هي الأعراف، تلك المنطقة التي تُذكر في القرآن باعتبارها وسطًا يقف فيها من تساوت أفعالهم الحسنة والسيئة بين الجنة والنار، ولو أن لها مُعادلًا سياسيًا دنيويًا؛ لكان عبد المنعم أبو الفتوح.
في ليلة مُعتدلة من ربيع عام 2012، وبينما كان صدر المجال العام رحبًا يسع الجميع، وقف عبد المنعم أبو الفتوح داخل استوديو القناة الفضائية الشهيرة، مُحاطًا بحملة انتخابية لم تُزحزحه حداثة عهد أعضائها بالسياسة عن ثقته في كسب أول مُناظرة رئاسية تشهدها مصر والاقتراب من كُرسي الرئاسة، في مواجه ندٍّ مثقلٍ بالانتماء طويلًا لنظام أزيح لتوه عن حُكم البلاد بثورة شعبية شارك أبو الفتوح نفسه فيها.
وبعد أكثر من ست سنوات، في ليلة باردة من شتاء عام 2018، عندما اختنق المجال العام ولم يعد يسع سوى الصوت الواحد، كان أبو الفتوح نفسه في طريقه من المنزل لقسم الشُرطة مع ستة من قيادات حزبه مقبوضًا عليهم.
بين حُلم الرئاسة في تلك الليلة الربيعية، وكابوس المُلاحقة الأمنية والوصم الإعلامي في هذه الليلة الشتوية التي خيّمت على عاصمة خوّت على عروشها من المُعارضة ونفد صبرها على التعددية، ظل هو بمواقفه وآرائه، عبد المنعم أبو الفتوح المُخلص للمنطقة المُحايدة بين المعسكرات المختلفة، قد يزور هذه المعسكرات وربما يشاركها النشاط، لكن ولاءه يبقى لمنطقته منزوعة الانتماءات، التي لم تُكسبه رضا أحد ولم تعصمه من سخط الجميع.
مُعضلة البُرتقالي
بين ليلة المناظرة الرئاسية إلى لحظة إعلان نتيجة الدور الأول من الانتخابات، لم يكن أبو الفتوح في نظر نفسه والمتحمسين له، مُرشح الجماعة التي كانت لعقود فزّاعة النظام للشعب، وليس ترسًا في ماكينة نظام أسقطه هذا الشعب.
كان، في نظر نفسه وأنصاره، عبد المنعم أبو الفتوح عبد الهادي، مَن حاجج رئيس الجمهورية اﻷسبق أنور السادات، وهو بعد لم يكن إلا طالبًا فصيحًا شُجاعًا بطب "قصر العيني" ورئيسًا لاتحاد طُلاب جامعة القاهرة، مَن تمرّس في العمل النقابي والسياسي، رغم تكرار سجنه أشهرًا عام 1981 ثم من 1996 إلى 2001 ثم أشهر أخرى في 2009، خيار مَن يُريد مُرشحًا ثوريًا مُستقلاً مُعتدلاً لن يخضع لمُرشدٍ ولن يتصالح مع فلولٍ على دماء الشهداء.
انتصر أبو الفتوح حقًا على عمرو موسى في الانتخابات الرئاسية، لكنه حل رابعًا خاسرًا بعد حمدين صباحي والمتصدرَين مُرسي وشفيق. نعم، المنتميين صراحة للضدّين، الإخوان ونظام مُبارك.
الحصان يخسر السباق الانتخابي، بعد أن سحبت المناظرة الرئاسية قدرًا من رصيد شعبيته على وقع خطابه الذي ساده الغموض فيما كان يستوجب الوضوح، كموقفه مثلاً من المجلس العسكري في وقت كانت الجماعة تطمئن العسكريين صراحة على خروجهم بأمان.
أيضًا لم يحسم في حينه موقفًا من أمر يثير الكثير من الجدل والمخاوف؛ تطبيق الشريعة.
حاول أبو الفتوح التزام الحياد قدر المُستطاع كي لا يثير غضب الآخرين؛ فخسر أصوات مَن رأوه مُرشحًا خفيًا للجماعة، ومَن لم ينسوا تحديه للجماعة، ومَن رأوا أنه لن ينتقم لمن دفع حياته ثمنًا لنجاح الثورة، ومَن حمّلوه مسؤولية شقّ الصف الثوري أمام مُرسي و"الفلول".
البُرتقالي، هذا اللون الوسط بين الصارخين الصريحين الواضحين، الأحمر واﻷصفر، اللون المُحايد المُحيّر الذي كان لون لافتات الحملة الانتخابية ﻷبو الفتوح، ومِن بعدها شعار حزبه، هو الفريسة الدائمة للقطبين الأصفر والأحمر، فبينما يتنازعان السيطرة فيما بعد، لن يكون أسهل من تبادل اتهام البرتقالي بالخيانة، فطالما هو ليس معنا، فإنه بالضرورة منتمٍ للآخر.
سياسي في "الأعراف"
بالنسبة للإخوان فإن أبو الفتوح شق صف الجماعة ثم وقف ضد "الرئيس الشرعي"، وبالنسبة للآخرين فإن أبو الفتوح يُخفي انتماءه وولاءه لهذه "الجماعة الإرهابية"، ومن أجل هذا استدعت لحظة القبض عليه كل هذه الشماتة وأشبعت غريزة الانتقام، يجتمع للمرة الأولى أبناء المعسكرين المتحاربين منذ 30 يونيو 2013، البُرتقالي يوحد الأضداد.
هي الأعراف، تلك المنطقة التي تُذكر في القرآن باعتبارها وسطًا يقف فيها من تساوت أفعالهم الحسنة والسيئة بين الجنة والنار، ولو أن لها مُعادلاً سياسيًا دنيويًا؛ لكان عبد المنعم أبو الفتوح أول مَن سيتواجد فيه، وقد تساوى في نظر قواعد جماعة الإخوان ممن يصفونه بـ"الانقلابي" ونظر أجهزة النظام الحالي ومؤيديه من أفراد أو جهات إعلامية يصفونه بـ"الإخواني".
مع أي الفريقين يقف الرجل حقًا؟ الحقيقة أن أبو الفتوح وقد تخلّى- على ما يبدو- بعد درس 2012 عن قليل من حياد البُرتقالي، وبدأ يبثّ رأيه صراحة في الطرفين دون مواربة أو مهادنة، أغضب الجميع.
فلتكن البداية مع رفقاء رحلة العقود، الإخوان المُسلمين الذين انضم إليهم شابًا وتدّرج في ارتقاء سُلّم الجماعة وصولا لعضوية مكتب الإرشاد عام 1987 ولمدة 22 عامًا حتى 2009، قبل أن تُفرّق الخلافات بينهما عام 2011 وتفصله الجماعة من عضويتها بسبب إصراره على الترشح للرئاسة مقابل رفضها الدفع بمرشح.
لم ينس الإخوان انشقاق أبو الفتوح، لم ينسوا تحديه لمرشحهم، لم يشفع له أمامهم أنه صوّت لمُرسي في جولة الإعادة وهنأه بالفوز، تذكروا فقط انتقاده لنظامهم الحاكم ورفض حزبه علانية المُُشاركة في فعالياتهم بل والتشكيك في نزاهة دوافعها، ولسوف يتذكروا أنه شارك في وصمهم ورئيسهم بالفشل.
هل ينسى الإخوان تلك العبارات التي نطق بها أبو الفتوح خلال الأسبوع الذي صدر فيه إعلان عزل أول وربما آخر رئيس منهم؟ هل ينسوا أنه "انقلابي" شارك في مظاهرات 30 يونيو؟ هل سيتعاطفوا مع مَن طالب جماعتهم- في آخر كلامه قبل حبسه الحالي- بالابتعاد عن السياسية؟
من هنا يبدأ الحديث عن الآخرين، مَن يُعاملون أبو الفتوح باعتباره "إخواني حتى النُخاع"، ولن ينطلي عليهم "هجومه الزائف" على الجماعة، حتى لو شاركهم في 30 يونيو، اﻷمر الذي يُنكره الآن مويدو النظام الحالي، ولن يُصدقوا مدحه للجيش ورفض أي تغيير للرئيس الحالي بغير الصناديق.
أوليست تلك التصريحات من موجبات غضب فريق مُشجعي 30 يونيو؟ هل سينسوا أن قائلها هو أبو الفتوح الذي دعا المواطنين للتصويت بـ"لا" في الاستفتاء على دستور 2014، بل ووجه حزبه بإقامة دعوى قضائية تطالب بوقف إجرائه؟ أو أنه مَن عاد ليُطالب بمقاطعة انتخابات 2018؟
لن ينس شعب 30 يونيو أنه عبد المنعم أبو الفتوح الذي ندد بمحاكمة الرئيس الأسبق محمد مُرسي، فيما رأوه "سقوطًا لقناع معاداته للجماعة" أو على اﻷقل تعاطُفًا مع رفيق سابق في الجماعة التي عاشها معها غالبية عُمره السياسي حد كتابة مؤلفا عن تاريخها وتاريخه. اختصارًا، هو مَن يراه الرئيس الحالي- بحسب تسجيل صوتي منسوب له- "إخواني مُتطرف".
عبد المنعم أبو الفتوح، الذي تندّر عليه منتقدوه في 2012 بتعبير "أبو الفتوح ميكس، كل حاجة والعكس"، وهو يحمل على كتفه ستة وستين سنة من بينها أربعة عقود من العمل السياسي، رئيس حزب مصر القوية، صاحب المواقف التي تغضب هؤلاء لحساب أولئك وتُرضي أولئك على حساب هؤلاء، مَن يتقاذف الخصمان تُهمة انتمائه للآخر، فهو "الإخواني" وهو أيضًا "الانقلابي"، هو أبو الفتوح الذي غادر "الأعراف" أخيرًا، لنعرف أن للخروج من المنطقة المُحايدة بُرتقالية اللون باب واحد، يؤدي إلى السجن.