا رسّخ هيكل حضوره في دوائر السلطة؛ بعمله الصحفي ومتابعاته والتحقيقات والتغطيات والقصص الصحفية التي نشرها، وعززت مكانته المهنية، وجعلته موضع ثقة يعرف من في السلطة أن لديه ما يخبرهم به.
كان هيكل يرى أن الصحافة هي نقطة تميزه الأهم، وقال ذات مرة للكاتب الشهير يوسف إدريس إنه "يمارس السياسة كصحفي"، وظل وفيًا لكونه "صحفيًا أولًا، عارفًا بأن هذه هي نقطة قوته وتميزه عن الآخرين، وبقي يردد دائمًا، أنا مجرد جورنالجي".
قد يكون هذا مفتاح فهم علاقة هيكل بجمال عبد الناصر ورفاقه في تنظيم الضباط الأحرار، وقد بدأت مبكرًا بعد عودة الجميع من حرب فلسطين عام 1948. أتاح ذلك لهيكل أن يكون الصحفي الوحيد الذي توجه إلى منزل اللواء محمد نجيب ليلة الثورة، ومنه إلى مقر رئاسة هيئة أركان حرب الجيش في حدود الثالثة فجرًا، ليصبح مصدر الأخبار لما شهدته البلاد في تلك الليلة الساخنة.
ورغم صداقتهما المديدة، فإن هيكل لم يكن يؤمِّن كُليًا على ما يصدر من السلطات، بل حافظ على مسافة واضحة بين كونه صحفيًا وكونه مقربًا من السلطة. ينقل لعبد الناصر كواليس ما يجري في مؤتمر باندونج في إندونيسيا ويضع أمامه توجهات الوفود المشاركة، لكنه في الوقت نفسه يتناول في مقالاته تجاوزات أجهزة السلطة، في مقدمتها المخابرات، دون أن يكون آمنًا من المشكلات.
رحل عبد الناصر وجاء السادات، لينشب خلاف كبير بين الجورنالجي والرئيس الجديد، وصل إلى حد القطيعة حتى أقيل هيكل من الأهرام مطلع عام 1974. لكن رغم ذلك ظلت قنوات الاتصال بينهما قائمة.
فعندما نالت احتجاجات يناير 1977 من مشروعية النظام، طلب الرئيس هيكل ليستأنس برأيه، ليشير عليه بأن الحل سياسي وليس أمنيًا. غير أن عناد الرئيس دفعه إلى المضي في الطريق الذي بدأه بعد شهور من الحرب، لينتهي الأمر باعتقال مئات السياسيين والمثقفين والمفكرين، ومعهم هيكل نفسه، قبل أيام من حادث المنصة الشهير.
"قررنا إحياء ذكرى وفاة عبد الناصر الذي يصادف 28 سبتمبر/أيلول، لكن هيكل اعتذر عن إلقاء كلمته واختفى في زنزانته.. أخفى وجهه تحت غطائه واندفع في بكاء حار"، كما يروي الكاتب الصحفي صلاح عيسى الذي صاحب هيكل في سجن طرة.
ويضيف عيسى "في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981 سمعنا خبر مقتل السادات.. ورغم المشاعر المتعددة التي ناوشتنا بعد سماعه، فقد كان هيكل هو الوحيد الذي أغلق عليه باب زنزانته، واندفع مرة أخرى في بكاء عنيف وهو يتلو قول الله عز وجل: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير".
بعد الخروج من السجن؛ استقبل الرئيس الجديد هيكل ورفاقه في القصر الجمهوري، ثم جمعهما لقاء منفرد استمر لنحو 6 ساعات.
مرت علاقة هيكل بمبارك بثلاث مراحل واضحة؛ "الأولى سادتها درجة من إيثار حسن الظن، ترى للرجل الحقَّ في فرصة، والثانية؛ سادتها خلافات طالت معظم سياساته الداخلية والخارجية، أما الثالثة؛ فسادها موقف معارض بغير التباس، فقد ظهر الانفراط والتفريط يجرف كل خصب على أرض، ويزيح حرمة السيادة والشرعية والثروة الثقافية، حتى بدا وكأن مصر تضيع وطنًا وشعبًا وتاريخًا ومستقبلًا".
سقط مبارك في 2011، كما توقع هيكل قبلها بسنوات، وصار مكتبه على نيل الجيزة ومنزله الريفي في برقاش قبلة للسياسيين وشباب الثورة ورجال الحكم، يسمع منهم ويسمعون له.
ثم جرى ما جرى؛ وصل الإخوان للسلطة وسقطوا سقوطًا مدويًا بعد عام. وعقب تجربة الجماعة، راهن هيكل كما غيره من النخب على وزير الدفاع الفريق عبد الفتاح السيسي باعتباره "مرشَّح الضرورة"، القادر على "ضبط إيقاع بلد مضطرب مهدد بالأخطار في الداخل والخارج".
لكن قبل وفاته بأسابيع نهاية عام 2015، بدا الرجل الذي شعر باقتراب الأجل قلقًا على حال مصر، فحذَّر من التخبط والتفكك الذي ضرب الجبهة الداخلية، وأكد أن الدولة تحتاج لإعادة نظر فى أولوياتها، لأننا "لن نتقدم ولن تستطيع مصر تحقيق عائد من مشروعات كبرى دون أن تكون هناك رؤية واضحة.. فالمستقبل يحتاج إلى تصور ورؤية". ختم هيكل بتلك الكلمات جلسته قبل أن يتوجه إلى "دار العودة". قال كلمته ومضى.
لم يسعَ هيكل إلى السلطة، ولم يقترب منها إلا لأنه صحفي يستقي الأخبار من مصادرها. وفي معظم الأوقات سعت إليه دوائر صناعة القرار لتعرف المعلومات التي لم ينشرها، وتُنصِت إلى تحليلاته وتصوراته لأنه "جورنالجي" ذو تحليلات نافذة وصاحب بصيرة، وهذا هو السر الذي جعل الأستاذ يحتفظ بتوهجه، حتى بعد رحيله بسنوات وسنوات.