الموقع الرسمي لمفوضية اللاجئين UNHCR
أطفال لاجئون في السودان

للشفاء من الحرب والعنف.. سودانيات ينبشن في الذاكرة

منشور الخميس 13 يونيو 2024

تفتحت عينا سمر عثمان (*) على مشاهد الحرب؛ وهي في التاسعة من عمرها اندلع الصراع في إقليم دارفور عام 2003، لكنها استمرت في العيش بالإقليم، حتى اضطرت للمغادرة عام 2023، مع اقتراب النزاع الدموي بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني من مدينتها.

سمر كانت تملك محلًا للأثاث في مدينة نيالا، لكن الحرب أجبرتها على هجره والنزوح إلى الفاشر، غير أن العنف هناك كان أشدَّ ضراوة، فساقها إلى طريق مصر خوفًا على حياة أبنائها الثلاثة.

اعتداء جسدي

في الرحلة، تركت الحرب علاماتها على جسد سمر، فلم تسلم من الاعتداء الجنسي من أفراد قوات الدعم السريع، تقول لـ المنصة "قابلنا أفراد طلعوا الأوتوبيس اللي راكبينه وسرقوا كل شي معانا، حتى الرجال والشباب أخذوهم، لم يتركوا سوى النساء والأطفال، ما سابوا معانا غير هدومنا". تكمل "وقفونا في نقطة تانية، ولما ما لقيوا معانا شي يسرقوه اعتدوا علينا".

وصلت سمر، مصر، في يوليو 2023، بعدما أخذت الحرب منها أمانها وبيتها ومصدر رزقها وأفرادًا من عائلتها، لتبدأ معاناة جديدة ومشاعر مختلطة من الخوف والفقد والعجز. 

 ما يزيد على 4 ملايين امرأة عرضة لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي

تعاني سمر من اضطرابات في النوم، ولم تتعلم كيف تعبر عن مشاعرها، حتى تعرفت على مساحة "سند"، حيث التقت بباحثات وأخصائيات اجتماعيات. "سند" مساحة آمنة للتعبير عن المشاعر المتراكمة جراء الخبرة الطويلة مع العنف. 

تحتاج النساء اللاتي دهستهن آلة الحرب لمساعدة من أجل تجاوز آثارها النفسية وهو ما توفره أيضًا مؤسسة اتجاه الممولة من وزارة الشباب والرياضة وصندوق الأمم المتحدة للسكان والوكالة الإيطالية للتنمية.

التقت المنصة عددًا من السودانيات من مختلف الأعمار، يسكنَّ محافظتي الجيزة والقاهرة، يجمعهن كونهن ضحايا عنف قائم على النوع الاجتماعي تحت مظلة الحرب. 

رصد برنامج الأمم المتحدة للسكان بعد مرور عام على الحرب السودانية عددًا لا يحصى من التقارير عن العنف الجنسي في السودان، بما في ذلك الاغتصاب والاختطاف والزواج القسري وزواج الأطفال، إذ يُستخدم العنف الجنسي سلاحًا من أسلحة الحرب بشكل عشوائي وبلا رحمة. ما يجعل 6.7 مليون شخص في حاجة إلى الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي.

تقول آلاء صلاح مديرة مساحة "سند" إن "جلسات الدعم النفسي تساعد النساء على تجاوز ما حدث والتعايش مع الواقع"، فيما تقول سمر "أخذت وقت طويل لحد ما قدرت أحكي اللي حصلي. والمكان ساعدني كتير". 

فراق الأبناء

تقطع الحرب أوصال العائلة، قررت الثلاثينية ياسمين فؤاد(*) الخروج من السودان، ليس هربًا من الحرب بل بحثًا عن علاج لابنها الذي يعاني من ضمور في المخ، فالحرب المستمرة منذ أكثر من عام أخرجت المستشفيات من الخدمة.

تركت ربة المنزل الخرطوم على وقع هجمات الدعم السريع متجهة إلى وادي حلفا في رحلة استغرقت خمسة أيام، رغم أنها لا تستغرق أكثر من يوم بالسيارة؛ رحلة قاسية على أم مع ثلاثة أطفال، أحدهم مريض، وما إن وصلت القنصلية المصرية، حتى نشب خلاف بينها وبين زوجها، انتهى بأن تركها وأطفالها واختفى.

قبل الحرب، كانت أكثر من 3 ملايين امرأة وفتاة في السودان عرضة لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك عنف الزوج، وذلك وفق تقديرات الأمم المتحدة. ولكن العدد ارتفع منذ ذلك الحين إلى نحو 4.2 مليون.

 يوجد في مصر 300 ألف لاجئ سوداني

في القنصلية، التقت ياسمين المسؤولين للحصول على موافقة دخول مصر مع أبنائها الثلاثة "ماكنش معاهم جوازات سفر، مافيش غير ابني المريض عشان كنا طلعنا قبل كده للعلاج" تقول ياسمين لـ المنصة

لم توافق القنصلية على الطلب، فاضطرت لتركهما؛ طفلة في العاشرة من عمرها ورضيع لم يبلغ العامين بعد، مع أخيها بعد أن رفض زوجها رعايتهما "أصعب لحظة مريت بيها في حياتي. وكل ما أفتكر صورتهم وأنا بسيبهم وأمشي أبكي"، تقول ياسمين حابسة دموعها. 

وصلت ياسمين مصر في 25 يونيو/حزيران العام الماضي؛ هي تتحدث اللهجة المصرية، وسبق وزارت مصر عدة مرات، لكنها اليوم مجبرة على البقاء في مصر وحدها بجوار ابنها الذي يرقد في العناية المركزة بأحد المستشفيات "بين الحياة والموت"، على حد تعبيرها.

تشير تقديرات وبيانات منظمة الصحة العالمية في نوفمبر 2023 إلى أن 70% من المستشفيات في الولايات المتضررة جرَّاء النزاع توقفت عن العمل، وتعاني المستشفيات المتبقية من الإنهاك بسبب تدفق الأشخاص الذين يلتمسون الرعاية، وغالبيتهم من النازحين داخليًّا.

في يوم وليلة خسرت حضن أولادي وحياتي.. الحرب دمرتني بجد

يعيش أبناء ياسمين حاليًا مع عائلتها في منطقة واقعة تحت سيطرة الجيش السوداني، وهو ما يجعل الخوف الشديد والقلق الدائم يسيطران عليها فضلًا عن الشعور بالوحدة، وهو ما دفعها للانضمام إلى مساحة سند "كل اللي بطلبه حد يسمعني؛ أنا في يوم وليلة خسرت حضن أولادي وزوجي وحياتي، الحرب دمرتني بجد". 

سجلت ياسمين في مفوضية الأمم المتحدة للاجئين وحصلت هي وابنها على الكارت الأصفر، الذي يتسلمه طالب اللجوء، وطلبت الدعم لرعاية ابنها المريض والمساعدة في إحضار أولادها إلى مصر.

يبلغ عدد اللاجئين وطالبي اللجوء المسجلين في مصر  605 آلاف لاجئ وطالب لجوء، وفقًا لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر، وذلك حتى 29 أبريل 2024، منهم ما يزيد عن 300 ألف سوداني.

الشتات..

صادقة قاسم(*)، خمسينية وأم لخمسة أبناء، أكبرهم يبلغ من العمر 20 سنة والأصغر 9 سنوات، وهي زوجة ضابط متقاعد في الجيش السوداني.

كانت صادقة تعيش حياة مستقرة في أم درمان، لكنها أصبحت من أوائل الأسر التي تعرضت للاعتداء مع اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

تبكي وهي تتذكر يوم الهجوم على منزلها، وتحاول إخفاء وجهها من شدة الحزن، وهي تروي قصتها لـ المنصة "لما بدأت أصوات الدانات والقصف، زوجي حاول يتصل بزمايله في الجيش، لكن القوات سبقته".

تكمل صادقة "تعامل الجنجويد معنا بطريقة سيئة، وطلبوا من زوجي الخروج معهم ورفض، فوجهوا السلاح لأولادي الخمسة وحاول أولادي حماية أبوهم، لكن نجحوا ياخدوه معاهم بالقوة وللآن ما نعرف مكانه فين".

تتذكر صادقة وصية زوجها "طلب مني أسيب الخرطوم عشان ما يلحقونا"، فقررت النزوح. وصلت إلى ولاية الجزيرة لكنها لم تسلم في رحلتها من مضايقات قوات الدعم السريع، "حاولوا ياخدوا ابني الكبير بس قدرت أخرجه". 

كلما مرت على نقطة لقوات الدعم، كانوا يفاوضونها على أولادها الكبار، حتى وصلت إلى دنقلا، وهناك عرفت أن عليها الحصول على تأشيرات لدخول أولادها الكبار مصر، إذ تُلزم مصر السودانيين الراغبين في العبور إليها الحصول على تأشيرة دخول لمن هم أكبر من 16 عامًا. 

تركت المنزل الذي يعيش فيه عدد من السودانيين بعد تعرض ابنها للتحرش

دخلت صادقة مصر بالأولاد الأصغر سنًا 13 و9 سنوات في مايو/أيار 2023، وحاول الكبار الحصول على تأشيرة لدخول مصر، وظلوا في حلفا حتى تمكنوا من الوصول في أبريل/نيسان الماضي. 

سكنت في مصر مع جيران تعرفهم من السودان، إلا أن ابنها الذي لم يتجاوز عمره 13 عامًا تعرض منهم لمحاولة تحرش، وهنا قررت الخروج من المنزل والبحث عن سكن بديل.

ساعدتها إحدى المنظمات في الحصول على سكن، لكنها لم تتمكن من تسجيلهم في أي مدرسة بالإضافة إلى تزايد الضغوط المالية. كان لكل هذه الضغوط أثره "من كتر التفكير أصبت بالسكر والضغط. جيت مركز سند وأعطوني دعم نفسي، باجي أفضفض من الطاقة السلبية"، تقول صادقة.

وصفة للتجاوز

تحتاج الناجيات لدعم نفسي من أجل تجاوز آثار الحرب، خاصة في حالة السودانيات اللاتي يعانين عنفًا مضاعفًا، تقول آلاء صلاح "نقدم الدعم ونرفع الوعي حول ماهية العنف القائم على النوع الاجتماعي، سواء داخل الأسرة أو العنف الناتج عن الحرب"، كما أن من أدوار المساحة تقديم مساعدات صحية وخدمية، سواء من المساحة نفسها أو من الشركاء.

ليس هناك أفضل من مشاركة ودعم من مروا بنفس التجربة

تنقسم المساعدة التي تقدمها المؤسسة إلى أنشطة مهنية تمكنهم اقتصاديًا "خاصة أن أغلبهم من الخرطوم، وضعهم المادي والاجتماعي والدراسي مختلف ومشاكلهم مختلفة عن السودانيين الموجودين في مصر من قبل الحرب" حسب آلاء.

والجزء الثاني مساعدة نفسية من خلال محاضرات وتدريبات "اللي محتاجة لأكتر من كده بنوفرلها متخصص نفسي للعلاج"، وتؤكد آلاء أن أعدادًا منهم استطاعوا مساعدة زملائهم، فليس هناك أفضل من مشاركة ودعم من مروا بنفس التجربة، حسب زينب منصور مسؤولة إدارة الحالات المترددة على المركز سند لـ المنصة.

وتنصح زينب الناجيات من العنف بـ"ممارسة التعاطف الذاتي. اعلمي أن ماحدث لكِ من عنف ليس ذنبًا وأنك تستحقين الحب والتقدير"، وكذلك بضرورة تقبل المشاعر المختلفة تجاه ما مررن به "اسمحي لهذه المشاعر بالتحرر سواء حزنًا أو غضبًا فمشاعرك مقبولة عبري عنها دون كبت أو تجاهل". 

كما تؤكد زينب على ضرورة ممارسة الرعاية الذاتية المتمثلة في تمارين التنفس لتقليل الضغط، والمشي في الشمس والهواء، والنوم جيدًا.

تسعى صادقة للحصول على الدعم النفسي، الذي يساعدها على تقبل واقع فقد الأمان حتى تعود إلى السودان وتبحث عن زوجها، على حد قولها. فيما لا تزال سمر تعاني اضطرابات في نومها بسبب انقطاع أخبار أهلها المحاصرين في مدينة الفاشر "متابعة اللي بيحصل كل يوم وحاسة بالعجز ومش قادرة أطلعهم".


هذه القصة من ملف  اللاجئون في مصر.. ارتباك رسمي وعنصرية شعبية


الترحيل شبح يهددهم.. كيف تعامل الدولة "ضيوفها"؟

هدير المهدوي_  حصلت منى على الكارت الأصفر، لكنها لم تنجح في وقف ترحيل ابنها الكبير مصطفى في واحدة من الحالات التي تكشف طول الإجراءات والملاحقة الأمنية التي تزيد من صعوبة حياة اللاجئين في مصر.