مضى عام كامل على بدء الجلسات النقاشية للحوار الوطني الذي دعا له الرئيس عبد الفتاح السيسي في أبريل/نيسان 2022. بدأ الأمر كدعوة لإجراء حوار سياسي مع كافة القوى دون تمييز، قبل أن يتشعب الحوار ليتضمن محاورَ سياسية واقتصادية واجتماعية، تندرج تحت كل منها عدد من القضايا والمشكلات التي تنتظر حلولًا وقرارات.
وبعد عام كامل من الحوار الذي اعتبره القائمون عليه طريقًا نحو الجمهورية الجديدة، وبحثًا عن مساحات مشتركة، لا يزال تطبيق مخرجاته متعثرًا. بل إن المسار نفسه معطل أو متباطئ، رغم توجيهات الرئيس في كلمته خلال أداء اليمين الدستورية باستكمال الحوار، ورغم عقد حوار اقتصادي بناء على طلبه، واجتماع مجلس أمناء الحوار في 9 مارس/آذار الماضي لاعتماد التوصيات الخاصة بالاقتصاد، فإنها لم تخرج للنور.
المكسب الوحيد
بدأ الحوار مرحلته الأولى في مايو/أيار الماضي، مصحوبًا بزخم إعلامي سمح به القائمون على الحوار الوطني، تزامن معه تعطش السياسيين والأكاديميين والخبراء المدعوين للحديث، بعد أعوام من انسداد قنوات النقاش، وانغلاق وسائل الإعلام، لا سيما المحسوبة على الدولة، على الموالين للسلطة وحدهم.
ساهم الزخم الإعلامي في إفساح المجال لخطاب جديد، لم يعتده المواطن منذ بدء إجراءات سيطرة الدولة على الإعلام، وتلاقت إرادة المشاركين في الحوار ورغبتهم في الحديث، مع اتجاه القائمين عليه في خلخلة حالة الانسداد، فامتدت المناقشات، على الهواء وفي الصحف، لقضايا متعددة تضمنت بعض المحرمات السياسية، خاصة تلك المرتبطة بملف حقوق الإنسان، مثل حرية الرأي والتعبير وحق تداول المعلومات والحريات الأكاديمية.
قد يكون الزخم الإعلامي والخطاب الجديد اللذان وجدا لنفسه مكانًا في صحافة المتحدة أو في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وظهور الوجوه المستقلة أو المحسوبة على المعارضة أهم مكاسب المرحلة الأولى من الحوار التي انتهت بتوصيات عديدة لم تتمكن الحكومة أو مجلس النواب من ترجمتها لقوانين أو قرارات حتى الآن.
لكن يبدو أن حرية الكلام، وحق المواطن في الاستماع للأفكار المتنوعة، تآكلا وتضاءلا مع انتهاء المرحلة الأولى، وسكُن الحوار، مع الاكتفاء بالجلسات المتخصصة المغلقة في المرحلة الثانية، التي ناقشت موضوعات اقتصادية في فبراير/شباط الماضي.
بل إن توصيات المرحلة الثانية تكاد تكون غير معروفة، فالصفحة الرسمية للحوار الوطني اكتفت بنشر بيانات مقتضبة عن الجلسات، ولا يوجد ملف جامع شامل لتوصيات المحور الاقتصادي على غرار الملف الذي تضمن 135 توصية في المرحلة الأولى.
أين التوصيات؟
قدم الحوار مخرجات المرحلة الأولى في أغسطس/آب الماضي، ورفع توصياته لرئيس الجمهورية، الذي منح نفسه هذا الاختصاص خلال الدعوة لبدء الحوار.
تضمنت التوصيات 13 مطلبًا ترتبط بتعديل قوانين أو استحداث تشريعات، لم تتقدم الحكومة بأي منها حتى الآن، سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، رغم تشكيل لجنة تنسيقية في الحوار الوطني ولقائها مع الحكومة أكثر من مرة لمتابعة تنفيذ مخرجات المرحلة الأولى.
لا تزال الحكومة متعثرةً في عملية التطبيق، رغم أنها تتخذ إجراءات يعتبرها البعض استجابة لتوصيات الحوار الوطني مثل التقدم بتعديل قانون المالية الموحد الذي يضع حدًا أقصى للديون، ويدمج الهيئات الاقتصادية في الموازنة العامة للدولة، وهي التوصيات التي تخللتها مناقشات المحور الاقتصادي في المرحلة الأولى، لكن لم يتضمنها ملف المخرجات الرسمي.
بينما تصدّر التقرير المقدم لرئيس الجمهورية توصيات المحور السياسي، الذي يبدأ بتوصية لجنة المحليات بسرعة إصدار قانون المجالس الشعبية المحلية وسرعة إجراء انتخاباتها، ورغم ذلك كأن شيئًا لم يكن، فسارت الأمور كما هي دون أي تغيير.
لا توجد إرادة حقيقية لدى السلطة لإعادة إحياء ملف المحليات
رغم مرور كل هذا الوقت، لم تتقدم الحكومة بمشروع قانون المحليات، ولم يحرك مجلس النواب مشروع قانون كان تقدم به النائب عبد المنعم إمام رئيس حزب العدل.
في الوقت الذي توافَق فيه فُرقاء السياسة المشاركون في الحوار على ضرورة الإسراع في إصدار قانون المحليات، وفقًا لضوابط دستور 2014، الذي كان محددًا صدوره قبل نهاية 2017، لا يزال البرلمان يعطل مشروعات القوانين المقدمة من النواب، وتستمر الحكومة في تباطؤها، والإحجام عن التقدم بمشروعها، ما يعكس غياب الإرادة الحقيقية لدى السلطة في فك تجميد ملف المحليات.
كما يبدو أن النظام نفسه لم يحسم أمره بعد بشأن توصيات النظام الانتخابي بعدما طرح القائمون على الحوار الوطني ثلاث توصيات للاختيار بينها، في ظل تعذر التوافق على نظام واحد. تمسكت أحزاب الموالاة بالنظام الحالي الذي يعتمد على تقسيم المقاعد 50% للقائمة المغلقة ومثلها للفردي، مقابل الاختيارين الآخرين؛ تطبيق الانتخابات بنظام القائمة النسبية بنسبة 100%، أو اعتماد نظام مختلط يجمع بنسب معينة بين القائمة المطلقة والنسبية والفردي.
وتجاهلت الحكومة والبرلمان مطالب تعديل قانون الجمعيات الأهلية، وإصدار قانون موحد للعمل التعاوني، وتشريع قوانين تنظم وتسهل مشروعات ريادة الأعمال، فضلًا عن تعديل قانون التأمين الصحي الشامل لتسهيل الإسراع في تطبيقه، وإصدار قانون المسؤولية الطبية.
تعطيل جديد للدستور
في لجنة حقوق الإنسان، لم تترجم أي من التوصيات الصادرة عن الحوار لقرارات أو قوانين حتى الآن، رغم تقديم توصيات توافقت عليها جميع القوى السياسية والاجتماعية، خاصة في الجلسة المتعلقة بإنشاء مفوضية مكافحة التمييز، استجابةً للنص الدستوري.
استطاعت اللجنة في مخرجاتها الخاصة بمفوضية التمييز تقديم توصيات تفصيلية لتُمكن المشرع من صياغة مواد ونصوص مشروع القانون، وشرحت التعريفات والضوابط واختصاصات المفوضية وصلاحيتها ومواردها واستقلالها وآليات تلقي الشكاوى.
تجاهلت الحكومة ومجلس النواب تعديل قانون الولاية على المال
ومع تجاهل الحكومة للتوصيات وعدم تقديم مشروع القانون، استمر مجلس النواب في موقفه، مجمدًا مشروع القانون المقدم من النائبة مها عبد الناصر، في فبراير/شباط من العام الماضي، لإنشاء المفوضية لتفعيل النص الدستوري، ولم تبدأ مناقشته في اللجان النوعية حتى الآن، وكأن الدولة لا تزال مترددة في إنشاء مؤسسة تتصدى لانتهاكات التمييز وعدم تكافؤ الفرص.
تنضم التوصية بتعديل قانون الولاية إلى التوصيات المعطلة، رغم توافق المشاركين في الحوار على تعديل ترتيب الأم في قانون الولاية على المال ليصبح في المركز الثاني بعد الأب مباشرة.
وتجاهلت الحكومة ومجلس النواب تفعيل هذه التوصية على الرغم من وجود زخم مجتمعي حين مناقشتها عقب عرض مسلسل تحت الوصاية العام الماضي، ولم يحرك البرلمان مشروع القانون المقدم من النائبة إيمان الألفي التي تقدمت به في أبريل/نيسان 2023 حتى الآن.
ولم يتوقف تعطيل توصيات الولاية والمشكلات المحيطة بها عند تعديل ترتيب الأم فقط، بل امتد إلى عدم التعامل مع مطالبات بتغيير القيم المالية المنصوص عليها في قانون صدر منذ سبعين عامًا، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم.
غيوم المرحلة الثانية
على الرغم من سلبيات المرحلة الأولى من الحوار، الذي تحول لمكلمة وفضفضة وسط تعطيل توصياته، تظل هذه النسخة أفضل من تاليتها، لأنها فتحت الأبواب المغلقة والقنوات المسدودة وجمعت فرقاء السياسة، وحققت مكسبًا أسماه رئيس مجلس أمناء الحوار الوطني ضياء رشوان بـ"عودة لحمة 30 يونيو".
أما المرحلة الثانية، فكانت جلساتها محجوبة عن الرأي العام، وفي الوقت نفسه امتنعت قيادات الحركة المدنية عن المشاركة فيها، احتجاجًا على عدم تطبيق مطالبها، وعلى استمرار القبض على بعض النشطاء وحبس عدد من المتظاهرين الذين تضامنوا مع القضية الفلسطينية.
لم يسمح القائمون على الحوار الوطني ببث مباشر للجلسات أو حضور الصحفيين، كما شهدت مرحلته الأولى. فانتهت المرحلة الثانية دون توضيح تفصيلي للتوصيات، على غرار مخرجات المرحلة الأولى، وبالطبع دون أن نعرف لأي مدى انعكست توصيات المحور الاقتصادي على مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2024-2025، خاصة أن التعديلات التي سارع مجلس النواب بتمريرها فيما يتعلق بسقف الديون واجهت اعتراضات، واعتبرتها المعارضة "أستك" يمكن تكييف مقاسه حسب رغبة الحكومة.
ملف الحبس الاحتياطي لا يزال معلقًا
ومع انتهاء المرحلة الثانية وعدم وضوح مصير التوصيات، دخل الحوار الوطني مرحلة سكون جديدة، فرغم إعلان الرئيس استكمال الحوار الوطني، توقفت جلسات واجتماعات مجلس الأمناء، ولا يبدو أن هناك توقعًا باستكماله في وقت قريب.
توقفت الجلسات المفتوحة والمغلقة، رغم عدم مناقشة ملف الحبس الاحتياطي وأوضاع السجون، وهي من أبرز الملفات المدرجة في جدول أعمال لجنة حقوق الإنسان، التي كان من المفترض الانتهاء منها في المرحلة الأولى.
مع فقدان الثقة في جدوى الحوار الذي إن خرجت منه توصيات فلا تصل حيز التنفيذ، ومع تراجع زخم المَكلمة، ومع عدم الاستجابة لمطالب المعارضة، لم يعد هناك مبرر للاستمرار في حوار لم ينعكس على حياة المصريين في شيء. فإما أن يوجه الرئيس الحكومة بتطبيق فعلي وسريع للتوصيات، أو يكون الأمر مجرد رغبة في التباهي بوجود حوار في مصر.