فجأة ودون أي مقدمات، صدر بيان مقتضب من مجلس أمناء الحوار الوطني يعلن فيه "رفع كافة الجلسات وتعليق عمله لحين انتهاء انتخابات الرئاسة"، وذلك "حرصًا من مجلس الأمناء على توفير المناخ الإيجابي الملائم لكل الأطياف المشاركة في الحوار للمساهمة بحرية كاملة في هذا الاستحقاق الدستوري الأرفع، دون تأثر أو تأثير عليهم بمجريات الحوار الوطني، وتأكيدًا على بقاء الحوار على مسافة واحدة من المترشحين كافة في الانتخابات الرئاسية الوشيكة".
وسبب المفاجأة، وأنا هنا أكتب بصفتي مقرر مساعد للجنة الأحزاب السياسية في المحور السياسي، هو أنَّ ما بلغني قبل أيام فقط من ذلك القرار أننا بصدد الانتهاء من أعمال كافة اللجان والخروج بالتوصيات، على أمل أن تمثل وثيقة يلتزم بها من سيفوز في الانتخابات المقبلة، باعتبارها نتاجًا لمناقشات موسعة استمرت ما يزيد عن أربعة شهور، وقبلها نحو عام من التحضير والإعداد.
نعرف طبعًا أن جلسات الحوار أسفرت منذ نحو شهر عن مجموعة من التوصيات التي أثارت لغطًا عندما اعتقد البعض أنَّ إصدارها معناه انتهاء الحوار، خاصة بعد أن أعلنت رئاسة الجمهورية على الفور ترحيبها بها والعمل على تنفيذ ما يمكن منها. ولكن مجلس الأمناء سارع إلى توضيح أن تلك توصيات "المرحلة الأولى" فقط، ولكنَّ عمل اللجان مستمر لمناقشة بقية القضايا والخروج بالجزء الثاني من التوصيات، التي كان متوقعًا أن تشمل أمورًا هامة في المحور السياسي تتعلق بالحقوق والحريات، من ضمنها الحبس الاحتياطي وحرية الرأي والتعبير.
عمليًا أنهينا عملنا، ولم يعد هناك ما يستدعي مطَّ الحوار أو استئنافه بعد الانتخابات
وحتى توصيات المرحلة الأولى لم تحظَ بالرضا التام من أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية؛ لأنهم لم يطلعوا عليها مسبقًا، ولأنها اقتصرت على قضايا لا تمثل أولويات ملحة، فمن المؤكد أن مهرجان الحوار لم ينعقد من أجل قانون جديد للتعليم وآخر للوصاية على الأطفال، ولا لإنشاء مفوضية لمكافحة التمييز واعتماد قانون لن ينفذ لحرية تداول المعلومات.
بعد ذلك، توقفت جلسات الحوار لبعض الوقت، لظروف عطلات الصيف، حتى أُبلِغنا في نهاية الشهر الماضي بالعودة للجلسات العامة وورش العمل المغلقة، على أمل الإسراع في الانتهاء من أعمال الحوار والخروج بالتوصيات.
وبالفعل شاركت في جلسة مفتوحة لمناقشة المعوقات التي تواجه الأحزاب السياسية في مصر والتعديلات المطلوبة على قانون الأحزاب، واختصاصات لجنة شؤونها التي يشكلها قضاة، وكذلك قضية تمويل الأحزاب ونشر ثقافة التعددية.
وبعدها بأسبوع واحد فقط، شاركت في ورشة عمل مغلقة على عدد محدود من ممثلي الأحزاب المؤيدة والمعارضة إلى جانب خبراء، من أجل الانتهاء من التوصيات، وصدر بيان بذلك من الأمانة الفنية للحوار. كذلك كان الحال في اللجان الأخرى للمحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي عقدت جلسات موسعة وأخرى مغلقة.
أي أننا عمليًا أنهينا عملنا، ولم يعد هناك ما يستدعي مطَّ الحوار أو استئنافه بعد انتخابات الرئاسة.
هدف غير معلن
لن أخوض في جدل نظري بشأن من يُتوقع فوزه في الانتخابات المقبلة التي يُنتظر أن تتم "كلفتتها" والانتهاء منها على عجل، سواء بدعوى ضرورة الالتزام بالمواعيد الدستورية المتعلقة بالإشراف القضائي على الانتخابات، أو بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة، وخشية الأجهزة الأمنية من أن يتم استغلال الانتخابات لإثارة اضطرابات داخلية تهدد الاستقرار.
ولكنَّ القول بأن مجلس أمناء الحوار يرغب في الوقوف "على مسافة واحدة" من كل المرشحين كمبرر لتعليق الحوار، أمر يصعب تصديقه، مع الوضع في الاعتبار أن الجميع يعلم أن تلك التوصيات موجهة للرئيس السيسي.
من المعروف أن دستور 2014 ينص بوضوح على أن تتولى الهيئة الوطنية للانتخابات، بتشكيلها القضائي، الإشراف على عمليات الاقتراع التي تشهدها مصر على مدى السنوات العشر التي أقرها الدستور، أي تحديدًا حتى 18 يناير/كانون الثاني 2024. وربما يكون هذا هو السبب الرئيسي وراء الترحيب الرسمي بما قيل إنه مطلب الحوار الوطني، بإخضاع الانتخابات المقبلة للإشراف القضائي الكامل، في حين أن ذلك المطلب لم يكن من ضمن أولويات المعارضة.
الهدف غير المعلن للحوار الوطني منذ الدعوة لانطلاقه في "إفطار الأسرة المصرية" عام 2022، كان أن يقوم الرئيس السيسي، بعد إعادة انتخابه لفترة ثالثة، بإجراء مجموعة من الإصلاحات السياسية المطلوبة بشكل عاجل بعد نحو تسع سنوات عجاف من السياسة، بحجة أن الأولوية الآن لمكافحة الإرهاب وإجراء إصلاحات اقتصادية هيكلية.
وتصورت، مع آخرين، أن المسؤولين عن إخراج حملة الرئيس سيقيمون احتفالًا جماهيريًا يعلن فيه السيسي تسلمه توصيات الحوار واعتمادها كبرنامج انتخابي له بعد نجاحه.
كنت أتمنى أن ينتهي الحوار بتعهد من السيسي بعدم تعديل الدستور سعيًا لفترة رئاسية رابعة
ولكنَّ تعليق جلسات الحوار الوطني فجأة لا يمكن أن يعني سوى أن الداعين له لم يرغبوا في إلزام الرئيس بالمزيد من التوصيات التي ستصدر عن لجانه المختلفة، خاصة فيما يتعلق بملف الحريات السياسية. وذلك يعني عمليًا انتهاء الحوار الوطني دون أن يحقق الهدف الرئيسي المرجو منه، وبمعنى آخر "باي باي الحوار الوطني".
نهاية مفتوحة لحوار بلا نتائج
رأى كثيرون أن مشروع الحوار الوطني فقد زخمه مع طول أمده بلا نتائج ملموسة وفورية فيما يتعلق بفتح المجال العام، وتخفيف القيود المفروضة على العمل السياسي ووسائل الإعلام، ودون تحقيق أهم مطالب أحزاب المعارضة؛ الإفراج عن كافة السجناء الرأي، والتوقف ابتداءً عن سجن وملاحقة من كتبوا آراءً معارضة أو ناقدة على السوشيال ميديا، بجانب رفع الحجب عن المواقع الصحفية وفتح وسائل الإعلام أمام مختلف التوجهات، بدلًا من استخدامها كأداة للدعاية للنظام.
ولم تنجح الأحزاب المعارضة كذلك في الحصول على تعهِّد بتعديل قانون الحبس الاحتياطي، أو نظام القائمة الانتخابية المطلقة المغلقة، التي تجعل نتائج الانتخابات البرلمانية معروفة مسبقًا، لصالح نظام القائمة النسبية.
كما أن الإسراع في عقد الانتخابات الرئاسية، رغم أن الدستور يُلزم أن تبدأ إجراءاتها قبل 120 يومًا "على الأقل" من نهاية مدة الرئيس التي يبدأ احتسابها من تاريخ إعلان فوزه؛ 2 أبريل/نيسان 2018، يعني غياب أي نية لمنح مرشحي المعارضة فرصة جمع التوكيلات المطلوبة، أو الترويج لبرامجهم في حملات انتخابية مناسبة، ليتمكنوا من منافسة المرشح/الرئيس الحالي، الذي يحظى بدعم كل أجهزة الدولة.
لم أكن من المتفائلين أساسًا بأن الحوار الوطني وحده سيمثُّل أداةً لتحقيق الإصلاحات العاجلة المطلوبة، خاصة مع إقرار المشاركين في بدايته بأن ما سيصدر عنه هو "توصيات" سيدرسها الرئيس لتطبيق ما يراه مناسبًا منها.
وذلك هو نفس ما جرى مع "الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان"، التي استغرق إعدادها عامًا كاملًا، وخرجت قبل سنتين بتوصيات عديدة، لو تم تطبيقها لما كنا بحاجة للحوار من الأساس. ورغم ذلك، وافقت على المشاركة أملًا في تحريك المياه الراكدة، ولمنح فرصة لأحزاب المعارضة للعودة لممارسة نشاطها بعد سنوات التجميد، والأهم لاختبار نوايا السلطة في اتخاذ إجراءات حقيقية نحو الإصلاح السياسي.
أما هذا الإعلان المفاجئ عن تعليق الحوار، فمعناه عمليًا نهايته دون تحقيق النتيجة البسيطة المرجوة منه؛ وجود توصيات قد تشكل برنامج عمل يسعى الرئيس لتنفيذه في فترته الثالثة، كنت أتمنى أن تتضمن تعهدًا من سيادته بعدم تعديل الدستور مجددًا، سعيًا وراء فترة رابعة تمتد لما بعد 2030.