رغم موجة الطقس السيئ وهطول الأمطار على القاهرة وعدد من محافظات مصر، فإن العدد الأول من مجلة "القطر المصري" الذي نزل الأسواق في صباح 24 أبريل/نيسان من عام 1908 نفد بالكامل، ما اضطر صاحبها ورئيس تحريرها الكاتب الصحفي الشهير أحمد حلمي إلى إصدار طبعة ثانية في صباح اليوم التالي لتنفد هي الأخرى.
نفاد الطبعتين لم يكن لغزًا، فالجمهور المصري كان ينتظر المجلة الجديدة بفارغ الصبر، ذلك أن محررها أحمد حلمي كان صحفيًا ذائع الصيت، بسلسلة تحقيقات حادث دنشواي الشهيرة التي نشرت بجريدة "اللواء" تحت عنوان "يا دافع البلاء"، وكان لها أكبر الأثر في إلهاب المشاعر الوطنية وكشف الصورة الحقيقة للاحتلال الإنجليزي في عهد المعتمد البريطاني اللورد كرومر.
الأديب والمفكر الكبير عباس العقاد كتب عن تحقيقات حلمي التي تناولت ما جرى في دنشواي قائلًا "لا نعرف فزعًا شمل القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه كالفزع الذي شمله يوم قرأ الناس أخبار هذه الفاجعة ونشرتها اللواء بعنوان يا دافع البلاء".
كان حلمي من المبشرين بالحرية والاستقلال المطالبين بوضع دستور للبلاد ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، وكتب في منبره الجديد "القطر المصري" مقالًا بعنوان "هل الذي نطالب به دستور جديد معدوم أم قديم معلوم؟".
بعد ستة أشهر من صدورها تحولت "القطر المصري" إلى جريدة، وفي العدد الأول ترجمت الجريدة مقالًا عن جريدة "العدل" التركية أثار الرأي العام المصري وضغط على أعصاب الأسرة العلوية الحاكمة ووضعها في موضع الاتهام.
"إن الأمة المصرية قادرة على انتزاع السلطة ممن ينكر حقوقها وأن مصر لم تستفد من أسرة محمد علي إلى الآن غير الشقاء والبلاء والظلم والضنك والديون وضياع حقوقها في قناة السويس ووقوعها تحت الاحتلال، لقد جنت هذه الأسرة على مصر.. وأن الأمة المصرية إن لم تأخذ الدستور عطاءً أخذته قسرًا".
انتشر المقال وما جاء فيه من رسائل اتهام مبطنة ومباشرة كالنار في الهشيم، ونفد العدد فور صدوره، وما هي إلا أيام حتى وصل إلى رئيس التحرير أحمد حلمي استدعاء من النيابة العامة التي وجهت له تهم "التطاول على نظام حقوق الوراثة، والعيب في حقوق الحضرة الفخيمية الخديوية، والدعوة إلى قلب نظام الحكم"، فرد حلمي بمانشيت في العدد التالي "الحق أكبر والقضاء أعدل".
وعن تلك الواقعة يقول الصحفي والمؤرخ فيليب دي طرازي في كتابه تاريخ الصحافة العربية، "إن هذه الجريدة التي كان خطها المناداة بالعداء للاحتلال وانتقاد سياسة الأسرة الحاكمة، لم يبق عظيم إلا قرأها وعرفها، حتى أن الخديوي عباس نفسه كان يقرأها خلافا لعادته ولا يطالع سواها من الصحف، وحتى ضباط الجيش، حتى أن حكومة السودان لما قررت منع دخولها إلى البلاد كان الضباط يخفونها في طيات ملابسهم".
خاض حلمي عددًا من المعارك ضد "المعية الخديوية" أزاح فيها الستار عن فساد أسرة محمد علي الحاكمة، فاتهمهم ببيع الأوسمة والرتب للأعيان، وطالب الجيش بالدخول فى الحركة الوطنية، ما أثار ضده غضب الخديوي والاحتلال معًا، فحركا ضده متوالية من الدعوى القضائية.
نشر حلمي في "القطر المصري" سلسلة مقالات أثارت أزمة جديدة تحت عنوان "الوزارة البطرسية"، انتقد فيها فساد حكومة بطرس باشا غالي، ووصفها بأنها "جامحة في غلوها وها قد وصلت بالبلاد إلى منتهى الخراب والدمار والغلاء المستحكم".
وذهب حلمي إلى أن سبب هذا الخراب والدمار هو "حكومة الفرد.. وما أدراك ما حكومة الفرد فهي التي تهزأ بالشعب ولا تحترم إرادته.. وتسعى إلى قتل الناس قتلًا أدبيًا حتى يصبحوا كلابها أو كالأنعام بل أضل.. هي الحكومة التي تسلب الناس أكبر حق منحه الله فتغير على حرياتهم فتسرقها".
وعندما أعاد بطرس باشا غالي العمل بقانون المطبوعات في 25 مارس/آذار 1909، كتب حلمي "إن ذلك البعث ما هو إلا للتضييق على الصحافة الوطنية التي بدأت ترشد وتنتقد أعمال الاحتلال وحكوماته".
رد بطرس باشا غالي في حواره لصحيفة "البروجريه" على انتقادات حلمي قائلًا "الغرض من القانون ليس منع انتقاد الحكومة بصدق وحق. كلا، بل نحن نقابل الصحف التي تظهر للحكومة أخطاءها بالشكر والامتنان"، فكتب حلمي في العدد اللاحق يقول "ما هو الفرق بين التقييد بسلاسل من ذهب أو من حديد؟، أليس التقييد واحدًا على كل حال فهو المانع للترقي والعائق للتقدم".
أيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي وجعلت الحبس سنة مع الشغل، ليصبح أول مصري يحكم عليه بتهمة العيب في الذات الخديوية
ووفقًا لما جاء في كتاب الدكتور إبراهيم عبده "تطور الصحافة العربية"، تزعَّم حلمي إحدى المظاهرات، قُدِّر عدد المشاركين فيها بـ 25 ألفًا من المصريين في 31 مارس/آذار 1909 ضد إعادة وزارة غالي العمل بقانون المطبوعات الصادر سنة 1881.
كانت تلك المظاهرة من المحطات المهمة في تاريخ الصحافة المصرية، فكيف لهذا الصحفي أن يجمع حوله هذا العدد من المواطنين ليشاركوه في الدفاع عن قضية كانت ولا تزال نخبوية؟ من أين أتى بهذا التأثير؟ والجواب أن حلمي اقترب من الناس بما كان يطرحه عليهم، فدفاعهم عن حقوقهم وتصديه لمن يدوس على تلك الحقوق جعلهم يؤمنون به ويلتفون حوله.
على خلفية اتهامه في قضية "العيب في الذات الخديوية"، أصدرت المحكمة حكمًا بحبس حلمي أربعة أشهر مع كفالة قدرها 10 جنيهات، ثم صدر ضده حكم آخر بحبسه 6 أشهر وتعطيل "القطر المصري" وإعدام كل ما يضبط من العدد 37، وأيدت محكمة الاستئناف الحكم الابتدائي وجعلت الحبس سنة مع الشغل، ليصبح أول مصري يحكم عليه بتهمة العيب في الذات الخديوية.
ويقول الدكتور إبراهيم عبده إن صحيفة حلمي راحت ضحية لقانون المطبوعات، ورأت الحكومة أن المقال المترجم الذي نشر عن "العدل" يمس النظام العام فأمرت بتعطيلها.
الابتعاد عن السياسة
وفي سنة 1911 وبعد الإفراج عنه صدر له كتاب "السجون المصرية في عهد الاحتلال الإنجليزي"، وافتتحه بعبارة "سجن الجسم خير من سجن الضمير"، كتب فيه قصته بسجن مصر العمومي وعلاقته بالمأمور والسجناء وعقوبة الجلد.. الخ.، وجاء في مقدمته "جهادنا في سبيل الحرية متواصل وعملنا لنيلها بلا فاصل فلا يخفينا اضطهاد.. فبعدًا لكل حياة بلا حرية لأنها شقاء وبلاء".
بعد محنة السجن ابتعد حلمي عن السياسة، وأسس صحيفة "المشرق" جمع فيها أعمال الأدباء وأصحاب الفكر المستنير، ثم أنشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى صحيفة "الزراعة"، وطالب بتأسيس وزارة للزراعة ونقابات للفلاحين.
تزوج حلمي في مطلع حياته وأنجب أربعة أبناء وكانت زوجته وراءه في مراحل حياته المختلفة، ورزق في حياته بحفيده صلاح من أكبر أبنائه بهجت المستشار بمحكمة الاستئناف، الذي أصبح رسام الكاريكاتير والشاعر الشهير صلاح جاهين.
في نهاية حياته استأجر حلمي مزرعة كبيرة تبلغ نحو ألف فدان في مركز شربين بمحافظة الغربية، ومن الزراعة اقتنى أملاكًا لا بأس بها، فاستأجر مزرعة أخرى في ضواحي القاهرة وسكن مع حماه في الشارع الذي يحمل اسمه في حي شبرا، لكنه مني مطلع الثلاثينيات بخسائر فادحة وتدهورت صحته حتى توفي عام 1936.