تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
تزداد أعداد اللاجئين لمصر مع تفاقم الحروب في المنطقة

انتصارات الجيش تغازل سودانيين بالعودة الطوعية للوطن

منشور الأربعاء 13 نوفمبر 2024

كأن ثمانية عشر شهرًا لم تمر، ظلت حقائبهم في الانتظار إلى أن "جاءت البُشْرَيات"، بسلسلة تقدمات يحققها الجيش السوداني على قوات الدعم السريع، منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ توافد سودانيون على أرصفة قطار الصعيد بمحطتي مصر والجيزة؛ بادئين رحلة عودة تستغرق من يوم إلى ثلاثة أيام في أسوأ الأحوال فيما يعرف بالعودة "الطوعية". على عكس ما اختبره غيرهم ممن أجبروا على العودة الإجبارية في ظل سوء أوضاعهم الاقتصادية وبطء إجراءات مفوضية شؤون اللاجئين. 

كانت سفارة السودان وعدت في أبريل/نيسان الماضي بتنظيم العودة الطوعية لمواطنيها إلى بلادهم، لكنها لم تعاود الحديث عنها مجددًا.

بحسب تعريف مفوضية شؤون اللاجئين، فالعودة الطوعية هي أن يرغب المستفيدون من خدمات المفوضية في العودة إلى بلدانهم الأصلية حينما يسود الأمن وتصبح شروط الحياة متوفرة، مشترطة أن تتم "بأمان وكرامة وأن تستند إلى قرار مستنير".

وتأتي عودة السودانيين بالرغم من أن تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، ومديرة المنظمة الدولية للهجرة إيمي بوب، في أكتوبر الماضي، لتطرح شكوكًا حول ملاءمة اللحظة الحالية للعودة، إذ وصف جوتيريش ما يعيشه السودانيون بـ كابوس من العنف، بينما قدرت بوب عدد النازحين خلال الشهر الماضي فقط في السودان بـ200 ألف مدني.

إلا أن أميرة أحمد الشابة ذات الـ35 سنة، التي غادرت مصر رفقة ابنها البالغ 15 سنة مساء 24 أكتوبر الماضي إلى السودان، لم تصغِ لأحد سوى دعوات أهلها "قالولي الحياة رجعت للسودان " تقول أميرة لـ المنصة عبر رسائل واتساب فور وصولها عطبرة التي تقع على بعد حوالي 310 كيلومترات شمال الخرطوم.

آلاف على طريق العودة

حصرُ عدد العائدين غير ممكن، إذ اكتفى مصدر دبلوماسي بالسفارة السودانية بالتصريح لـ المنصة بأن "هنالك عددًا كبيرًا من المبادرات الطوعية التي تتبنى تسهيل عودة السودانيين إلى بلدهم".

وأكد المصدر، الذي طلب عدم نشر اسمه، أن عددًا من ملتمسي الحماية لدى مفوضية اللاجئين تقدموا بطلب لإغلاق ملفاتهم وتوجهوا إلى السفارة بالقاهرة لاستخراج وثائق سفر.

وبخلاف هؤلاء، يلجأ آخرون إلى المبادرات الفردية، حسب محمد سليمان مؤسس مبادرة راجعين لي بلد الطيبين، الذي يقول لـ المنصة إن مبادرته "تعمل دون تنسيق مع أي من الجهات الرسمية".

حسب سليمان يفضل السودانيون العودة في مجموعات "كل أسرة تبحث عن أسرة مماثلة ترافقها للولاية اللي راجعة ليها"، يساعدهم في ذلك أيضًا علي مصطفى، مشرف بمبادرة "الرجعة للسودان"، إذ تنظم كلا المبادرتين منذ انطلاقهما نهاية يونيو/حزيران الماضي رحلات تنقل عشرات الأسر أسبوعيًا.

يبدأ عمل علي وسليمان بتحديد موعد الرحلات، يلحقها تدشين مجموعات على واتساب، ينضم إليها كل من يلائمه موعد الرحلة. وفيه يحصر المشرفون الأعداد ويوجهون المسافرين. 

ويتراوح عدد المشتركين في الرحلة بين 90 و200 شخص يتم تجميعهم خلال "من ثلاث لأربع أيام". 

ويكشف عن أن مبادرته نظمت أربع رحلات في النصف الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، مقدرًا عدد من ساعدتهم المبادرة في السفر منذ يونيو بـ"ما يتراوح بين 12 إلى 15 ألف سوداني".

مشرف الرحلة يعطي تعليماته للعائدين إلى السودان في محطة مصر

يلمس سليمان بدوره أثر نجاحات الجيش السوداني على العودة، قائلًا "كنا ننظم رحلة واحدة في الأسبوع، بقينا ننظم ثلاثة"، هذا إلى جانب إن "الناس عرفت الطريق بينظموا نفسهم بدون ما يحتاجولنا".

واستنادًا إلى شهادات العابرين يقدر مؤسس مبادرة "راجعين لي بلد الطيبين" أنه "يخرج يوميًا من معبر أشكيب ما لا يقل عن 8 أوتوبيسات"، يحسبها "الواحد فيه ما لا يقل عن 50 شخصًا، أي 400 عابر يوميًا، وفي الأسبوع حوالي 2800".

كما فعلت أميرة، لم تحتج لواحظ عثمان جهدًا كبيرًا في حسم القرار "يومين بعدما استشرت بنات خالتي وقررنا العودة مع أول رحلة راجعة، كانت في 24 أكتوبر"، تقول لـ المنصة.

في اليومين "جهزنا الشيلة، اشترينا أكل يكفينا في الطريق والفترة الأولى في السودان لحد ما نستقر". باعت الشابة ذات الـ28 عامًا بعضًا من قطع الأثاث والأجهزة التي كانت تقتنيها وتبرعت بالجزء الآخر لأسر محتاجة، أما الأجهزة الصغيرة مثل الخلاط والمكواة "شلناهم"، تقول لواحظ.

رحلة يسيرة

تحت وطأة القلق، وصلت لواحظ إلى محطة مصر قبل موعد القطار بأكثر من ساعتين "حذرونا من زحمة الخميس واحتمال يفوتنا القطر، فلازم نطلع بدري". في الثامنة والنصف انطلق القطار متأخرًا 10 دقائق عن موعده، لتبدأ ليلة سمر "ماحد نام فيها لا كبير ولا صغير الكل فرحان"، تقول لواحظ.

إلى هنا انقطع الاتصال مع لواحظ، إلا أن أبو بكر حسن وهو أحد أفراد الرحلة يكمل لنا ما بدأته.

يقول الرجل الأربعيني لـ المنصة "وصلنا أسوان تاني يوم الساعة 12 الظهر"، هناك توجهوا إلى معسكر لقوات حرس الحدود المصرية في أبو سمبل، حيث يسلمون أنفسهم للجيش "أخدنا أوتوبيسات من أمام محطة أسوان، وصلنا المعسكر تقريبًا الساعة 5 مساءً. ناس المعسكر رحبوا بينا وسجلوا الأسماء وشالوا الموبايلات عشان منطقة عسكرية". 

عند وصولهم "لقينا سودانيين قاعدين بالمعسكر بقالهم يومين، كان حظنا حلو جابوا 11 باص على 2 صباحًا".

شحن الباصات في عبارة بحيرة ناصر

استغرقت عملية اكتمال الأوتوبيسات بالمسافرين ساعتين، يقول أبو بكر "الساعة 4 مرقنا من المعسكر، الساعة 5 نحنا بالعبارة، عبارة بحيرة ناصر، الساعة 6:30 كنا في المعبر المصري، وسبعة وصلنا المعبر السوداني". 

انتظر أبو بكر ساعة لفتح المعبر في الثامنة، ثم انتظر حتى 11 صباحًا لإتمام إجراءات الدخول "دخلت ببطاقة الهوية السودانية، أي شيء يثبت إنك سوداني".

ليكون بذلك أبو بكر ورفاقه قضوا 39 ساعة في الرحلة حتى دخول السودان. ولا يعني ذلك أنها انتهت، بل بدأ فصلها الثاني. يقول "الأوتوبيسات وصلتنا إلى حلفا" في أقصى الشمال، هناك "كل زول بيمشي للولاية اللي عايزها". 

ينتمي أبو بكر إلى مدينة ود مدني بوسط السودان التي ما زالت تشهد مواجهات عسكرية، لهذا نزل لدى رفاق في ولاية القضارف "لحين ما ألقى طريق أدخل بيه ود مدني للوالدة والأسرة". 

الخروج الرسمي عبر معسكر الجيش المصري، جعل رحلة العودة أسهل مقارنة بالتهريب، يقول سليمان "أول ما بيدخلوا بياخدوا منهم التليفونات ويصوروهم صورة جماعية ويسجلوا أسماءهم. بيقدموا لهم ثلاث وجبات في اليوم، وبيقعدوا في ساحتين مغطتين بسقف حديدي، واحدة للرجال وواحدة للنساء".

"في بداية عملنا في يونيو كان الزول ممكن ينتظر 10 أيام لحد ما يوصل، اليوم عدد الراجعين زاد. ما بيكملوا يوم ويخرجوا على المعبر"، حسب سليمان. 

تكاليف قليلة وتكايا كثيرة

رحلات العودة قليلة التكلفة مقارنة بالتهريب، الذي بلغت تكلفته للفرد الواحد مطلع العام الحالي 500 دولار قابلة للزيادة، حال خضع للابتزاز. ويتكلف السوداني للخروج من مصر من 650 جنيهًا مصريًا حتى 1000 جنيه، حسب خياراته في سبل النقل.

تبلغ تكلفة تذكرة الأوتوبيس 800 جنيه حتى معسكر أبو سمبل مباشرةً، حسب استطلاع المنصة، ثم يدفع المسافر 200 جنيه عقب خروجه من المعسكر إلى حلفا، لتصل التكلفة إلى 1000 جنيه. أما إذا فضّل القطار فتتكلف رحلته 240 جنيهًا سعر تذكرة القطار العادي و390 لقطار الدرجة الثالثة الروسي المكيف، ثم 200 جنيه في الطريق من محطة أسوان للمعسكر، و200 من المعسكر إلى حلفا، حسب أبو بكر.

وإلى جانب الـ 890 جنيهًا للخروج من مصر، كلفه الطعام والتنقلات ما يعادل الـ2000 جنيه حتى وصل القضارف.

إن كانت انتصارات الجيش السوداني أغرت البعض بالعودة، فـ"التكايا" هي الأخرى "أحد مسببات العودة"، حسب سعد سراج، مسؤول التنسيق والاتصال مع منظمات العون الإنساني داخل منطقة جنوب الحزام بجنوب الخرطوم لـ المنصة.

شباب كسلا منخرطون في تكايا مستديمة لضيافة الوافدين

تقدم التكايا الطعام بالمجان، وبدأت بعد قيام الحرب في أبريل/نيسان 2023 في تغطية الاحتياجات الغذائية للمحتاجين، يقول سراج "اعتمدت في البداية على دعم منظمات محلية، ثم دخل المغتربون السودانيون كممولين"، مشيرًا إلى أنه مع ارتفاع عدد الأسر المستفيدة لجأوا إلى منظمة الغذاء العالمي الممول الحالي لتكايا جنوب الخرطوم. 

 ويرصد سراج ضغطًا سببته عودة السودانيين من مصر، مشيرًا إلى أن القائمين على التكايا بصدد "حصر الاحتياجات بعد تزايد الجايين من مصر".

يخطط القائمون على التنظيم إلى رفع عدد التكايا من 30 إلى 79 لتغطية احتياجات سكان جنوب الحزام. ولحين حدوث ذلك "تقسم التكية الحارة على اثنين ياخد 50% من سكانها اليوم والنصف التاني في اليوم اللي بعده"، حسب سراج الذي يؤكد "ما عندنا منطقة فيها سكان ما عندهم تكية".

ما بعد العودة

تبدو عودة أميرة حذرةً، إذ ذهبت لاستطلاع الوضع وتركت خلفها زوجها يعمل في القاهرة ليرسل لها مصروفاتها. لكنها لم تعد إلى بيت العائلة في ولاية الجزيرة؛ لاستمرار انتهاكات الدعم السريع، بل ستلحق بأشقائها الذين يعيشون تجربة نزوح داخلي "أخي وأختي مأجرين شقق بعطبرة وبورتسودان"، مشيرة إلى نيتها لاستئجار سكن لم تستقر على مكانه بعد. 

الشغل المتاح حاليًا الأعمال الحرفية أما الموظفون فأوضاعهم صعبة لعدم استقرار المصالح الحكومية

عمر قريب الله الذي وصل السودان منتصف أكتوبر بعد قراره العودة النهائية صحب فيها زوجته وأطفاله، كان أحسن حظًا، إذ لم يضطر لعيش تجربة نزوح بل عاد إلى بيته في أم درمان التي يصفها بـ"الآمنة". رغم ذلك يشير إلى وجود "تدوين عشوائي (أي قصف) من الدعم السريع على الولاية لكن لطف ربنا 99% منه بينزل في فسحات فاضية وبيوت ما فيها سكان".

 ويوضح "كنت متوقع ألقى البلد سيئة جدًا، لكن رجعت لقيت الكهرباء والمياه مستقرة بنسبة 98%. والاتصالات ما بتقطع إلا لو فيه عطل أو منطقة اتحررت عايزين يوصلوا لها الشبكة"، معتبرًا أن "القوات المسلحة أدارت الحرب بحرفية كبيرة انعكست على شكل المباني". 

ويقارن غلاء الأسعار في السودان بمصر قائلًا "قريبة لبعض"، وحول مصادر الدخل للعائدين، يقول إن الشغل المتاح حاليًا "الأعمال الحرفية. أما الموظفون فأوضاعهم صعبة لعدم استقرار المصالح الحكومية"، مبينًا أن "معظم السودانيين بتجيلهم تحويلات من برا".

ولكن هناك آخرون لم يقتنعوا بعد بالعودة، منهم سامية شريف، 48 عامًا، التي تسكن مدينة بدر في القاهرة في شقة يبلغ إيجارها 8000 جنيه في الشهر. يعمل زوجها في السعودية ونجلها الأكبر في السودان ويرسل كل منهما لها أموالًا لتغطية احتياجاتها. 

ترى سامية أن مصر حتى هذه اللحظة لا تزال أكثر راحة "أغلب الأسر الراجعة ترى إنها بالعودة توفر الإيجار والأكل بيلاقوه في التكايا".

وإذا كانت سامية تفضل البقاء في مصر، فإن أميرة لا تخفي فرحتها بالعودة فـ"وطنك ما حد يعوضك عنه" وإن استهانت في سبيل ذلك الأخطار وتحملت ارتفاع تكلفة الإيجارات لتكون "أغلى من مصر. أختي مأجرة شقة مفروش بـ2 مليار سوداني"، أي ما يعادل 40 ألف جنيه مصري.