وصلت منى عبد الرحمن، ذات الـ52 سنة، وأبناؤها الستة ووالدتها، مصر، في ديسمبر/كانون الأول 2023، بعد 6 أشهر من النزوح داخل السودان، هربًا من الموت.
قُتل شقيقها في الحرب وبقي جثمانه في العراء لمدة 12 يومًا، فيما تشتتت بقية أسرتها بين مصر وأوغندا وتشاد وجنوب السودان. تقول منى لـ المنصة "قبيلتنا كانت مستهدفة. فقدنا كل ممتلكاتنا، قتلوا الشباب واغتصبوا البنات، فطلعت بالعيال".
في مصر، لم تنعم منى بالراحة المنشودة، فقضت الشهور الثلاثة الماضية كعب دائر في محاولات مستميتة لمنع ترحيل ابنها الأكبر مصطفى، الذي يبلغ 23 سنة، بعد القبض عليه.
خلَّفت الحرب التي اندلعت في السودان منذ أكثرمن عام آلاف القتلى، وارتكبت فيها جرائم عنف جنسي بحق النساء، ونتج عنها نزوح أكثر من 9 ملايين داخل السودان، ومليون إلى دول الجوار، من بينها تشاد ومصر.
تهديد أمني
قبل اندلاع الحرب، كان مصطفى يعاني مشكلة في عينيه بعد إجرائه جراحةً في القرنية، ومع انقطاع المتابعة الصحية بسبب الصراع والنزوح، تدهورت حالته، فصحبته أمه منى إلى "مستشفى الرمد في الجيزة أكثر من مرة".
في المرة الثالثة، وهما ينتظران المواصلات أمام المستشفى برفقة ابنها الأصغر وأقارب لهما، قَبض فرد مباحث بزي مدني على مصطفى لـعدم حيازته هوية، "حاولت أوريه الرسالة بموعد مقابلة التسجيل في مفوضية اللاجئين بعد أقل من أسبوع، لكنه ما اهتم" تقول منى.
اقتِيد مصطفى لنقطة مرور الجيزة، ومنها إلى قسم شرطة الجيزة، وفي اليوم التالي عُرض على النيابة، التي أخلت سبيله وأعادته لقسم الشرطة، لكنه احتُجِز هناك حتى ترحيله. ولم تتمكن والدته من زيارته إلا مرة واحدة بإذن من النيابة.
بعد 6 أيام فقط من القبض على مصطفى، حصلت منى وباقي الأسرة على كارت التسجيل من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين؛ تلك المقابلة التي كان من المفترض أن يحضرها مصطفى لتصبح لديه أوراق ثبوتية.
قبل ترحيله، طلبت منى من المفوضية ومن مؤسسة سانت أندروز التي تقدم دعمًا قانونيًا للاجئين، التدخل لمساعدتها ومساعدة ابنها، لكن دون نتيجة.
على مدار 3 أشهر، وفي محاولة لإنقاذ ابنها، دارت منى بين قسم الشرطة والنيابة والمفوضية والمؤسسات الداعمة، وحتى السفارة السودانية، التي أصدرت وثيقة اضطرارية لترحيله.
ما حدث لمصطفى ليس استثناءً، إذ ارتفعت في الشهور الماضية وتيرة ترحيل اللاجئين الأفارقة، بالذات السودان، حسب نور خليل الباحث ومدير منصة اللاجئين في مصر، وأحمد معوض المحامي المتخصص في قضايا اللاجئين والهجرة.
كشف تحقيق صحفي مشترك بين منصة اللاجئين في مصر ومنصة the new humanitarian نُشر في مايو/أيار الماضي، عن آلاف المحتجزين والمرحلين، وتعرضهم للكثير من الانتهاكات القانونية والحقوقية والإنسانية.
حملة منظمة
كانت بداية حملة الاستهداف في أغسطس/آب الماضي، حين أصدر مجلس الوزراء قرارًا من شقين، الأول أن تُدفع كل الرسوم والغرامات الخاصة بإقامة الأجانب في مصر بالدولار، والثاني أن الأجانب المقيمين في مصر "بصورة غير شرعية" عليهم تقنين أوضاعهم بدفع رسوم ألف دولار خلال 3 أشهر. ومُد العمل بهذا القرار في مارس الماضي، لـ 6 أشهر إضافية.
"الشرطة بقت بتستهدف ذوي البشرة السمراء كأثر للقرار ده" يقول معوض لـ المنصة، ويوضح "عدد اللي بيجولي من وقتها بسبب القبض على حد من أهلهم عشان الإقامة، في القاهرة والجيزة والإسكندرية، زاد من أغسطس. لكن الحملة على مستوى الجمهورية"، مؤكدًا أن المتضررين منهم مهاجرون ولاجئون وملتمسو لجوء.
يكلف دخول مصر من الحدود الجنوبية مبلغ 3000 آلاف دولار بشكل رسمي و1500 بالتهريب
إحدى الحالات، حسب معوض، امرأة سودانية مسجلة لاجئة بالمفوضية، قبضت عليها إدارة الهجرة والجوازات التابعة لوزارة الداخلية، وهي تساعد آخرين في إجراءات الإقامة، يقول معوض "أخلت النيابة سبيلها في اليوم التالي، لكن لم يُفرج عنها وصدر قرار بترحيلها، ورغم إني رفعت دعوى أمام مجلس الدولة لوقف الترحيل، لكنها اترحلت في نفس يوم تحديد موعد المحاكمة".
يضيف معوض "معظم حالات القبض والإبعاد القسري سودانية وإريترية"، لكنه قابل رجلًا أردنيًا-فلسطينيًا ذهب لتقنين وضعه في إدارة الهجرة والجوازات حسب القرار، غير أنه حصل على ختم إبعاد من البلاد. يستغرب معوض من رفض تقنين أوضاع المهاجرين، متسائلًا "أومال الحكومة بتستهدف مين بالقرار بتاعها؟".
نهاية مارس الماضي، طالبت 27 منظمة محلية وإقليمية ودولية السلطات المصرية بوقف الانتهاكات ضد السودانيين، حيث تلقت "منصة اللاجئين في مصر، والتحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الانسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومنظمات حقوقية أخرى، مئات البلاغات عن الاعتقالات الممنهجة للاجئين والمهاجرين والاحتجاز التعسفي وحملات الإعادة القسرية التي تقوم بها السلطات المصرية ضدهم" حسب البيان.
غير مرغوب فيهم
ربما بدأ الأمر قبل أغسطس، حسب خليل ومعوض، فمع تضييق الحكومة المصرية على الحدود الجنوبية مع بداية الحرب، نشط الدخول بشكل غير نظامي، لتظهر "تنسيقات" مشابهة لما يحدث شمال شرق مصر مع الفلسطينيين.
يتحتم على من يرغب من السودانيين دخول مصر الحصول على موافقة أمنية، ما أدى لنشاط أفراد وشركات، يحصّلون مبالغ تصل لـ3 آلاف دولار مقابل هذه الوثيقة، حسب ما وثقه خليل ومعوض جنوب البلاد.
"الدخول بالتهريب مقابل ما يقرب من 1500 دولار، سيكون أقل تكلفة" يقول خليل. الوضع أسوأ بكثير في جنوب مصر، يضيف "أسر كاملة مقبوض عليها في الجنوب، أطفال بيقعدوا في الحبس بالشهور، وناس بتتحبس وتترحل من غير قضية، ونساء حوامل محتجزات في وضع سيئ دون رعاية".
يقدم الاتحاد الأوروبي غطاءً سياسيًا للإجراءات التعسفية ضد اللاجئين
تصل أعداد المُرحلين ومن تحرر لهم محاضر إلى المئات، وفق خليل، وتكون عبارةً عن نسخ شبه متطابقة وتهم تشبه التهم في القضايا السياسية، يقول "التهمة الانضمام لجماعة إجرامية بدل جماعة إرهابية"، أما الاتهام الرئيسي فيكون إما دخول أو تسهيل دخول البلاد بشكل غير شرعي، بينما تحجب الشرطة وثائق المحتجزين عن النيابة.
الترحيل أو ما يسمى بالإبعاد القسري غير قانوني، حسب خليل ومعوض. يوضح معوض أن "اتفاقية 1951 الخاصة باللاجئين فيها مادة بتحظر الطرد، ولو اللاجئ خطر على الأمن القومي بيُبعد لمكان آمن. والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية بيحظر الاستبعاد التعسفي، والمادة 91 من الدستور المصري بتحظر إبعاد اللاجئين".
قروض مقابل تقنين الهجرة
يُرجع خليل أسباب الحملة الممنهجة غير المسبوقة ضد اللاجئين إلى أسباب مختلفة "الفلوس جزء. ألف دولار في ألف بني آدم، ده رقم". أما السبب الثاني هو السيطرة على الشارع، "فيه تزايد لوجود جنسيات مختلفة، وفيه هوس أمني ضد أي تجمعات مهمشة، أو الأمن مش فاهمها أو مش عارف يتعامل معاها".
كما يربط خليل رغبة الدولة في التحكم في الحركة "بتحقيق المصالح الأوروبية عشان يمنع المهاجرين يوصلوا للشمال، حيث مطروح والسلوم ومنهم لأوروبا، حسب اتفاقات الشراكة مع أوروبا لمكافحة الهجرة"، ويوضح "الدولة ما تقدرش تحدد حركة اللاجئين بس تقدر تخوفهم، فما يخرجوش من بيوتهم".
في منتصف مارس الماضي، وقّعت مصر اتفاق الشراكة الكاملة مع أوروبا، الذي شمل تمويلات وقروضًا واستثمارات بأكثر من 7 مليارات يورو، مقابل التعاون في ملفات الهجرة ومكافحة الإرهاب. يقول خليل "الاتحاد الأوروبي بيدي غطاء سياسي للسياسات دي. الاتفاقية إن أوروبا تدي مصر فلوس، وتدي تونس فلوس عشان يمنعوا الناس إنهم يعدّوا البحر. هل فيه رقابة على الفلوس دي؟"، ويستدرك الحقوقي بقوله "ده غير إنها كلها قروض يعني ديون".
وتزامنًا مع ما يحدث في مصر، مرر البرلمان الأوروبي في 10 أبريل/نيسان الماضي تعديلات على قوانين الهجرة واللجوء، تضيق أكثر على المهاجرين. يصف خليل هذه التعديلات بأنها "إجراءات فاشية للحد من الهجرة من منطلق أمني مش من منطلق حقوقي. تزايدت أعداد ملتمسي اللجوء، والاتحاد الأوروبي مش عايزهم".
مسؤولية المفوضية
من جانبها تغذي المفوضية السامية لشؤون اللاجئين هذا الوضع بتباطؤها في تسجيل المهاجرين، يقول خليل "فيه ناس أعرفهم خدوا مواعيد لإجراء المقابلة بعد سنة"، أما الإقامة الخاصة بالمسجلين لدى المفوضية فهي سارية لمدة 6 شهور فقط، وتصل فترة تجديدها لـ8 شهور، بعد أن كانت شهرين. قانونًا "اللاجئون مسؤولية المفوضية الحقيقة" كما يقول الدكتور إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة ومدير مركز دراسات الهجرة واللاجئين في الجامعة الأمريكية.
ويشرح عوض لـ المنصة "لما حد بيوصل، بيسجل نفسه كطالب لجوء، في النهاية إما يصبح لاجئًا أو يصبح غير ذي صفة. اللاجئ المسجل عنده 3 حلول مستمرة: إما إنه بيرجع بلده بإرادته إذا كانت الظروف في بلده تسمح، وإما أن يندمج في البلد اللي هو فيها، ومصر بترفض الاندماج على أساس إن فيه نمو سكاني، وإما أن يعاد توطينه. المسار الثاني لو تم رفض طلب اللجوء، إذا لم يغادر يصبح مهاجرًا غير نظامي".
كارت المفوضية هو مجرد إثبات شخصية، يقول نور خليل "هل وضع الشخص أصبح قانونيًا في مصر؟ لأ لسه. بياخد الكارت ويتوجه للنظام القانوني المصري عشان يبدأ عملية التسجيل بالحصول على الرقم المرجعي من وزارة الخارجية المصرية. دلوقتي بياخدوا الرقم المرجعي من منظمة كاريتاس".
لا يزال وضعه غير قانوني، يكمل خليل "لازم يروح إدارة الجوازات والهجرة التابعة لوزارة الداخلية يطلب تصريح إقامة كلاجئ أو ملتمس لجوء، بعدها بياخد كارت تصريح إقامة، وده اللي بيتجدد".
دوامة الإقامة
يأتي ذلك في ظل صدور قرار رسمي في يناير/كانون الثاني الماضي بـ تدقيق أعداد اللاجئين في مصر من رئاسة مجلس الوزراء. وما سبقه من موافقتها على مشروع قانون "غامض" على حد وصف خليل، وهو قانون لجوء الأجانب، لم تتضح تفاصيله منذ الإعلان عنه في 7 يونيو/حزيران 2023.
بعد أيام من موافقة الحكومة عليه، أحيل للجنة مشتركة من "لجنة الدفاع والأمن القومي، ومكاتب لجان الشؤون الدستورية والتشريعية، وحقوق الإنسان، والتعليم والبحث العلمي، والخطة والموازنة".
يستغرب خليل من المقترح "المعلومة بتقول تشكيل لجنة دايمة لشؤون اللاجئين، مهمتها تسجيل وعد وإحصاء اللاجئين المقيمين في مصر، طب المفوضية هتعمل إيه؟ اختصاصاتها هي اختصاصات اللجنة المقترحة".
"الغرض من المشروع حصر عدد اللاجئين وجنسياتهم وأسباب لجوئهم إلى مصر، وإصدار ما يمكن تسميته بتصريح لكل لاجئ"، حسب ما قاله مصطفى بكري نائب البرلمان لـ المنصة عبر رسالة صوتية.
أقر بكري بأن لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب كانت ناقشت مشروع القانون، "لكنه تأجل في دورة الانعقاد الماضية، ولم يُناقش في الجلسة العامة"، وهو ما أكده النائب أحمد الشرقاوي عضو لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية بالمجلس في اتصال مع المنصة "لم يُعرض على اللجنة التي أنا عضو بها".
تثير الحملات الأمنية الفزع بين اللاجئين والمهاجرين، تقول منى "رغم إن الولاد خدوا الكروت بس حركتنا لسه محدودة. أنا بقيت خايفة على ولادي يطلعوا، حتى لو نزلوا الدكان بخاف عليهم يتكرر سيناريو مصطفى".
نُقل مصطفى في 10 مايو من قسم الشرطة لأسوان، ومنها لأبو سمبل في اليوم التالي، ثم نقلوه بالعبَّارة إلى معبر قُسطل على الحدود الجنوبية، قبل تسليمه للشرطة السودانية، حسب والدته، التي عرفت هذه التفاصيل بعدما وصل إلى وادي حلفا بالسودان وتمكن من الاتصال بها.
بالنسبة لمنى، عودة مصطفى للسودان أفضل من بقائه هنا في السجن. لا يعرف مصطفى مصيره، فهو يسعى لإيجاد عمل وأيضًا للجوء مجددًا، ربما هذه المرة عن طريق آخر غير مصر، أما منى التي تريد العودة لابنها في السودان، تقول "إحنا ذاتنا قاعدين هنا وضعنا صعب شديد، فلوس ما فيه، شغل ما فيه، والمصروف كتير. لو الأمور هديت هناك هنرجع".