تصميم: يوسف أيمن- المنصة
في الأنظمة الاستبدادية تبدو المؤسسات المعنية بتطبيق الديمقراطية شكلية

أحزاب سياسية "مجهدة شوية"

منشور السبت 23 نوفمبر 2024

على الورق، يوجد في مصر أكثر من مائة حزب في الوقت الراهن، أما في الواقع، فإنها كثرة أشبه بالزوابع الصغيرة التي تهب كل منها كلما نشأ حزب جديد، ثم لا يلبث أن يهمد غبارها ويخمد، ولا يترك إلا أثرًا ضئيلًا، ربما فقط في عين من رأى الزوبعة، ومرقت أمامه، لتستقر في زاوية بعيدة جدًا من ذاكرة سياسية مجهدة أو مكبلة بقيود كثيرة.

لا يختلف اثنان على أن وجود الأحزاب ضرورة لحياة سياسية تتمتع بقدر من الحيوية والاقتدار، حيث إنها تعمل، نظريًا، كمدارس للسياسة، تعزز وعي الناس بحقوقهم وواجباتهم، وتربي منهم القيادات التي ستحمل راية العمل العام في المستقبل، وتدفع مطالب أعضاء الحزب ومن ينحازون إلى رؤيته، أو تروق لهم طريقه، ويكون لهم حق النقد والاعتراض، في سبيل ترشيد قرار السلطة التنفيذية، حيال مختلف المسائل المرتبطة بالصالح العام.

ودون حياة حزبية تتمتع بالفاعلية لا يمكن للديمقراطية أن تقوم. ولذا يجب توافر حرية الأحزاب وحقها في ممارسة أنشطتها، بلا قيود ولا تعنت، وغياب أي موانع من قوانين أو إجراءات أو تصرفات تحول دون ذلك، وغير ذلك يجعل وجودها شكليًا، وقد تثير في بعض الأحيان سخرية الرأي العام.

فالحزب في نظر دارسي العلوم السياسية وممارسي السياسة، وكما اصطلح عليه في الديمقراطيات الراسخة، هو تجمع مواطنين يتبنون أفكارًا معينة، تصنع مشروعًا سياسيًا مشتركًا بينهم، يوضع محل تنفيذ، ويسعى للوصول إلى الحكم بوسائل سلمية، وتحمُّل مسؤولية إدارة الشأن العام، عبر نشاط حر ومستمر، بما يلبي مطالب الشعب ويحقق أهدافه ويرعى مصالحه.

ما لا تقوم به أحزابنا

ويقوم الحزب السياسي بعدة مهام، قد يكون على رأسها تكوين الإرادة السياسية للشعب في مجالات الحياة العامة كافة، عبر بناء الوعي ونشر الثقافة السياسية، وبلورة رأي عام معتبر ومؤثر، وتشجيع المواطنين على المشاركة الإيجابية، من خلال قيام الحزب بالاتصال الجماهيري بوسائله العلنية المتعارف عليها، بغية الترويج لأفكاره ومساره.

وهنا ينظم الحزب الاجتماعات والمؤتمرات العامة داخل مقراته وخارجها، بلا تدخل إداري أو أمني، ويكون من حقه التواصل مع مختلف التجمعات السكانية والنقابية، مهنية كانت أو عمالية، في كافة أنحاء البلاد، وبحرية ويسر وأمان.

هل تقوم الأحزاب السياسية في مصر حاليًا بهذه المهام أو تلك الوظائف؟

كما تطلق الأحزاب السياسية برامج التدريب والتثقيف بمجرد إخطار السلطة التنفيذية بذلك. ويمكنها للقيام بهذه الأدوار أن تستخدم قاعات الاجتماعات والمؤتمرات والساحات والمنشآت الرياضية المملوكة للدولة مقابل رسوم رمزية.

وللأحزاب السياسية حق في تنمية مواردها المالية سواء من خلال الدعم الذي تقدمه الدولة أو التبرعات والمساهمات المحلية، مع الالتزام بالإفصاح عن مصادر التمويل، والشفافية في تبيان أوجه الإنفاق، وعدم جواز الإفصاح عن العضوية الحزبية في الوثائق الرسمية.

وهنا يجب أن نلفت الانتباه، ومن واقع الممارسة السياسية في مصر، إلى ضرورة وجود مساواة في المعاملة بين مختلف الأحزاب الشرعية في الحياة السياسية، وعدم التمييز بينها على أي أساس، ولا سيما مدى اقتراب الحزب من السلطة التنفيذية، أو تعبيره عنها، أو ارتباط مصالحها به.

كذلك، يتولى الحزب بناء الكوادر السياسية القادرة على إثراء الحياة العامة بعناصر كفؤة، ورجال دولة يمكنهم النهوض بأعباء إدارتها وقت تحملهم المسؤولية. فالأحزاب مدارس للسياسة، ومصانع لممارسيها، وهذا أحد أدوارها المهمة، الذي يجب أن تقوم به دون عراقيل أو عقبات.

ثم إن من أدوار الأحزاب إيجاد تفاعل خلَّاق ودائم بين الشعب ومختلف سلطات الدولة، عبر قنوات مؤسسية مشروعة، تعمل على تجميع الآراء والمصالح، وعرضها طوال الوقت حتى يأخذها صانع القرار ومتخذه في الاعتبار. فأحزاب المعارضة جزء أصيل من النظام السياسي، وهي قاعدة يجب أن تكون حاضرة في أذهان القائمين على السلطة التنفيذية طوال الوقت.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل تقوم الأحزاب في مصر حاليًا بهذه المهام أو تلك الوظائف؟ أم أنها مجرد بيوت سياسة محاصرة ومكبلة، ترضى بالفتات المتاح الذي تلقيه لها السلطة، وتنكمش وتتمدد على قدر المساحة التي تفتحها هذه السلطة أمامها؟

المنابر وقد أصبحت أحزابًا

في الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعود قليلًا إلى الوراء، لنبدأ من سياسة المنابر التي أطلقها الرئيس الراحل محمد أنور السادات، موزعًا إياها على اليمين واليسار والوسط، ثم التجربة التي اتسعت قليلًا في ثلاثة عقود حكمها الرئيس الراحل أيضًا حسني مبارك، لنرى أنها في الحالتين لم تتح لها فرصة القيام بمختلف مهامها، وعلى رأسها طرح بديل حقيقي للسلطة القائمة، باعتبار أن غاية أي حزب سياسي هو الوصول إلى الحكم، لتنفيذ برنامجه، بواسطة رجاله على وجه الخصوص، وبعض المتحمسين لأفكاره أو من لديهم الاستعداد للعمل معه من رجال الإدارة أو التكنوقراط.

على هذه الحال الصعبة تدخل الأحزاب المصرية الانتخابات المقبلة بلا أي أفق أمامها

ولدت الأحزاب السياسية المصرية في عهد ما بعد يوليو 1952 ولادة مبتسرة على يد السلطة السياسية المتحكمة في أنفاس السياسة ونبضها، وأُريدَ لها أن تكون ديكورًا يغلف إجراءات وممارسات من القمع والقهر السياسي المتواصل، الذي تحميه قوانين استثنائية وتقاليد سلطوية تتسم بها نظم الحكم المستبدة والشمولية، على رأسها نسف فكرة تداول السلطة وكراهية التعددية السياسية، إلى جانب عدم الاعتناء بالقاعدة التي تقول إن السياسة في أحد جواهرها هي إدارة الاختلاف بطريقة سلمية.

وخلقت ثورة 25 يناير 2011 فرصة للأحزاب السياسية كي تنهض من سبات طويل، وتمارس دورًا حقيقيًا، بعد أن انتزع الشعب حريته واقتداره السياسي لثلاث سنوات على الأقل، لكن هذه المدة، القصيرة جدًا في عمر الأمم، مرت هباء، لتضيع فرصة قيام حزب أو عدة أحزاب أو ائتلاف حزبي قادر على جذب الجمهور، وتكتيل المصالح، والضرب بشدة على يد سلطة مدفوعة بالغريزة إلى الانفراد بالقرار، والتحكم التام في مقاليد الأمور جميعًا، بدءًا من تعبئة الجماهير إلى سن القوانين والتشريعات، وإدارة المال العام، وتسيير الجهازين الإداري والأمني للدولة.

والآن، ومع سلطة تعتبر الاختلاف السياسي، الذي هو سنة الحياة الديمقراطية، خلافًا بل شقاقًا وتهديدًا لإجماع قسري بدعوى تثيبت أركان الدولة وصيانة أمنها القومي، ضاقت المساحات المتاحة للأحزاب السياسية،  وسُحبت كثير من الأبسطة من تحت أقدامها، ولم يعد أمامها من سبيل تحافظ به على وجودها الباهت المنكسر سوى مجاراة السلطة، وإلحاق نفسها بها، بحثًا عن اعتراف أو بقاء أو منفعة، لا سيما أن الجمهور المصري أدبر عن السياسة بعد إقبالٍ عليها، وعاد ينظر إلى الأحزاب السياسية بعين الريبة، لا سيما في ظل صمتها على ما يجري، أو لهاثها إلى نيل أي مكسب سياسي لكبار أعضائها.  

عانت الأحزاب في مصر حصارًا شديدًا، حيث لا تتوفر لها فرصة التواصل مع الجمهور، ولا المنابر الإعلامية التي تجعلها قادرة على إيصال رؤيتها إلى نطاق جماهيري واسع، ولا التمويل الذي يمكنها من أداء دورها، ولا حتى فرصة الدخول في تجربة برلمانية حقيقية، أو قدرة على تجنيد كوادر من الشباب تجدد بها شبابها.

على هذه الحال الصعبة تدخل الأحزاب المصرية الانتخابات البرلمانية والمحلية المقبلة، ولا يبدو هناك أي أفق مفتوح أمام قادتها وكبار أعضائها سوى انتظار ما تجود به السلطة السياسية عليها من مواقع ومواضع ومنافع، ستفيد بعض المنتمين إليها، دون شك، لكنها ستكون بالضرورة خسارة أخرى للحياة العامة في مصر.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.