برخصة المشاع الإبداعي: آنسبلاش
تمثال يمثل العدالة

لجان التحقيق النسوية.. وجه آخر للعدالة

منشور الأربعاء 4 يونيو 2025

في النصف الأول من عام 2020، وجدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير/AFTE نفسها في أزمة عميقة؛ أحد موظفيها نشر إقرارًا على السوشيال ميديا يفيد بارتكابه انتهاكات جنسية ضد عدد من الناجيات والضحايا، تزامن هذا مع رواج شهادات عديدة ضمن موجة البوح العلني بشأن وقائع عنف جنسي وتمييز مُورست في دوائر المجتمع المدني والجماعات السياسية.

في البداية، رفضت المؤسسة استقالة الموظف إلا بعد التحقيق معه، ثم اتخذت قرارًا بفصله مع ورود شكوى جديدة من إحدى الناجيات اللواتي تعرضن لانتهاك جنسي، ثم ما لبثت أن انتشرت شهادةٌ أخرى لإحدى العاملات السابقات ضد المدير التنفيذي السابق للمؤسسة تتهمه بتعنيفها لفظيًا لأسباب ترتبط بالتمييز على أساس النوع الاجتماعي، في هذه المرة طال الاتهام المؤسسة نفسها بأنها لا توفر بيئة آمنة للعاملين بها ولا تضع سياسات ثابتة لمكافحة التمييز القائم على النوع الاجتماعي ومحاسبة المسؤولين عن العنف الجنسي ضد النساء بصوره المختلفة.

من أجل التحقق من هذه الاتهامات، بادرت المؤسسة الحقوقية لتشكيل لجنة تحقيق مستقلة لتقصي الحقائق في وقائع الانتهاكات الجنسية والتجاوزات الإدارية، وكذلك البحث في عدم توفر بيئة آمنة ومنصفة للنساء داخل المؤسسة.

مسار عرفي

تخشى النساء اللاتي يتعرضن للتحرش التقدم ببلاغات لاقسام الشرطة بسبب ما يواجهنه من ضغوط

لم تكن هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها خبراء جندر  وحقوقيون متمرسون للجنة تحقيق مستقلة في شكاوى التحرش الجنسي، خصوصًا داخل المجتمع المدني، لكنها مثلت علامة بارزة في مسار آخر  للعدالة بعيدًا عن إجراءات التقاضي.

وُصف هذا الشكل في بداياته بالمسار العرفي لأنه يقع خارج الإطار القضائي المعروف، لكن مع مرور الوقت تحول إلى إجراء رسمي تعترف به المؤسسات وترتضي به الشاكيات والمشكو في حقهم في أغلب الحالات.

مع تنامي وتيرة الشكاوى من العنف الجنسي داخل أروقة المجتمع المدني، باتت هذه الممارسة العرفية جزءًا أصيلًا من التعاطي معها يرى حقوقيون تحدثوا إلى المنصة أنها أداة من أدوات التنظيم النسوي لتحقيق العدالة الغائبة في ساحة القضاء، ولا تنفصل عمَّا تنادي به اتفاقية منظمة العمل باتخاذ التدابير اللازمة من السياسات والقوانين لمنع ومعالجة العنف والتحرش في بيئات العمل.

 لا يوجد تاريخٌ محددٌ لظهور لجان التحقيق المستقلة، إلا أن عزة سليمان، الناشطة النسوية ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة قضايا المرأة المصرية، أحد أبرز الوجوه الحقوقية التي شاركت في لجان من هذه النوعية، تشير  إلى أن هذه الآلية اكتسبت زخمًا وشرعيةً حقوقيةً مع بداية عملها في وقائع الانتهاكات الجنسية التي حدثت داخل فريق مبادرة "شفت تحرش" المعنية بمكافحة التحرش في عام 2015، واستغرق عملها عدة أشهر للاستماع إلى الناجيات وشهود الإثبات.

استجابت  لتوصيات اللجنة ووضعت سياسة لمناهضة العنف الجنسي

تعود تفاصيل هذه الواقعة إلى عام 2015، حين قدَّم مجموعة من الأعضاء المؤسسين والناشطين في "شفت تحرش" استقالة جماعية احتجاجًا على ما وصفوه بـ"الانتهاكات داخل المبادرة"، إذ لم تعد بيئة آمنة للنساء والفتيات.

"كنتُ جزءًا من اللجنة وحققنا في انتهاكات إدارية جسيمة ارتُكبت بحق الأعضاء زي التمييز، وكمان ممارسات غير أخلاقية من بينها تصوير المشاركات بالمبادرة خلسة واستمعنا فيها لشهود كتير"، تقول عزة سلطان واصفةً هذه اللجنة بأنها كانت كبيرة خصوصًا من حيث عدد الأعضاء. 

وتعد الواقعة التي اشتهرت إعلاميًا بـ"فتاة الإيميل" من أبرز الوقائع التي أثارت جدلًا كبيرًا داخل المجتمع المدني النسوي والحقوقي، نظرًا للصدى الذي أحدثته وتداخلاتها الحقوقية والسياسية، إذ تقدمت موظفة سابقة بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بشكوى ضد المحامي الحقوقي خالد علي، الذي كان يشغل منصب مستشار المركز ووكيل مؤسسي حزب العيش والحرية حينها، وضد موظف بالمركز.

اكتسبت تلك الواقعة زخمًا إضافيًا مع إعلان خالد علي قراره بخوض الانتخابات الرئاسية عام 2018، الذي آثر التراجع عنه في النهاية. تشكلت لجنة التحقيق حينها بناءً على رغبة علي وانتهت إلى عدم إدانته بالتحرش الجنسي، غير أنها كانت سببًا رئيسيًا في استقالته من منصبه الحزبي وكذلك الحقوقي مستشارًا للمركز المصري للحقوق.

كيف تواجه المؤسسات رياح التحرش؟

في واقعة AFTE، خلصت اللجنة التي ضمت شخصيات معنية بقضايا الجندر ولها خبرة في إدارة لجان التحقيق، بعد جلسات تحقيق استمرت نحو الـ5 أشهر إلى تقديم الموظفين السابقين الذين ثبت إدانتهم بموجب الشكاوى اعتذارات علانية مكتوبة عن العنف اللفظي الذي اقترفوه بحق عاملات بالمؤسسة، كما أوصت اللجنة المؤسسة بتلقي طلبات جبر ضرر الناجيات وضحايا الانتهاكات الجنسية من العاملات في المؤسسة.

سارعت AFTE إلى إعداد وتبني سياسة لمناهضة العنف الجنسي، وإنشاء لجنة من العاملين لتلقي الشكاوى والتحقيق في الوقائع المتعلقة بالعنف أو التمييز، إضافة إلى الاعتماد على خبيرة جندر وفقًا لما جاء في توصيات لجنة التحقيق.

"نشرنا التوصيات على موقع المؤسسة، كما أوصت اللجنة، وعيَّنَّا خبيرة جندر وفعّلنا جميع الآليات لتحسين بيئة العمل ووضع ضوابط تسري على الجميع" يقول محمد عبدالسلام المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير.

ساعد هذا على توفير مسارات إجرائية واضحة ومعلنة للتعامل مع الشكاوى، وهو ما تحقق في التعامل مع إحدى حالات التحرش التي وقعت داخل المؤسسة في عام 2022، وانتهت بفصل الموظف بشكل نهائي لإدانته بعد تحقيق اللجنة الداخلية بالتحرش بعاملتين بالمؤسسة، كما يؤكد عبد السلام لـ المنصة

طباخ السم 

العنف ضد المرأة

يؤكد المدير التنفيذي لمؤسسة حرية الفكر والتعبير على إمكانية حدوث انتهاكات في أي مكان عمل، ولكن كيفية مجابهة ذلك واتخاذ الإجراءات الحمائية والعقوبات التأديبية الملائمة هي مربط الفرس، متابعًا "البعض متخيل إنه عشان مجتمع مدني مش ممكن يحصل فيه تجاوزات، وأفتكر إن التصور ده هو سبب غياب الاهتمام بوجود آليات التحقيق الداخلية".

بتطبيق لائحتها الداخلية، لم تعد حرية الفكر والتعبير تعتمد على لجان مستقلة من الخارج للتحقيق في حوادث التحرش الجنسي داخل المؤسسات.

ورغم خبراتها في تشكيل لجان التحقيق، فإن مؤسسة قضايا المرأة المصرية، لجأت للجنة خارجية بعدما أوقفت أحد محاميها عن العمل بعد تلقيها شكاوى من نسمة الخطيب مؤسسة مبادرة سند لتقديم الدعم القانوني للنساء، تتهمه فيها بالتحرش جنسيًا بإحدى صديقاتها.

"رغم أن واقعة التحرش حدثت قبل التحاق الموظف بالعمل لدى المؤسسة بفترة طويلة، لكننا تعاملنا مع الأمر بشفافية. أوقفناه عن العمل وشكلنا لجنة تحقيق تضم حقوقيين بارزين لتحقيق الشفافية رغم أنه كان من الممكن أن نجري نحن هذا التحقيق بحكم خبرتنا في مثل هذه اللجان"، تقول عزة سليمان، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة قضايا المرأة المصرية. 

رد اعتبار

في الوقائع المذكورة بدا الوضع مثاليًا وشفافًا لدرجة كبيرة، إذ اعترف المشكو في حقهم بأخطائهم، والتزمت المؤسسات بنشر نتائج لجنة التحقيق، لكن ذلك ليس الحال دائمًا، فهناك وقائع أخرى رفض المشكو في حقهم الاعتراف بالنتائج التي خلصت إليها لجنة التحقيق المستقلة.

واتهمت كاتبات وموظفات سابقات صاحب دار نشر في القاهرة بالتحرش، وأعلنوا في بوستات على فيسبوك وقف التعاون مع الدار بدعوى أنها ليست بيئة آمنة للنساء العاملات في المجال الثقافي، بادر صاحب الدار بالتعبير عن استعداده للمثول هو وفريقه للتحقيق أمام لجنة مستقلة. 

هذه القضايا لا تغلق بشكل نهائي بمجرد إصدار لجان التحقيق قراراتها

تشكلت اللجنة من ثلاث ناشطات هن عزة سليمان وماهينور المصري وزينب خير، وانتهت إلى إثبات تهمة التحرش جسديًا بالشاكيات الثلاث، كما أثبتت اللجنة التحرش اللفظي عبر جُمل وكلمات تحتوي إيماءات جنسية، وإثبات الملاحقة بشاكية رابعة وبث الخوف في نفسها ومحاولة الوصول إليها.

"في واقعة دار النشر، اللجنة كانت تستعد لإعلان نتائج تحقيقاتها وتلقت شكوى من ناجية أخرى وكنا بصدد دمجها في التحقيق لكن فوجئنا بطعن المشكو في حقه في معايير اختيار الأعضاء بدعوى أن إحدى الناجيات من نفس محافظة واحدة مننا"، وهو ما تستنكره عزة كسبب الطعن وتعتبر أنه "لا أساس له من الصحة، وهدفه تعطيل صدور قرار اللجنة بعد التأكد من إثبات التحرش ليقوم في النهاية بسحب تكليفه من اللجنة".

سحب صاحب دار النشر التكليف من اللجنة، لكن الشاكيات رأين في النتيجة رد اعتبار، حسب وصفهن.

حق التقاضي أصيل

تفصل عزة سلطان، الخبيرة في لجان التحقيق، بين طبيعة عملها وما تؤول إليه الأمور "إحنا بنطلع بنتايج وبنبلغ اللي كلفنا بالتحقيق وما لناش دعوة بعد كده"، مؤكدة على أن لجوء الشاكيات إلى القضاء حق أصيل لهن.

ولا ترى لبنى درويش، مسؤولة ملف الجندر بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، تعارضًا بين المسارين القضائي والحقوقي، وتؤمن أنه كلما تنوعت مسارات العدالة كان ذلك في مصلحة الشاكيات، وتؤكد لـ المنصة أن تعدد وسائل إنصاف الضحايا وجبر الضرر يصب في مصلحة النساء، و"لو كانت هناك 7 طرق للعدالة في آن واحد سيكون منصفًا أكثر".

توافقها الرأي إلهام عيداروس الناشطة النسوية في أن الهدف من لجان التحقيق ليس إلغاء المسار القضائي بل تنويع أدوات العدالة المتاحة أمام أفراد المجتمع بين سلك المسار القانوني بتحدياته وصعوباته، أو اللجوء للتنظيم الداخلي للفصل في هذا النزاع.

اليوم يمكننا أن نلحظ هوسًا مشابهًا، فاستباحة أجساد النساء بلمسهنَّ عنوة في الشوارع

كثير من هذه القضايا لا تغلق بمجرد إصدار لجان التحقيق قراراتها، حتى وإن كانت تصبُّ في مصلحة الشاكيات وإثبات تعرضهن للتحرش.

آية طنطاوي، الكاتبة وإحدى الشاكيات في قضية دار النشر، عبّرت عن ارتياحها لما خرجت به اللجنة، لكنها تدرس الانتقال بالشكوى إلى القضاء، "حصلت على حقي بتقرير اللجنة بإثبات الفعل وقد أذهب إلى القضاء لكنها معركة مؤجلة في الوقت الحالي، لأنه عبء نفسي كبير أتحمله لكنه قد يحدث لاحقًا حتى ولو بعد 10 سنوات، لأن التحرش لا يسقط بالتقادم"، تقول لـ المنصة.

لم تختبر آية لجنة تحقيق من قبل وكانت تعتريها مخاوف من عدم إثبات التحرش الجنسي، إلا أنها قبلت اللجوء لهذه الأداة مع طرح صاحب دار النشر هذا الإجراء للفصل في الشكاوى، مشيرة إلى أن هذه المخاوف تبددت مع بداية عمل اللجنة.

ألقت هذه الواقعة حجرًا في المياه الراكدة بعد تدفق الكثير من الأخبار عن تحذير كاتبات من التعامل مع هذه الدار، وهو ما دفع اتحاد الناشرين مؤخرًا إلى صياغة مدونة أخلاقيات العمل وقواعد السلوك لوضع ضوابط تضمن الالتزام الأخلاقي والمهني في بيئة العمل ومكافحة التمييز، من المقرر تعميمها على كافة أعضائه للعمل بها في دور النشر الخاصة بهم.

رغم أن الاتحاد لم يلزم الناشرين بتطبيق هذه المدونة في مؤسساتهم، فإن ندى نشأت مديرة برنامج المشاركة العامة للنساء بمؤسسة قضايا المرأة المصرية اعتبرتها خطوة إيجابية لتحسين بيئة العمل داخل دور النشر، وتشكيل مظلة أوسع لاستقبال شكاوى التحرش الجنسي والتمييز في نطاق العمل، سواء كانت من موظفات بهذه الأماكن أو متعاملات كالكاتبات وغيرهن.

"واقعة دار النشر أثارت حراكًا داخليًا في الأوساط الثقافية ما استدعى تدخل اتحاد الناشرين في ظل غياب آليات التحقيق الداخلي وعدم إقرار مدونات سلوك في غالبية دور النشر المصرية للتعامل مع تلك الحالات" تضيف مديرة برنامج المشاركة العامة للنساء بمؤسسة قضايا المرأة.

معوقات وأوجه قصور

تشير ندى نشأت التي تعمل على بحث أكاديمي حول اللجان المستقلة إلى عدد من المعوّقات التي قد تغل أيدي اللجان، فهي باعتبارها لا تزال أداةً بكرًا تحاصرها الشكوك والانتقادات، ولا تحصل على اعتراف كامل كمسار رسمي بديل عن التقاضي، ولا تعد قراراتها إلزامية في بعض الحالات التي يتم اللجوء إليها إذا كان الطرفان أو أحدهما لا ينتمي لمؤسسة.

وتلفت إلى أن اللجان كذلك قد تفتقد لالأدوات التي تساعدها على إنجاز عملها مثل إلزام الشهود بالامتثال أمامها.

ليس المشكو في حقه فقط من يرفض المثول أمام اللجان، ففي أحيان أخرى، ترفض المدعية ذلك مثل ما حدث في واقعة "فتاة الإيميل"، مع امتناع عدد من الأطراف أو الشهود المهمين عن الشهادة، إلى جانب تشكيك بعض الأطراف في نيات المحققين حتى بعد تكليفهم ببدء عملهم.

لعزيزة الطويل، المحامية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، عدة تجارب مع لجان التحقيق التي تشكلت للبت في شكاوى التحرش الجنسي، توضح أنه قد يعوق عملها عدم جدية الشاكيات والمشكو في حقهم في متابعة مسارات الشكوى ومحاولة التلاعب بالأدلة وعدم توافر الشهود، فضلًا عن اتهام اللجان بالانحياز لأي طرف من الطرفين.     

أقصى العقوبات لجرائم التحرش في السياق المؤسسي هو فصل الموظف أو المسؤول المدان

"اضطريت أنسحب من إحدى اللجان لعدم جدية الطرفين في متابعة تفاصيل التحقيق ومساعدة اللجنة على أداء عملها"، تقول عزيزة لـ المنصة.

وتضيف "لازم ناخد في اعتبارنا إن أعضاء اللجنة بيعملوا بشكل طوعي بدون أجر ومسؤولين عن إنهم يسمعوا ويدققوا ويخرجوا بنتيجة سليمة ويتأكدوا إن ما حدش بيضغط على الشاكيات أو بيلاحقهم". 

وتشرح عزة سليمان آلية عمل لجان التحقيق فهي تقوم بـ"توصيف الأفعال والجرائم التي وقعت بآليات واضحة عن طريق الاستماع للشهود وإجراء المقابلات، وتوثيق ذلك بالتسجيلات، وطالما ارتضى الطرفان بأعضاء اللجنة ووثقا في نزاهتهم وكفاءتهم لا يجوز لأحد الاعتراض على النتائج في النهاية".

عقوبات معنوية 

جبر ضرر الضحايا من النتائج التي توصي بها هذه اللجان، إذ تلفت عزيزة الطويل إلى أن اللجان مسؤوليتها إلزام المؤسسات بذلك إما بشكل أدبي عن طريق اعتذار علني مكتوب أو مادي من قبل المؤسسة، أو بتقديم دعم مادي للناجيات من العنف مع خصم مستحقات مالية من المشكو في حقهم وهو أمر لا يتحقق كثيرًا ومرتبط في بعض الحالات بالإمكانيات المادية لكل مؤسسة.   

وفيما تقرُّ إلهام عيداروس بأن أقصى العقوبات لجرائم التحرش في السياق المؤسسي هو فصل الموظف أو المسؤول المدان، فإنها تؤكد على أن "الهدف ليس التأديب أو التشهير بل إصلاح المؤسسة وخلق بيئة مناسبة للأفراد الذين يعملون بها من خلال تحقيقات يقودها أشخاص مشهود لهم بالكفاءة وأصحاب سمعة جيدة".

لا تعد إلهام توفير آليات داخل المؤسسات لضمان بيئة عمل آمنة للنساء ترفًا بالنظر  إلى بنود الاتفاقية رقم 190 الصادرة في يونيو/حزيران 2019 عن المؤتمر الدولي لمنظمة العمل الدولية، التي تلزم جهات العمل بوضع سياسات داخلية واضحة تحد من جريمة التحرش الجنسي داخل أماكن العمل.

وقع على الاتفاقية عشرات الدول، لم تكن مصر من بينها مع غالبية الدول العربية، وهو ما دعا مؤسسات نسوية إلى مطالبة الحكومات العربية بالمصادقة على هذه الاتفاقية لاتخاذ التدابير اللازمة من السياسات والقوانين لمنع ومعالجة العنف والتحرش في عالم العمل.

لماذا لا تذهب النساء إلى القضاء؟ 

النتيجة النهائية غالبًا ما تكون تنازل المرأة عن المحضر ضد المعتدي في مقابل تنازله عن المحضر الذي حرره ضدها.

"لعدم الثقة في المسار القضائي خصوصًا في قضايا العنف الجنسي، وما تواجهنه من معوقات في الإبلاغ وعدم معالجة المشرع للقوانين المرتبطة بالعنف"، تشير عزة سلطان إلى أسباب عزوف الكثير من النساء عن سلوك المسار القضائي، فالقانون لا يزال يعرّف الاغتصاب بأنه إيلاج العضو الذكري فقط، إضافة إلى إلزام الشاكيات بتوفير أدلة الإثبات، كما لا يوجد متخصصون في القضاء والشرطة مؤهلين للبت في هذه القضايا.

رغم صدور تعديلات في القانون بجعل التحرش جناية وتغليظ المشرع العقوبة خلال السنوات الماضية، وصلت إلى السجن عشر سنوات في بعض الحالات المشددة، فإن هذه التعديلات تبقى حبرًا على ورق لأنها غالبًا ما تنتهي بغرامة مالية زهيدة، أو حكم بالحبس مع إيقاف التنفيذ، فضلًا عما تواجهه الشاكيات من صعوبة بالغة لإثبات تعرضهن لانتهاكات جنسية، وفي أحيان يجري تحويل الشاكيات أنفسهن إلى متهمات.

"أقسام الشرطة والمنظومة القضائية في مصر غير معدة للتعامل مع البلاغات التي تتقدم بها النساء عمومًا، سواء كانت المبلغة تعرضت للتحرش أو الاغتصاب أو حتى السرقة، المرأة لا تشعر بالراحة في هذه الأماكن لغياب العنصر النسائي القادر على استيعاب شكاوى وبلاغات بهذه الحساسية" يقول المحامي الحقوقي مكاريوس لحظي.

يوضح لحظي لـ المنصة أن غياب الثقة وعدم توفير الأمان للشاكيات وغياب ثقافة التعامل مع الضحايا من النساء يدفع البعض إلى العزوف عن الإبلاغ في حالات التحرش الجنسي، على عكس ما يحدث من مباحث الإنترنت التي تحقق بالفعل في عشرات البلاغات التي تتقدم بها متضررات من الابتزاز الإلكتروني بعد انتشار هذه الظاهرة على نطاق واسع في السنوات الماضية، وهو ناتج عن جدية مباحث الإنترنت في التعامل مع البلاغات والتحقيق فيها على عكس ما يحدث في وقائع التحرش الجسدي.

الإجابة قانون العنف الموحد 

رغم المحاولات المتكررة لتقديم مشروع قانون العنف الموحد إلى مجلس النواب، لم تتم مناقشته في جلسة عامة للبرلمان حتى الآن. "البرلمان تجاهل بشكل متعمد خلال السنوات الماضية مناقشة المشروع، وهو ما يشي بأن هناك قرارًا سياديًا بعدم فتح المجال لمناقشة مثل هذه القوانين" تقول لبنى درويش.

تشير لبنى إلى تركيز الجهود النسوية الفاعلة في ضبط مفاهيم العنف ضد النساء بشكل أكثر شمولًا، وليس فقط التوسع في تغليظ العقوبات ليشمل ذلك العنف بشكله الواسع في المنزل والشارع والعمل، بما يعيد التفكير في العلاقة بين النساء والقانون.    

ورغم أن آلية التحقيق الداخلية تحقق أهدافها في بعض الوقائع، فإن المحامية عزيزة الطويل مقتنعة بأن هذا الشكل من التنظيم ما زال وليدًا حتى الآن ولم ينضج بعد ويحتاج لسنوات من الممارسة للحكم عليه إيجابًا أو سلبًا.