انتظر المصريون مع التعديل الوزاري الأخير تغييرًا واسعًا وعميقًا، ليس فقط على مستوى الأشخاص، إنما أيضًا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لكنَّ استمرار مصطفى مدبولي، واختياره فريقًا من أصحاب الثقة، وكذلك بعض التغييرات التي جرت في الجهاز الإداري للدولة في مستواه الأعلى، جعل أمل التغيير يتبدد.
إن مصر تحتاج الآن، بشكل سريع، إلى أن تنتبه السلطة إلى الإنتاج في الاقتصاد، والانفتاح في السياسة، وتحقيق الرضا في الحياة الاجتماعية، ورؤية ناجعة في مجال التعليم والثقافة. وهذا ليس صعبًا، إن كانت هناك نية صادقة لسد الهوة بين الشعب والسلطة السياسية في قابل الأيام.
تحتاج مصر أيضًا إلى فتح شرايين الحياة السياسية، والإيمان بتلازم السياسي والاقتصادي؛ تجمعهما ضفيرة واحدة. فأي مشروع للتنمية لا يتم في ظل فهم وتقدير رأي منتقديه ومصححي مساره، أو يجري دون سياق سياسي يحترم الحريات العامة وحقوق الإنسان، ويجعل المجتمع المدني، خصوصًا النقابات المهنية والعمالية، حرًا مستقلًا، أو ينفذ دون اعتبار لأهمية استقلال القضاء، فسيتعثر دون شك.
وإذا كانت مصر تستهدف جلب استثمارات كبيرة ودائمة، فإن هذا لا يمكن له أن يكون في ظل قيود سياسية وإدارية ظاهرة، يشكو منها المستثمرون على المستويين المحلي والخارجي، ناهيك عن حزمة تشريعات وقوانين وممارسات بيروقراطية معوقة.
كان هناك من يعوّل على الحوار الوطني في إنهاء هذا الجمود السياسي، لكنه لم يفِ إلى الآن بهذا الغرض، ولم يحقق الهدف الذي أرادته بعض المعارضة حين شاركت فيه، وهو إنهاء الانفراد بالقرار، أو وضع حد لصم الآذان عن الأصوات المختلفة، أو التوصل إلى برنامج عمل متكامل للدولة المصرية في السنوات المقبلة.
نتمنى أن يدرك الحوار الوطني هذه الأمور، فيتلافى العيوب التي وقع فيها، ويكون رافعة لحياة سياسية تتمتع، ولو بقدر نسبي، من الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان. والأهم هو فتح صفحة جديدة بين النظام الحاكم ومعارضيه ومنتقديه والمختلفين معه، ممن يرون المسار السلمي، أو التنازع وفق الدستور والقانون، هو الحل.
هذا العيب الكبير صنعه غياب الفهم الطبيعي للسياسة باعتبارها إدارة للاختلاف لا منعه وقمعه
تعاني مصر من مشكلة معقدة جدًا، لها جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فيها من الرواسب التي تراكمت على مدار عقود وورثتها السلطة الحالية، ومعها ما صنعته هذه السلطة من مشكلات.
وأعتقد أن البدء بالسياسة في أي مشروع لعلاج الأزمة التي تمر بها البلاد سيكون الاختيار الصائب، فغياب السياسة أو موتها قاد إلى تعميق بقية المشكلات، ولذا فإن أي مسار للخروج يجب أن يبدأ بأصل المشكلة، وهو السياسة، التي من الضروري أن تعود إلى الحياة المصرية، سواء على أكتاف الأحزاب السياسية، أو الصحافة التي تتمتع بقدر مناسب من الحرية، أو الدور المهم الذي تلعبه الشخصيات العامة في المجتمع.
نحتاج أيضًا إلى إنهاء هذا التطابق المعيب بين السلطة والدولة، أو بين الحكومة والوطن، وهي من الآفات أو المعضلات المزمنة في الحياة السياسية المصرية. فحين تعترض على أداء السلطة، أو أفعال الحكومة، يتم النظر إليك باعتبارك خارجًا على الإجماع الوطني، أو تعمل ضد الدولة، بل يصفك بعض أتباع السلطة بأنك "عدو الدولة" أو "خائن للوطن".
ومع أن التعريف البسيط للدولة يجعل الشعب هو الأساس، فإن الدولة تُختزل في السلطة التنفيذية، والأخيرة تُختصر في شخص الرئيس. ويظن من يفعل ذلك أنه يفيد هذه السلطة، بينما هو يعمل ضدها في حقيقة الأمر. هؤلاء هم الدببة التي تقتل أصحابها.
هذا العيب الكبير صنعته بعض الرؤى الضيقة للسلطة نفسها، أو الصوت الزاعق لمنافقيها، وغياب الفهم الطبيعي للسياسة باعتبارها تقوم على إدارة الاختلاف، وليس منعه أو قمعه. ولا حل للمعضلة سوى بفهم أن المجتمع، أي مجتمع، ليس سلعًا تتشابه في مادتها وشكلها، إنما هو مصالح متعددة، وخطابات متنوعة، واتجاهات مختلفة، ولا ضير من هذا التوزاي والتنافس، المهم أن يتم بطريقة سلمية، ويرمي في النهاية إلى دفع دفة الأوضاع كافة إلى الأمام.
لا ينكر أحد أن مصر تفادت في العقد الأخير بالذات الوقوع في حرب أهلية، أو اضطراب اجتماعي ظاهر وعنيف وواسع، وهذا يعود في نظري بالأساس إلى طبيعة المصريين، التي تأبى الفوضى، وتنفر من التشرذم، وقبلها حالة التجانس والتناغم الاجتماعي التي تحول دون انقسامات رأسية عميقة على أساس الدين أو المذهب أو الطائفة أو العرق أو الجهة أو اللغة.
إن مصر المطمئنة هي هبة التكوين الاجتماعي المصري الراسخ عبر تاريخ طويل. وهذا مزية لا يجب التفريط فيها، ولا السماح باهتزازها بسبب صراع حول السلطة، أو تفاوت اجتماعي رهيب، أو سوء أحوال اقتصادية.
وحتى يستمر هذا الاطمئنان لا بد من حل معضلة الجماعات السياسية الإسلامية بطريقة مختلفة، أو وفق علاج طويل الأمد وناجع، يتم فيه الإنصات إلى صوت هؤلاء الذين يؤمنون بأن مواجهة الفكر لا تكون إلا بفكر مغاير أو مختلف، وأن قمع الأفكار سيقود إلى تمسك معتنقيها بها، والدفاع عنها، حتى لو كانت معيبة أو خاطئة أو خطرة على المجتمع، أو معيقة للتنمية والتقدم.
وقمع الحركات السياسية الإسلامية ليس حلًا طبيعيًا، وهو إن أدى إلى تأمين السلطة السياسية أو استتباب الأمر لها بعض الوقت، فإنه سيعود ليشكل عبئًا شديدًا على الحياة السياسة في المستقبل. فالتيار السياسي الإسلامي لا يمكن شطبه أو استئصاله من الحياة الاجتماعية، ولذا فإن فتح هوامش لمحاورة الراغبين في "الحل السلمي" وليس بالطبع من يريدون حمل السلاح، هو عمل مهم، بل واجب ضروري.
الأهم من كل هذا أن تمتلك السلطة السياسية أو الدولة الآن مشروعًا وطنيًا جامعًا متفقًا عليه إلى حد كبير، يلفت انتباه الأغلبية الكاسحة من المصريين، ويجمعهم حوله، ويدفعهم إلى العمل من أجله، فهذا وحده الحل الناجع المستديم.