ازدحمت السوشيال ميديا في الأيام الماضية بفيديوهات تُظهِر وجودًا كثيفًا للأشقاء السودانيين واليمنيين والفلسطينيين والليبيين في بعض مناطق القاهرة والإسكندرية. أما السوريون، فتجاوز وجودهم مرحلة التندر بعد انتشارهم الواسع ومشروعاتهم الناجحة.
تسمح ديمقراطية الإنترنت بانتشار آراء فجة بلغت حدَّ التحريض على العرب والأفارقة النازحين إلى مصر، بعد تدشين حملات تطالب بترحيلهم وغلق حدود مصر أمامهم، ومقاطعتهم اقتصاديًا وتجاريًا بالامتناع عن البيع لهم أو الشراء منهم.
ووجد البعض في تلك الحملات، التي بدت ممنهجة، غطاءً لخطاب عنصريٍّ قميءٍ يدفع مصر الكبيرة إلى الانكفاء، ويُلِّح على سلخها عن دوائر تأثيرها الثقافي ومصالحها الاستراتيجية، بل والمشكلة لهويتها كدولة محورية.
نسيَ هؤلاء أنَّ النسيج المصري اكتسب تفرده من الاستيعاب الإنساني النادر والمتجدد لأبناء أعراق مختلفة وجدوا الملاذ على ضفاف النيل، فساهموا بفاعلية في كلِّ نهضة عبر العصور. نسُوا أيضًا أنَّ مصر ليست دولة منعزلة ولا مُصطَنَعة فقيرة المقومات والقدرات، وأنَّ الانغلاق ورفض الآخر يتناقضان مع مكانتها الجيوسياسية.
وتكامل مع تلك الحملات خطابٌ شعبويٌّ عبر منصات إعلامية، سلَّط الضوء في البداية على دور مصر وما تتكبده، وهو طرح قد يُقبل في إطار السعي لجذب المزيد من المساعدات والتمويل الغربي، أسوة بالعديد من دول العالم الواقعة على مفارق طرق الصراعات الإقليمية، وتلك المعروفة بأنها بلدان عبور نحو المقصد النهائي في أوروبا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا.
لكنّ هذا الخطاب سرعان ما تحول إلى خطاب كراهية غير مسبوق، يروِّج معلومات خاطئة عن عدد اللاجئين.
لن أُسهب في شرح المعلوم بالضرورة عن الفارق بين اللاجئين، الذين يدور عددهم حول 600 ألف (كانوا حوالي 300 ألف عام 2022 وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) والأجانب الآخرين، سواء المهاجرين أو المقيمين بشكلٍ مؤقتٍ للدراسة أو العمل، ليتجاوز عدد الوافدين إجمالًا التسعة ملايين، حسب أحدث تقرير للمنظمة الدولية للهجرة عام 2022.
ولا شك أنَّ العدد الإجمالي جاوز هذا الرقم، بالنظر إلى تبعات المعارك الأهلية الضارية في السودان العام الماضي، ثم العدوان الإسرائيلي على غزة.
لنضع هذه النقطة خلفنا ونمضي قُدمًا. وفقًا للمنظمة فحوالي 97% من الأجانب في مصر دخلوها مقيمين لا لاجئين، وهؤلاء يمثلون طاقة بشرية كبرى، ولديهم، مجتمعين، قدرات مالية وعملية وعلمية يجب السعي جديًا لصهرها في المجتمع، وفي المقابل توفير الأمان الكافي لهم وحماية مقدّراتهم، حتى لا تتحول علاقتهم بالشعب المصري إلى أزمة مضرة بأي طرف.
كشف التعامل الحكومي مع هذه القضية عددًا من المشكلات، يمكن تحويلها إلى فرص حقيقية للتطوير بعيدًا عن الجدل العقيم. والسطور التالية محاولة متواضعة، وأولية، لحصرها وتقديم اقتراحات بشأنها، ربما تجد طريقها إلى حوار مجتمعي ومؤسسي أوسع.
من يملك الأرقام؟
في عام 2020، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي أمام الأمم المتحدة أن "قرابة ستة ملايين مهاجر ولاجئ تستضيفهم مصر حاليًا"، وفي يناير/كانون الثاني الماضي أعلن مجلس الوزراء أنهم يزيدون "طبقًا لبعض التقديرات الدولية" عن تسعة ملايين "ضيف"، وأنَّ الدولة ستبدأ تدقيق الأعداد، وأورد على لسان وزير الصحة بعض الأرقام المتشابهة إلى حد كبير مع أحدث تقرير للمنظمة الدولية للهجرة.
صياغة خطاب حكومي موحد بشأن اللاجئين أصبح ضرورة؛ تُختار فيه بعناية ألفاظ مهنية وتُورد أرقام دقيقة لا تتحمل التأويل
وتكرر الأمر بنفس الأرقام تقريبًا في أبريل/نيسان الماضي، وهو أمر غير منطقي، فالأكيد أنَّ عدد الوافدين زاد بعد تمكن المزيد من السودانيين من الوصول إلى مصر، وفي ظل النزوح القسري للفلسطينيين من غزة.
خلت البيانات سالفة الذكر، وكذلك تصريحات جميع المسؤولين، من أي إحصائيات منسوبة إلى الجهات الرسمية المعنية بتنظيم دخول وخروج الأجانب، على رأسها وزارة الداخلية المختصة بإجراءات تقنين الإقامة، التي أصبحت رسومها بالدولار من العام الماضي.
ولم نسمع أيَّ أرقام من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، رغم أنه الأقدر على تحديد الأرقام السليمة وإعلانها، ويملك من الصلاحيات والوسائل والمنهجية ما يجب أن يفضي إلى نتائج أدق من المنظمات الدولية التي تعتمد على تقديرات السفارات واستطلاعات الرأي.
إنَّ توفير تلك الأرقام بصورة رسمية محكمة، ونشرها علنًا مصحوبة بتفاصيلها ومؤشراتها المختلفة، يصبّان بالتأكيد في مصلحة الدولة، ويجعلانها أكثر قدرة على مخاطبة الدول المهتمة بالتمويل والمنظمات المعنية بالدعم، كما يساعد الحصر الدقيق في وضع خطط واقعية قابلة للتنفيذ في كل قطاع، لاستيعاب الزيادة في أعداد المستفيدين من الخدمات والمرافق، بعيدًا عن التهوين والتهويل، المُضلِّلَيْن.
كيف نصوغ خطابنا الرسمي؟
تباين الخطاب الرسمي من حيث الدقة والنبرة، ليُخيّم الغموض على موقف الحكومة من الأجانب؛ فهم أحيانًا لاجئون وأحيانًا ضيوف، وفي أحيانٍ أخرى مقيمون أو مهاجرون، مما سمح لأصحاب الخطاب المتطرف بخلط الأوراق وتصعيد الحملات.
وحسنًا فعل رئيس الوزراء خلال جلسته على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في الرياض الشهر الماضي، عندما قال إن "مصر لا تُسمِّي الوافدين إليها باللاجئين، إنهم ضيوف" غير أنه قدّر التكلفة المباشرة لاستضافة تسعة ملايين "ضيف" بأكثر من 10 مليارات دولار سنويًا، الأمر الذي لا يتَّسق مع توجيهاته قبل ذلك بعشرة أيام فقط، بـ"حصر وتجميع ما تتحمله الدولة مقابل ما يتم تقديمه من خدمات في مختلف القطاعات".
فهل انتهى هذا الحصر خلال تلك الفترة القصيرة؟ وعلى أيِّ أسس اعتمد رئيس الوزراء لحساب التكلفة؟ لا نعلم.
لكنَّ ذلك يؤكد أن صياغة الدولة خطابًا حكوميًا موحدًا في هذا الشأن أصبح ضرورةً، تختار فيه بعناية فائقة ألفاظًا مهنية وتورد أرقامًا دقيقةً لا تتحمل التأويل والتحريف، بما يقطع الطريق أمام نافثي النار الذين يهددون السلم الأهلي بتحريضهم غير الإنساني ضد مكروبين ومستضعفين.
هل يساهم الضيوف في تحسين حياتنا؟
يشكو الخطاب الإعلامي الرسمي وشبه الرسمي تكبُّد الدولة أعباءً مالية كبيرة نظير استضافة الأجانب، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار جميع الخدمات الحكومية في النقل والكهرباء والمياه والغاز والبنزين والتعليم، ثم مؤخرًا الصحة، إلى مستويات غير مسبوقة. لا يشعر المواطن العادي بأثر الزيادة الرقمية الكبيرة في الموازنة العامة لتمويل تلك القطاعات، ومنها في الموازنة الجديدة 496 مليار جنيه للصحة و565 مليار جنيه للتعليم و433 مليار جنيه للتعليم العالي والبحث العلمي.
ألسنا في حاجة إلى كيان حكومي جديد لمتابعة أوضاع المقيمين اقتصاديًا واجتماعيًا؟
أتصور أنَّ تسهيلات مالية في منظومة الإقامة، وكذلك منح الجنسية للقادرين، وإتاحة حوافز واضحة لدمج المشروعات الصغيرة للوافدين كالمطاعم والمقاهي والورش في السوق الرسمية، يمكن أن تساهم في تحقيق حصيلة مالية أكبر، وتوجيهها إلى القطاعات التي تتطلب تدخلًا عاجلًا لرفع كفاءتها، وتحديدًا التعليم والصحة، باعتبارهما الأكثر التصاقًا بمصالح عموم المصريين وضيوفهم.
ولماذا لا نفكر في حوافز أخرى للمقيمين الأجانب الأقل ثراءً للانخراط في المجتمع والاندماج فيه؟ مثل منح الجنسية والإقامات طويلة الأمد نظير إنشاء مشروعات صغيرة ومتوسطة تساهم في القضاء على البطالة المنتشرة بين الوافدين، أو شراء واستئجار أراضٍ وعقارات وإقامة مشروعات في مناطق تستهدف الدولة تنميتها، أو مقابل الانخراط في العمل بوظائف نادرة أو تعاني نقصًا حادًا كالخدمات الطبية والتعليمية.
والأهم من ذلك، على مستوى الحوكمة، ألسنا في حاجة إلى كيان حكومي جديد لمتابعة أوضاع المقيمين اقتصاديًا واجتماعيًا؟ فمن الضروري رعاية مصالحهم وتسهيل إجراءات دمجهم في سوق العمل، ومتابعة مشروعاتهم لضمان استمرارها لمزيد من التشغيل والإنتاج.
لماذا نوجه أصابع الاتهام نحو البريء؟
"السوريين ولعوا إيجارات أكتوبر ودمياط الجديدة.. اليمنيين ولعوا إيجارات فيصل.. الليبيين غلوا إيجارات إسكندرية.. شوف السودانيين بيأجروا بكام في الدقي وحدايق الأهرام". بالتأكيد سمعت ما يشبه هذه العبارات وغيرها الكثير.
ولكن ما استجدَّ مؤخرًا أنَّ هذه الشكاوى تحولت لاحتقان اجتماعي، في ظل الأزمة الاقتصادية وتفاوت القدرة المالية بين المصريين والوافدين، وللغرابة وُجهّت أصابع الاتهام نحو الطرف الخطأ. لا أحد يرغب بالتأكيد أن يستأجر بضعف السعر السائد، إنما هو احتياج، في ظرف شديد الصعوبة، يستغله بعض الملّاك لتحقيق عائد أكبر، ويتمادى البعض بدفع المستأجرين المصريين لمغادرة منازلهم أو مساومتهم لزيادة الإيجار.
لا جدال في ضرورة حماية الملكية الخاصة وحقّ استغلالها، ولا ينبغي أن تعود عقارب الساعة إلى الخلف فتتدخل الدولة لتضمن بقاء المستأجرين في أملاك غيرهم للأبد. لكن على الدولة أن تحقق التوازن بين المالك والمستأجر بآلية جديدة، لا تجور على حق المالك في تحديد السعر واختيار من يسكن عقاره، ولا تنال من حق المستأجر في الاستقرار.
يمكن تحقيق ذلك بوضع معايير استرشادية للأسعار في كل منطقة تتغير بتغير قيمة الجنيه ومعدلات التضخم والزحف العمراني وتوافر الخدمات، مع توفير حوافز مناسبة للملاك الذين يلتزمون بتلك المعايير، ووضع حد أدنى وحد أقصى إلزامي لزيادة الإيجار، وتحديد مهلة إلزامية للتنبيه بإخلاء الوحدة السكنية، ومراقبة عملية الإخلاء في المناطق الجديدة أو التي تتعرض لهزات سعرية عنيفة، وإخضاعها لشروط يجب إثباتها كرغبة المالك في التصرف في العقار أو التوقف عن استغلاله.
إنَّ هذه الآلية قائمة، بصور متفاوتة، في معظم دول أوروبا بما لا ينال من حرية السوق والعرض والطلب، وتشرف على تطبيقها البلديات، كما في ألمانيا التي تتاح فيها إلكترونيًا الأدلة المحدثة لمعايير التسعير والحدود الدنيا والقصوى وفقًا لأدق تفاصيل العقارات.
كما تعمل الإمارات بآلية مشابهة، تلك التي تبرز فيها تجربة "دائرة الأراضي والأملاك في دبي" التي تسهل الإجراءات وتساهم في حل مشاكل السكن، كما تتولى فض المنازعات الإيجارية دون اللجوء إلى القضاء.
أما عن الجهة التي يمكن إسناد هذا الأمر إليها، فأتصور أنها المحليات، الحاضرة في الدستور والغائبة عن الواقع، أو إلى المحافظات بواسطة لجان فنية تُمثَّل فيها الجهات المعنية وذات الخبرة، كما يحدث في ملف التصالح في مخالفات البناء.
لم يعد ممكنًا تسيير الحياة اليومية في مصر الكبيرة ببيروقراطية القرن العشرين، والتحديث المرجو يجب أن يكون فكريًا وإداريًا بالأساس، لا بالإنشاءات الجديدة فحسب، ولا باستيراد قشور ربما تُجمِّل المظهر دون أن تمس جوهر الأزمات.