"أمر النائب العام بحبس المتهم أحمد بسام زكي أربعة أيام احتياطيا على ذمة التحقيقات؛ لاتهامه بالشروع في مواقعة فتاتين بغير رضاهما، وهتكه عرضهما وفتاة أخرى بالقوة والتهديد.. وتهديدهن وأخريات بإفشاء ونسبة أمور لهن مخدشة لشرفهن، وكان ذلك مصحوبًا بطلب ممارسة الرذيلة معهن وعدم إنهاء علاقتهن به".
هكذا بدأ بيان النيابة العامة المصرية الذي انتظره كثيرون في وقائع توجيه عدد كبير من الفتيات اتهامات للمدعو أحمد بسام زكي باغتصابهن، في شهادات تجاوزت المئة تداولها مستخدمو منصات التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية.
ما كان لافتًا في بيان النيابة أنه لم يتطرق أبدًا إلى جريمة الاغتصاب التي تؤكد فتيات أن المتهم ارتكبها بحقهن، لم يرد لفظ "اغتصاب" أصلًا في بيان النيابة العامة الذي تحدث عن توجيه اتهامات بـ "هتك عرض"، و"الشروع في مواقعة فتاتين بغير رضاهما"، والتهديد وطلب ممارسة الرذيلة وغيرها، ليطرح السؤال المهم نفسه؛ أين الاغتصاب أنا لا أراه؟
أيام قليلة قبل واقعة أحمد بسام زكي، قُتِلت الشابة إيمان عادل (فتاة طلخا) على يد رجل حاول اغتصابها بالاتفاق مع زوجها الذي كان يرغب في تطليقها بسبب رفضها زواجه مرة ثانية. ما لفت انتباهي في بيان النيابة حول هذه الجريمة هو أن الزوج اختلق واقعة "تخل بشرفها"، فاتفق مع عاملٍ لديه على أن يتوجه لزوجته و"يواقعها كرهًا عنها" حتى يتمكن الزوج من ضبطها في "حالة مخلة" فينهي علاقته بها.
تساءلت كثيرًا عن العلاقة بين تعرض فتاة للاغتصاب والإخلال بشرفها. ما الذي يجعل الزوج يعتقد أن تعرض زوجته للاغتصاب سيؤثر على شرفها؟ وعززت هذه الأسئلة أيضا تصريحات والد الضحية الذي قال "هو كان عاوز يشهر ببنتى فربنا شهر بيه"، ما هو وجه التشهير بفتاة إذا اغتصبها أحدهم؟
وكوني لست قانونية، فذهبت للبحث في قانون العقوبات المصري عن جريمة "الاغتصاب" باعتبارها من أشد جرائم العنف الجنسي وطأة، لأجد أن لفظ "اغتصاب" ورد في القانون 4 مرات، جميعها أتت في سياق الحديث عن جرائم السرقة والنهب سواء للأراضي أو الأموال، بالإضافة لعنوان الباب الثامن من القانون "السرقة والاغتصاب". أما الفعل "اغتصب" فورد مرةً واحدةً عند حديث المشرع عن سرقة السند المثبت بالقوة أو التهديد في المادة 325.
لكن المشرع لم يستخدم لفظ "اغتصاب" في توصيف جريمة العنف الجنسي الأشد واستبدله بلفظ "مواقعة أنثى كرها"، وهو ما نصت عليه المادة 267 من قانون العقوبات التي تنص على أن "من واقع أنثى بغير رضاها يُعاقب بالإعدام أو السجن المؤبد. ويُعاقب الفاعل بالإعدام إذا كانت المجني عليها لم يبلغ سنها ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان الفاعل من أصول المجني عليها أو من المتولين تربيتها أو ملاحظتها أو ممن لهم سلطة عليها أو كان خادماً بالأجر عندها أو عند من تقدم ذكرهم، أو تعدد الفاعلون للجريمة".
في حالة إيمان، أقرت النيابة وقوع جريمة الاغتصاب دون ذكر اللفظ نفسه، بل استعاضت عنه بعبارات مثل "مواقعتها كرها" دون استخدام لفظ "اغتصاب" نفسه كتعبير عن الجريمة البشعة التي ارتكبها الجناة، وهو نفس الذي جاء في بيان النيابة الخاص بواقعة منة عبد العزيز (فتاة التيك توك) التي ظهرت قبل أكثر من شهر في مقطع مصور تتهم شابا يدعى مازن إبراهيم باغتصابها، ثم ألقي القبض عليها في البداية كمتهمة - وهي لم تبلغ الثمانية عشر من عمرها- وحبست، قبل إيداعها في أحد المراكز المخصصة لاستضافة المرأة المعنفة، وهي خطوة خطوة إيجابية على كل حال.
لفظ "واقع" في المعجم الوسيط يأتي بمعنى "جامع"، "واقع المرأة" تعني جامعها أو عاشرها جنسيا، ولكن تسمية القانون جريمة الاغتصاب بـ "واقع أنثى بغير رضاها"، في رأيي، لا يعبر مطلقًا عن جريمة ببشاعة الاغتصاب الذي يعرفه نفس المعجم بأنه "أخذ الشيء قهرًا وظلمًا"، وفرق لغوي شاسع بين المعاشرة الجنسية بغير رضا وانتهاك الجسد قهرًا وظلمًا.
الاغتصاب ليس معاشرة ولا مواقعة ولا يعبر عن أي اتصال جنسي سواء برضا أو بدونه. الاغتصاب اعتداء واضح وصريح ومباشر، بنفس ثقل الكلمة وهولها وما تحمله من قهر وظلم، الاغتصاب ليس شيئًا سوى اغتصاب، وبالتالي فلا داعي لتمييع الكلمة واستخدام إشارات وعبارات فضفاضة لا تعبر عن الواقع الأليم للناجيات من العنف، هذا هو الواقع فدعونا نراه على بشاعته.
عنف جنسي أم إفساد للأخلاق؟
صنف المشرع جرائم العنف الجنسي في الباب الرابع من الكتاب الثالث من قانون العقوبات المصري تحت اسم "هتك العرض وإفساد الأخلاق" بالرغم من أن غالبية الجرائم الواردة فيه هي جرائم عنف واضحة. وذلك إن دل على شيء فهو يدل على المنظور الأبوي الذي يرى المشرع جرائم العنف الجنسي من خلاله.
تتحدث ورقة بحثية أصدرتها مؤسسة نظرة للدراسات النسوية بعنوان العنف الجنسي بين فلسفة القانون وإشكاليات التطبيق عن قصور واضح في التشريعات الخاصة بجرائم العنف ضد النساء له علاقة باستخدام تعبيرات ومصطلحات "أبوية" و"غير دقيقة". وبرغم تغليظ العقوبات المرتبطة ببعض جرائم العنف الجنسي وتبني أو تعديل بعض المواد في قانون العقوبات، إلا أن تغليظ العقوبة لم يكن الحل الأمثل للحد من تلك الجرائم، بل يكمن القصور في وصف تلك الجرائم "وإعطاء تعريفات ذات مدلول ضيق ومحدود لمفاهيم مهمة جدا للحد من العنف ضد النساء".
نحن هنا نتحدث عن فلسفة المشرع وتوجهاته الثقافية التي يخرج بموجبها النصوص التشريعية، فمثلا إذا كان المشرع يرى أن الاغتصاب جريمة عنف مثله مثل الضرب فسيكون مجرد وقوعه جريمة في حد ذاته حتى وإن كان الجاني هو الزوج، لكن المشرع المصري لا يعترف بالاغتصاب الزوجي كجريمة باعتباره "حق للزوج" مقرر بمقتضى الشريعة. هنا يظهر الفرق بين فعل "المواقعة" من جهة وجريمة "الاغتصاب" من جهة أخرى، لتتحول جريمة الاغتصاب، في منظور المشرع، من جريمة عنف جنسي تستهدف جسد إنسان إلى تعدٍ على شرف وعرض الناجية، من منطلق "فساد أخلاق" الجاني.
هذه الرؤية الأبوية للمشرع تخلق إشكاليات كبيرة في صياغة النصوص القانونية التي تتصدى لجرائم العنف الجنسي، فيعطيها توصيفات تخل بمعناها الحقيقي أو لا تمت إليه بصلة. فعلى سبيل المثال، يقتصر تعريف المشرع المصري للاغتصاب، الذي لا يسميه اغتصابًا، على أنه "الاتصال الجنسي الذي يشتمل على إيلاج العضو الذكري التناسلي بالعضو الأنثوي"، دون الاعتبار إلى الاغتصاب الشرجي، أو الفموي، أو انتهاك العضو التناسلي للمجني عليها باستخدام آلة حادة أو أي شيء آخر. هذه الجرائم كلها، بالنسبة للمشرع، هي جرائم "هتك عرض" تقل عقوبتها عن عقوبة الاغتصاب.
ولست هنا بصدد تقييم مدى غلاظة العقوبة وملائمتها للواقعة، لكن ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو اختيار المشرع العقوبة الأغلظ (الإعدام) في حال الاغتصاب وفق تعريفه الذي يقتصر على الاتصال الجنسي الطبيعي، مقابل تخفيف عقوبة الأنواع الأخرى من الاغتصاب، رغم أنها نفس الجريمة، وهو ما يعني أن الجاني بإمكانه اغتصاب المجني عليها بأشكال أخرى مع إمكانية هروبه من العدالة في ظل الأبواب الخلفية التي فتحها المشرع أمام المغتصبين الذين لم "يواقعوا" ضحاياهن بالشكل الذي حدده بل بأشكال أخرى كالاغتصاب الشرجي وغيره- كما في حالة أحمد بسام زكي.
وحتى عندما اتخذت الحكومة المصرية خطوة إيجابية بإقرارها تعديلات على بعض مواد قانون الإجراءات الجنائية لحفظ سرية بيانات الناجيات في جرائم العنف الجنسي، قالت في بيانها إن هذا التعديل "يهدف إلى حماية سمعة المجني عليهم، من خلال عدم الكشف عن شخصيتهم في الجرائم التي تتصل بهتك العرض، وفساد الخلق، والتعرض للغير، والتحرش، الواردة في قانون العقوبات وقانون الطفل، خشية إحجام المجني عليهم عن الإبلاغ عن تلك الجرائم"، وكأن هناك إصرار من المشرع على أن جرائم العنف الجنسي الممارسة ضد النساء تجعل من الناجية شخصًا موصومًا وسيئ السمعة في حين أن هناك أسباب أوقع لإقرار مثل هذا التشريع منها مثلا منع المجرمين من الانتقام من الناجيات، أو محاولات الضغط عليهن ومساومتهن للتنازل كما حدث بالفعل في العديد من الوقائع السابقة.
لا اغتصاب للرجال؟
كذلك إذا نظرنا إلى المادة 268 من قانون العقوبات والخاصة بـ"هتك العرض" وفق ما اختار المشرع تسميته، سنجد أنها تنص على أن "كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع في ذلك يُعاقب بالسجن المشدد. وإذا كان عمر من وقعت عليه الجريمة المذكورة لم يبلغ ثماني عشرة سنة ميلادية كاملة أو كان مرتكبها أو أحد مرتكبيها ممن نُص عليهم في الفقرة الثانية من المادة (267) تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، وإذا اجتمع هذان الظرفان معًا يُحكم بالسجن المؤبد".
عندما تحدث المشرع عن ضحايا جريمة هتك العرض استخدم كلمة "إنسان" ولكنه عندما تناول الاغتصاب في المادة 267 قال "من واقع أنثى..". أي أنه خص جريمة الاغتصاب بالمجني عليهن من الإناث وهو ما يمنح مؤشرات على رؤية المشرع لجرائم العنف الجنسي فقط كجرائم ضد الشرف، وللإناث باعتبارهن أدوات جنسية. فالاغتصاب، برأيه، لا بد أن يقع على أنثى لأن ثبوته كجريمة يتطلب انتهاك عضو تناسلي لامرأة.
أما هتك العرض، والذي يشمل أنواع الاعتداء الجنسي الأخرى، فقد قد يحدث لذكر أو أنثى، لذلك سُمّي بـ "هتك العرض"، لأن هذه الجريمة، في ذهن المشرع، ذات علاقة بالشرف والعرض، والشرف في نظره قد يخص الأنثى تمامًا كالذكر، وذلك يبرز مدى القصور في وصف جرائم العنف الجنسي.
ولكن لا يجب أن ننسى أن قانون العقوبات المصري صدر في عام 1937، ورغم كل التعديلات التي طرأت عليه، فما زالت الكثير من مواده لا تناسب السياق الاجتماعي الراهن.
تذكرت نقاشًا حضرته منذ فترة قريبة لصديقتي الناشطة النسوية أسماء دعبيس، وهي ذات باع طويل في مناهضة العنف ضد المرأة، نبهني إلى أن المشرع المصري ما زال يرى في جرائم العنف الجنسي جرائم تستهدف الأخلاق، ويتعامل معها من منظور أبوي ويصنفها كـ "جرائم شرف"، رغم أنها في حقيقتها جرائم عنف تستهدف أجساد النساء.
وبرغم تصديق الدولة المصرية على المعاهدات والمواثيق الدولية التي تكفل الحق في سلامة الجسد، إلا أن التعامل مع جرائم العنف الجنسي من منظور أخلاقي لم يتغير، وهو ما نبهتني إليه أسماء، حيث يضع ذلك عبئًا كبيرًا على المجني عليهن في مسار التقاضي، بالإضافة إلى العبء المجتمعي الذي يوصم المرأة أخلاقيا عندما تطالب بحقها ويحولها من مجني عليها إلى جانية، وبذلك يتحول القانون الذي يفترض أنه أداة لحفظ الحقوق، إلى سبب في ضياع هذه الحقوق. فعندما لا تسمى الوقائع بمسمياتها الفعلية ولا تمنح توصيفاتها الصحيحة تهدر حقوق النساء في أجسادهن وتنصرف كثيرات منهن عن اتخاذ المسار القانوني لأن القانون لا يعترف بأحقيتهن في امتلاك أجسادهن.
مع بداية انتشار شهادات الناجيات من اغتصاب المتهم أحمد بسام زكي، ثار تساؤل على ساحات التواصل الاجتماعي حول سبب سكوت الفتيات كل هذا الوقت، وكان يُطرح بطريقة تلقي باللوم على الناجيات، بدلًا من التساؤل حول أسباب وقوع الجريمة من الأساس، وعن حق الناجية في محاسبة الجاني.
العنف الرمزي
ينظر المشرع إذن إلى جرائم العنف الجنسي التي تستهدف النساء غالبًا كجرائم تستهدف الأخلاق، ويراها مسائل ترتبط بفساد الخلق ما يستوجب بالتالي إعادة التربية بما يتناسب مع القيم الأخلاقية للمجتمع وهو ما يعتبره عالم الاجتماع بيير بورديو كأحد أنواع العنف الرمزي والذي يفترض تعسف جهة ما لنمط ثقافي معين، دون أن يفوتنا إعادة التذكير بأننا بصدد الحديث عن قانون صدر عام 1937، في سياق مختلف تمامًا عما نعيشه اليوم.
هذا النفوذ التعسفي يُمارس من قبل جماعة معينة أو تشكيلة اجتماعية، وهو جزء من الاتصال التربوي الذي يهدف إلى "فرض وترسيخ نموذج ثقافي تعسفي وفق نمط تعسفي من الفرض والترسيخ (التربية)" بحسب بورديو في كتابه العنف الرمزي، كما أن هذا النموذج الذي يقع ضمن نسق التعسفات الثقافية يعبر عن المصالح الموضوعية (المادية والرمزية) التي تسعى إلى تحقيقها الجماعات أو الطبقات الغالبة.
ويتأثر العنف الرمزي دائما بعلاقات القوة القائمة بين الجماعات والطبقات المكونة لها، بل ويكتسب شرعيته بتوافر الشروط الاجتماعية الضرورية لفرضه وترسيخه، ويستتبع بوجود سلطة تربوية واستقلالية نسبية تتمتع بها المرجعية التي تمارسه.
تساهم نماذج العنف الرمزي تساهم في إعادة إنتاج البنية المجتمعية بما يتناسب مع القيم الخاصة بالنماذج الثقافية التي تعاود الأنشطة التربوية المختلفة إنتاجها لأنها تتناسب مع المصالح المادية والرمزية المتموضعة في حقل موازين القوى، وبموجب هذا النشاط تتولد السلطة الرمزية لدى بورديو الذي يصفها بأنها سلطة "غير مرئية لكن تأثيرها أعمق وأخطر لأنها تستهدف المستوى النفسي والذهني للفرد بطرق منظمة مستترة خلف أقنعة التقاليد والقوانين والأعراف الشائعة".
النظر لجرائم العنف الجنسي من منظور أخلاقي هو الذي خلق ملاحظات وأسئلة غير مشروعة قد تنم عن سوء فهم مثل "ليه البنات سكتوا؟"، أو أخرى تنطلق من سوء نية مثل "ايه اللي وداها هناك؟" أو "شوف لابسة إيه"، بل والأكثر من ذلك إتاحة مساحة للتسامح مع مرتكبي جرائم العنف فبتنا نسمع جملا مثل "حرام ما تيضعيش مستقبله" أو "هتفضحي نفسك" وغيرها، أو حتى اللجوء بعض الأحيان لتزويج الناجية من مغتصبها خوفا من الوصم و"الفضيحة"، وصولا إلى تدبير جريمة اغتصاب- كما في حالة إيمان- كذريعة للتطليق بعد "الإخلال بشرفها"، وفي رأيي هي أشكال مختلفة للتطبيع مع العنف تستند بالأساس إلى الهيمنة الأبوية لأجساد النساء.
لذلك فإن اللجوء للألفاظ والعبارات غير الدقيقة مثل "المواقعة كرها" و"هتك العرض" خاصة في النصوص التشريعية والخطابات الرسمية للدولة، هو جزء من الهيمنة الذكورية التي تولد العنف الرمزي المرتبط بالثقافة الراسخة، مما يجعل النظرة المجتمعية إلى هذه الجرائم قاصرة بالضرورة على الجانب الأخلاقي منها وليس الجنائي – حتى وإن استوجبت العقوبة الجنائية- فنلاحظ في أحيان كثيرة الضغط الذي يتم على النساء اللاتي يحاولن التقاضي في جرائم العنف الجنسي للتنازل أو عدم اللجوء للقضاء من الأساس كما يحدث حاليا في حالة المتهم المذكور أعلاه الذي بناء على ما سبق لم يتم اتهامه حتى بالاغتصاب.
هكذا تجد الهيمنة الذكورية بيئة خصبة لتولد وتنمو ويعاد إنتاجها كقوة مبطنة تتواطأ فيها البنيات الثقافية وتعززها الهيئات والمؤسسات كوسائل الإعلام والاتصال، ليتم تأكيدها وترسميها داخل البنى المجتمعية، وتستمر الدائرة المفرغة من إعادة إنتاج السلطة والهيمنة على أجساد النساء من قبل المجتمع والدولة، التي تسن قوانين في هذا الإطار من منطلق حماية المجتمع من "فساد الأخلاق" لا حماية النساء من "جرائم العنف".
هذا التسامح المتاح غالبا في جرائم العنف الجنسي، يأتي من "الهروب" من وصف تلك الجرائم بمسمياتها الحقيقية واللجوء إلى مصطلحات تشير إليها من بعيد أو قريب، أو تحوم حول الجريمة دون إقرار مدى سوءها وبشاعتها، ما هو إلا مجرد تماهٍ مع واقع العنف الممارس ضد النساء، بل ويفتح بابًا أمام الجناة لارتكاب المزيد من تلك الجرائم والهروب من العقوبة القانونية المستحقة، وهو ما يتطلب وجوب إعادة النظر في هذه الجرائم ووصفها كما هي في الواقع. فلنسمي "الاغتصاب" باسمه ونتعامل مع الجريمة على قدر بشاعتها دون تمييع أكثر من ذلك.