لا أدري إن كان رسام الكاريكاتير أشرف عمر، الذي جُدد الأحد الماضي حبسه الاحتياطي بعد القبض عليه الشهر الماضي، قد قرأ أيًّا من أعمال الروائي المصري وحيد الطويلة أم لا، لكن صورته لم تفارق مخيلتي وأنا أقرأ رواية حذاء فيلليني وما أهدته لي الذاكرة من رواياته الأخرى التي طالعتها من قبل.
فبعد أن أخبرتنا ندى مغيث زوجة عمر أنه منهمك في تعليم سجناء اللغة الإنجليزية، رأيته، مع الفارق في المهمة والدور، في ذلك الرسام الموهوب بطل رواية جنازة جديدة لعماد حمدي، الذي أُجبر على إكمال مسار والده ضابط الشرطة الكبير ليصبح ضابط مباحث. كما رأيته غارقًا في السياق السياسي لرواية باب الليل، ورأيت ندى نفسها تلك الزوجة المضحية المعذبة في رواية كاتيوشا.
قد يكتب عمر سيرة سجنه بعد الإفراج عنه. وقد يتمكن ببعض التحايل والمراوغة والمواراة والمداراة من تسجيل يومياته في محبسه، لكن أيًا كان الوقت الذي سيفعل فيه ذلك، سيجد القراء على الأغلب في نصه أوجه تشابه مع نص حذاء فيلليني الذي صنعه خيال الطويلة، دون ابتعاد عن واقع ما يكابده السجناء الآن تحت وطأة التعذيب الجسدي والعذاب النفسي.
هواجس الانتقام
بطل حذاء فيلليني معالِج نفسي لاقى في السجن صنوفًا من التعذيب، بعد أن أُلقيت في وجهه اتهامات واهية، ليجد نفسه بعد سنوات في مهمة علاج من عذَّبه، بعدما تأصل التعذيب في شخصيته ليصبح اضطرابًا نفسيًا شديد الوطأة، لدرجة أنه كان يمارسه مع زوجته طوال عشرين عامًا.
تطلب الزوجة من الطبيب أن يثأر لأيام تعذيبه، فهذا وحده الذي يشفي غليلها. تفتح له نافذة واسعة للانتقام من شخص تسبب في إيذائه بدنيًا ونفسيًا، إذ لم تفارقه آثار التجربة الأليمة، إنما كانت تداهمه دومًا في كوابيس سوداء مفزعة.
لكن الطبيب لم يجد الطريق سهلًا للاستجابة لمطلب الزوجة، إذ طارده هاجسان: الأول واجبه كطبيب نفسي أن يعالج مريضه ويحفظ أسراره، والثاني أنه لا يريد أن يتحول إلى شخص بشع كريه مثل هذا السجان الغشوم.
وهنا يقول الطبيب لنفسه، وهو منقسم بين رغبة في الثأر، وأخرى في التجاوز والتجاهل والتسامح، "مهما استبد بي الانتقام أو غلبتني شهوة النصر فلا ينبغي أن أراه إلا مريضًا يستحق العلاج ولو لم يستحق الرحمة".
حكت ندى مغيث في نقابة الصحفيين، وكذلك في فيديو، واقعة القبض على زوجها، وكيف أظهرت الكاميرا المثبَّتة أمام البيت وقائع الاعتداء عليه، زجرًا ونهرًا وإيذاءً جسديًا. لم تُراعَ رقته ووداعته كرسام يعزف الموسيقى، وشاب حالم بعالم جديد تسوده الحرية والعدالة، وإنسان مسالم يطلب من الحياة أن تمنحه السكينة.
يختلف من فعل بعمر هذا في الدرجة فقط عن جلاد حذاء فيلليني، وإن كان الأول مدفوعًا، على ما يبدو، بأوامر صارمة بالتنكيل بالرسام الذي كان يقضي ليلته وحيدًا يومها، بينما الثاني يتفنن أكثر في تعذيب المسجون، بعد أن ينفرد به وحيدًا في قبو مرعب.
يجمع بين الاثنين أن كليهما يعتقد أن تعذيب الضحية هو دفاع عن "السيد الرئيس"، حسبما تخبرنا الرواية ذاكرة أسماء مثل صدام حسين ومعمر القذافي. بينما ووفق تخمين كثيرين، كانت الرسوم الكاريكاتيرية المباشرة عن رأس السلطة السياسية في مصر هي التي أودت بعمر إلى الحبس.
يفجعنا وحيد الطويلة حين يستعرض طرق التعذيب وأساليبه وفنونه المؤلمة، مجسدًا إياها في تصرفات هذا السجان المريض، الذي لا يكتفي باللذة التي تمنحها له صرخات المعذبين وتوسلاتهم ولون الدم الذي يسيل من أجسادهم، بل يبحث عنها أيضًا بالتنكيل بزوجته حتى أثناء المضاجعة، ليتحول سرير نومهما إلى زنزانة في قبو.
حتى الآن لا تفيدنا الأخبار الواردة من السجن بأن عمر يلقى ما لاقاه طبيب رواية حذاء فيلليني، الذي كان مجرد النقل من أقبية أمن الدولة إلى السجن بالنسبة له أمنية كبرى، لكن من يعرف رقة مشاعر عمر يدرك أن عذابه النفسي حيال ما جرى له لا يقل وطأة عن العذاب الجسدي لبطل الرواية.
لحظة القبض على عمر، كما أخبرتنا زوجته، شهدت جوانب مما لقيه بطل حذاء فيلليني؛ حيث الركل والجذب والإهانة، وإن عُذِّب الثاني أكثر، لدرجة تهشيم أسنانه ونتف حاجبيه، وركله بالأحذية الثقيلة وتطويق رأسه بغطاء بلاستيكي لتقريبه أكثر من الموت، قبل أن يعيدوه إلى الحياة مرة أخرى، ليُلقى في ثلاجة ليتجمد، ثم يخرج منها مستعيدًا دفء الحياة على مهل.
الشيء الآخر المتشابه بين الاثنين هو ضرورة الرد، لكنه مختلف في نوع الطريقة التي سيسلكها كل منهما في سبيل استرداد ولو جزء من نفسه الجريحة. فبطل الرواية سنحت له الفرصة حين أتى إليه جلاده بعد أن تجرد من كل حول وطول، عجوزًا مريضًا متهالكًا. أما عمر فأتوقع أن يُفرغ طاقة غضبه في رسوم كاريكاتيرية أخرى ضد الاستبداد، وموسيقى حزينة على قدر الألم الذي يسكنه الآن.
خيوط العنكبوت الأمنية
من زاوية ثانية، يقابل عمر بعضًا من أبطال رواية جنازة جديدة لعماد حمدي، الموزعين على ضباط صغار، سجّانون هم أو ضباط مباحث متدرجو الرتب والمهام. يمثلون الوجه الأقل درجة للديكتاتورية، ليثبتوا أنها ليست أفعال فرد واحد، إنما ممارسة ممتدة، تنزل من تصورات وتصرفات هذا الفرد، وتتفرع في شبكة متوحشة يؤمِن كل من فيها بأنه يحفظ للدولة أمنها، ويستحل ويستبيح أي تجاوز في سبيل هذا.
وأبطال هذه الرواية أيضًا سيقابلهم عمر في زمرة مسجلي الخطر، الذين يُستعملون أحيانًا أدوات لتعذيب المعتقلين السياسيين وتهديدهم. ومن هذا التجاور والتفاعل تولد علاقات وحكايات بعضها سجله سجناء في مذكراتهم، وبعضها كتبه أدباء، ليتفقوا جميعًا على أن معاملة السياسيين في السجون أشد قسوة من معاملة الجنائيين.
رغم اختلاف المهمة والمسار، فإن بطل هذه الرواية يهوى الرسم، لكنه أجبر على الالتحاق بكلية الشرطة. ربما كان عمر يفكر قبل احترافه الصيدلة، التي مارسها لفترة من الزمن، أن يحترف الرسم أو الموسيقى. كلاهما شعر باغتراب وظيفي إلى حد ظاهر.
وبينما تقول ندى مغيث إنها فوجئت برسومات كثيرة لعمر أبدعها طوال سنوات فائتة ولم يفرج عنها، يكتشف زملاء بطل رواية الطويلة هذه موهبة الضابط، الذي يرد في الرواية دون اسم، فيلحقون به ألقابًا متعددة مثل "الفنان" و"المجنون" لتصير "فجنون"، كلمة واحدة تجمع بين الكلمتين، وتعبر عن الحالين.
يعكس السياق العام للرواية الحالة التي يعرفها عمر، شأنه شأن كل المصريين، وهي مواجهة صلف "القبضة الموازية"، فعالم عمر الواقعي يشهد وجود تنظيمات أو شركات أمنية، تُسند إليها بعض أدوار الشرطة، ويقول الناس إنها مدخرة أيضًا لمواجهة أي مظاهرات محتملة. أمثال هؤلاء، وإن اختلفت المهمة، موجودون في "جنازة جديدة لعماد حمدي"، حين يساعد بعض مسجَّلي الخطر الضابط في اكتشاف الجرائم، ثم يمارس بعضهم دور الضباط بالفعل، ويندمجون في الدور إلى درجة أنهم يقولون لضباط شرطة تولوا القبض عليهم: نحن الضباط الحقيقيون.
ويتواءم سياق رواية باب الليل مع السياق العام الذي أنتج فيه عمر رسوماته اللاذعة، ففي الرواية تجري الأحداث في آتون ما تصنعه السلطات الأمنية من شبكة علاقات مع عملائها، المنتشرين في المقاهي والأسواق والشوارع. وهم مستعدون لبيع أي أحد، وكل شيء، مقابل منافع قليلة يتلقونها، ويمعنون في بث الفرقة بين الناس، ودفعهم إلى الإحباط واليأس والاغتراب، حتى يفقدوا الثقة في أنفسهم، ومن ثم القدرة على التغيير.
وتقارب حالة أشرف عمر واحدة من زوايا رواية أخرى للطويلة، هي كاتيوشا، إذ تقف ندى مغيث إلى جانبه، تزوره بانتظام في سجنه وتخرج لتكون لسانه، فيعرف الناس طرفًا ليس بالهين عن حاله. وفي هذه المعرفة بعض ما يحميه في الداخل، مثلما دافعت شهيرة عن زوجها رشيد، إذ ضحت بالكثير لتشجعه على أن يصبح كاتبًا متحققًا.
وبينما تتحمل شهيرة مرارات خيانة رشيد، الذي طعنها فجأة حين أخبرها بأنه يحب صديقتها، تتحمل ندى مرارات سجن عمر، الذي ترك لها أشياءه مبعثرة، بينما حضوره الآسر في حياتها يقبض على نفسها، ويشعل فيها الشعور بالحنين والفقد.
أخيرًا تتفق روايات الطويلة مع رسومات عمر في القدرة على الحذف والاختزال، والذهاب إلى المعنى من أقرب طريق. فأي لوحة لهذا الرسام الموهوب تنطق بكل شيء دون مواربة، تبدو باذخة بالمعاني العميقة، وتطرحها في تحدٍّ سافر. وأي رواية للكاتب الموهوب أيضًا تغوص في القيعان البعيدة للشخصيات لتبرز دخائلها، وتطرحها أمام القارئ دون مداراة أو رتوش. لوحات الرسام فيها سلاسة ووضوح، حتى إن لم تصحبها أي عبارة توضيحية، بينما العبارة عند الكاتب هي التي ترسم الصورة، بالوضوح نفسه.
كتب الطويلة رواياته ونشرها قبل القبض على عمر بكثير، لكن الأدب يظل دومًا قادرًا على كشف كل مخبوء ومنسي ومهمل فيما جرى من أحداث سياسية واجتماعية، وكشف كثير مما سيجري، لأنه يمتلك قبسًا من النبوءة، ويمس الآتي من قريب أو بعيد، لكنه في كل الحالات يكون مسًا جوهريًا، يترك الأطراف، وينفذ إلى الأعماق.