مرت أكثر من تسع سنوات على صدور دستور 2014، ولا تزال نصوص كاملة فيه معطلة، من بينها 8 مواد تنظم الإدارة المحلية، لتستمر مصر بلا مجالس محلية منتخبة، منذ قرار المجلس العسكري بحلها في سبتمبر/أيلول 2011 حتى الآن.
لم يتمكن النواب في 2019 من التوافق على مشروع قانون الإدارة المحلية، وتعثّر خلال المناقشة من حيث المبدأ، وظل الملف بعيدًا عن أولويات المجلس في فصله التشريعي الثاني الذي بدأ في 2021، حتى فتح الحوار الوطني الملف مرة أخرى من خلال لجنة المحليات، في 30 يوليو/تموز المنقضي.
ألقت المناقشات في اللجنة الضوء على بعض الإشكاليات تَلخَّص بعضها في غياب الإرادة السياسية، والرغبة في تطبيق الدستور الذي نص صراحة على تطبيق اللامركزية في الإدارة، وحدد شكل التقسيم الإداري للدولة. كما بحثت المداولات وضع المدن الجديدة التي استمرت لسنوات خارج التنظيم الإداري الدستوري، بخلاف الوضع الاستثنائي للعاصمة الإدارية الجديدة.
كشفت المناقشات تعقيد الملف المحاصر بين فقر الإمكانيات، وتعدد القوانين المرتبطة به، وحسبة برما التي سقطت فيها أحزاب الموالاة والسلطة، فأصبحت مسؤولة عن غياب قانون الإدارة المحلية، واستمرار حالة فراغ في الرقابة على المحليات وتمثيل المواطنين فيها منذ 2011.
ديموكراسي بط هوين؟
يمكنك سماع العبارة الخالدة لرئيس المخابرات العامة الأسبق، عمر سليمان Democracy, but when، خلال متابعة اجتماع لجنة المحليات أمس الأول، فالخوف والقلق من انتخاب المحافظين، أو تطبيق اللا مركزية، يبدو واضحًا بين النخبة السياسة المشاركة في الحوار.
في الكواليس، تَسمع أحاديث عن مخاوف من إجراء الانتخابات المحلية في حد ذاتها، واعتبارها عقبة تواجه السلطة الحاكمة، يُخشى معها فقدان السيطرة على الأمور. ترتبط هذه المخاوف، التي لا يعبّر عنها المتحدثون أمام الميكروفون، بقلق ظهر في التحذير من تطبيق نظام اللا مركزية في الإدارة، خاصة أن أي قانون يصدر خارج إطار اللا مركزية يعتبر مخالفًا للدستور.
تعطي النظم اللا مركزية للوحدات المحلية صلاحيات للإدارة وتنمية المجتمع
نصت المادة 176 من الدستور على أن تكفل الدولة دعم اللا مركزية الإدارية والمالية والاقتصادية، وينظم القانون وسائل تمكين الوحدات الإدارية من توفير المرافق المحلية، والنهوض بها، وحسن إدارتها، ويحدد البرنامج الزمني لنقل السلطات والموازنات إلى وحدات الإدارة المحلية.
تعطي النظم اللا مركزية للوحدات المحلية صلاحيات للإدارة وتنمية المجتمع بعيدًا عن الحكومة المركزية. لكن رئيس حزب الجيل ناجي الشهابي، عبّر في الجلسة عن خشيته من تطبيق اللا مركزية، واعتبر أن المركزية الشديدة التي تتمتع بها مصر حمتها من مخططات خارجية، فيما رد رئيس لجنة الإدارة المحلية في مجلس النواب، النائب أحمد السجيني، على المتخوفين "المتخوف من اللا مركزية محق، ولكن لم نتحدث عن لا مركزية سياسية ولا دولة فدرالية، مازالت دولة متماسكة".
متى يأتي الوقت الملائم؟
تتخوف النخبة أيضًا من تجربة انتخابات المحافظين بدلًا من تعيينهم، على الرغم من النص الدستوري الذي يسمح للمشرع القانوني الاختيار بين تعيين أو انتخاب القيادات المحلية. فنصت المادة 179 على أن "ينظم القانون شروط وطريقة تعيين أو انتخاب المحافظين، ورؤساء الوحدات الإدارية المحلية الأخرى، ويحدد اختصاصاتهم".
النائب عن حزب مستقبل وطن أحمد السجيني، اعتبر أن الوقت غير ملائم "قد يأتي ناس بعدنا في مرحلة أخرى يطبقون انتخاب المحافظين". ويضيف "في 2015 كان الاتجاه الغالب انتخاب المحافظين إلى أن تبدلت القناعات. بعد الدخول في التفاصيل والاتساق مع الواقع تجد نفسك تغير قناعات"، واستطرد "قولًا واحدًا، الظروف الحالية للنسيج الشعبي والثقافي والتعليمي لمصر لا يمكن أن نطبق فيها نظام الانتخاب، قولًا واحدًا، قد تأتي لاحقًا بعد رفع مستوى التعليم وممارسة الديمقراطية عن حق داخل المجالس المحلية".
عبَّر عن الاتجاه نفسه عضو مجلس الشيوخ عن حزب مستقبل وطن عصام هلال، معتبرًا الوقت غير مناسب، وأيده ممثل حزب التجمع عبد الناصر قنديل، الذي قال "هناك مجتمعات تجري الانتخابات وهي مجتمعات مستقرة لديها لوائح محددة". بينما طالب الحزب المصري الديمقراطي بانتخاب المحافظين ليكونوا مسؤولين أمام المواطنين ويعبرون عن مصالحهم.
مدن خارج الرقابة
تطرق الاجتماع لإشكالية أخرى في ملف المحليات، عندما أوضح رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني المستشار محمود فوزي، بُعدًا آخر يتعلق بقانون المجتمعات العمرانية الذي منح وضعًا استثنائيًا للمدن الجديدة، لتكون تحت إدارة أجهزة خلال مرحلة التكوين.
قال فوزي إن قانون المجتمعات العمرانية رقم 59 لسنة 1979 أنشأ هيئة المجتمعات العمرانية، وغرضها خلق تجمعات بشرية متكاملة لتكون قاطرة تنقل المواطنين لمناطق غير مأهولة بالسكان. ولكنه أوضح أن القانون نص على تسليم المجتمعات العمرانية الجديدة للحكم المحلي طبقًا لأحكام المادة 50 من القانون. موضحًا أن "المجتمعات العمرانية سلطة استثنائية تُمنح للهيئة لتهيئة المجتمع، وبعد اكتمال المجتمع العمراني الجديد يتم نقله للوحدات المحلية".
ولفت فوزي إلى أنه حتى الآن لم يحدث نقل أي مركز عمراني جديد للوحدات المحلية، "علشان أنقل المجتمع العمراني الجديد لمجلس شعبي محلي، لازم رفع يد وزارة الإسكان من عليه وتدخل المحليات بتاعته ويكون له مستويات من الرقابة".
اقترح وزير التنمية المحلية الأسبق اللواء عادل لبيب أن تكون العاصمة الإدارية جزء من القاهرة
أعادت كلمة فوزي الحديث عن الإرادة السياسية وتطبيق الدستور للمشهد مجددًا، فقال مقرر لجنة المحليات الدكتور سمير عبد الوهاب "الدستور نص على أن تُقسم الدولة لوحدات إدارية. لا بد أن تُقسم مصر بشئ واحد، أين المدن الجديدة من هذه المادة؟ المشكلة تبدو في غاية البساطة، ولا تحتاح لنص خاص، القضية تحتاج إرادة سياسية"، مضيفًا "ليست مشكلة قانونية ولكنها ترتبط بالقرار".
تنص المادة 175 من الدستور على أن"تقسم الدولة إلى وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، منها المحافظات، والمدن، والقرى. ويجوز إنشاء وحدات إدارية أخرى تكون لها الشخصية الاعتبارية، إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك. ويراعى عند إنشاء أو إلغاء الوحدات المحلية أو تعديل الحدود بينها، الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون".
مقرر المحور السياسي الدكتور علي الدين هلال، اعتبر أن القرار يرتبط بمخاوف متعلقة بكفاءة الإدارة المحلية، مستائلًا "ليه محصلش؟ هل ده فايت على كل أجهزة الدولة والمسؤولين؟ الأرجح لأ"، مضيفًا "إخضاع المدن التي تتسم بسمات اقتصادية واجتماعية جديدة لنظام الإدارة المحلية بتاعنا قد يقلل من كفائتها وإنتاجيتها"، ليؤكد أن هذا أدعى للبحث عن أدوات تطور نظام الإدارة المحلية، ليكون بنفس كفاءة الأجهزة التي تدير المدن الجديدة.
بينما لفت النائب أحمد السجيني إلى أن المدن الجديدة متروكة طوال السنوات الماضية "لجهاز يفعل ما يشاء دون رقابة أو حوكمة".
لغز العاصمة الإدارية
على الرغم من صدور قرارات جمهورية تنظم العاصمة الإدارية، منها القرار الجمهوري رقم 314 لسنة 2022، الذي عدل الحد الإداري لشرق القاهرة لتضم في حدودها العاصمة الإدارية، تبقى المدينة الجديدة لغزًا لم يتوافق المشاركون في الحوار الوطني على صيغة لحله.
وزير التنمية المحلية الأسبق اللواء عادل لبيب، اقترح أن تكون العاصمة الإدارية جزء من القاهرة، على أن تكون ذات طبيعة خاصة، واقترح تغيير المسمى من العاصمة الإدارية الجديدة إلى القاهرة الجديدة أو القاهرة الحديثة.
وفي الوقت الذي أكد فيه النائب أحمد السجيني أن العاصمة الإدارية بقوة القانون والدستور جزء من العاصمة الحالية القاهرة، أشار إلى صعوبة تحولها لوحدة إدارية محلية تطبيقًا لنص الدستور، وقال إنها "من الناحية القانونية شركة شريكة للقوات المسلحة، وبالتبعية ليست مجتمع عمراني".
وبقى التساؤل الخاص بالعاصمة الإدارية الجديدة وتحولها لكيان إداري يضم وحدات محلية، ومجالس منتخبة بموجب نص الدستور بلا إجابات، بينما أكد مقرر لجنة المحليات سمير عبد الوهاب، في تصريحات لجريدة الشروق، اليوم الثلاثاء، أن الوضع الحالي للعاصمة الإدارية مخالف للدستور الذي أقر تقسيمات محددة للمدن.
اختتمت لجنة المحليات جلساتها العلنية لتبدأ جولة من ورش العمل المغلقة لصياغة توصيات توافقية بشأن قانون الإدارة المحلية. لكن تبقى مدى الجدية والإرادة السياسية لخروج القانون وبدء تنظيم الانتخابات المحلية في ملعب السلطة، ويستمر تساؤل عمر سليمان مطروحًا Democracy, but when؟