قبل بضعة أيام كان شعري طويلًا، لم أهتم بقصه طيلة سنة كاملة حتى أصبح منفوشًا كرأس أينشتاين، ومتدليًا على رقبتي مثلما انسدل شعر بيتهوفن. ولكن لم يعجبني الحال فاشتريت "توكة رجالي" من محل للإكسسوارات الحريمي لأربط بها شعري. بعدها نزلت في شارعنا الجانبي لأشتري العشاء متخفيًا وراء كمامتي، وعند عودتي، سمعت أحدهم يتحدث بصوت عال من إحدى الشرفات، قبل أن أدرك أنه يوجه حديثه إليَّ "عليا الطلاق إنت ناقصك بس حلق وميك أب، وأروح أفاتح أبوك"، ليرد عليه صوت آخر قادم من مكان ما "ههههه بس مش هيبقى لايق عليه. أنا شايف إنك تتحجب أحسن".
دون وعي وجدت قدميَّ تسارعان الخطى فرارًا من أمواج التنمر الهائجة التي كادت تطيح بي من كل الاتجاهات. لوهلة، شعرت بأنني أنثى تحاول دفن رأسها في الوحل كالنعامة، كل يوم، وكل ليلة، وفي رحلة هروب أبدية مما لم أحتمله مرة واحدة في حياتي.
عندما صعدت إلى المنزل خلعت التوكة وقررت أن أحلق شعري قبل أن أفكر في الأمر؛ لقد تعرضت للتحرش! فهل كان هذين الرجلين مثليين مثلًا؟ أغلب الظن لا، المثليون لا حول لهم ولا قوة في هذا المجتمع، وهم غير قادرين على الإفصاح عن ميولهم فضلًا عن مضايقة الآخرين. ليبقى السؤال؛ ما الذي يدفع رجلين غيريين للتحرش بي؟ شعري الطويل المربوط بتوكة؟ أم ميل جنسي مدفون في اللاوعي خلف طبقات الخوف السميكة؟
تحرش أم تنمر؟ تلك هي المسألة
ما حدث معي يبدو كتحرش جنسي ولكنه في جوهره تنمر ومضايقة، وهو قد لا يختلف كثيرًا عمّا تتعرض له النساء في الشوارع. فلنتمعن في الأمر؛ المرأة تنزل من بيتها، تسير في الشوارع لتسمع تعليقات جنسية تدور في فلك أنها امرأة مشتهاة جاهزة للمضاجعة في أقرب فرصة. ولكن الغريب أن هذا أيضا ما تم معي بالحرف، رغبة بالزواج بي، والزواج يشمل المضاجعة الجنسية. ولكن من قال ذلك غيري، وأنا ذكر. ما هي المفارقة التي نتحدث عنها الآن؟
المفارقة ببساطة أن المتحرش لا يأبه غالبًا بالجنس وليس هياجه المتأجج هو دافعه لمضايقة امرأة صادف مرورها إلى جواره في الشارع. لقد أخد التحرش في التطور والتحور عبر السنين، ليتماهى كليًا مع التنمر والعنف واستعراض القوة ضد كل ما هو غريب ومختلف حولنا في هذا الكون.
وقعت تحت طائلة التنمر لأنني فكرت في أن أطيل شعري وأربطه بتوكة، رجالي. لا نرى ذلك كثيرًا في الشارع المصري الذي تظلله قناعة "دينية" بأن من أطال شعره فقد تشبّه بالنساء، قناعة لن تجد لها أثرًا لها في الكتب والآثار التي تجمع على العكس، فالرسول كان شعره كثيفًا طويلًا متدليًا على عاتقه، بل وأحيانًا كان ينسدل على منكبيه.
تتعرض المرأة التي ترتدي ملابس مثيرة تُظهر مفاتنها للتحرش لأنها ليست مشهدًا معتادًا في شوارع المحروسة التي لا تسمح للنساء بارتداء التنورة القصيرة أو الشورت أو أي ملابس تظهر البطن بل وحتى الفساتين الطويلة إذا كانت بحمالات، على عكس مدن كثيرة حول العالم، يعج بعضها بمصريين لا يجرؤ أحدهم على التحرش، ربما لأنه يعرف جيدًا أنه إذا لمحته إحداهن وهو يتأملها بعيون حمدي الوزير، ستطرحه أرضا، وتنهال عليه ضربًا مبرحًا، قبل أن تلقي به في النهاية إلى السجن.
المرأة ككائن فضائي
ولكن حتى المرأة التي ترتدي ملابس "محتشمة" لا تُظهر أيًا من مفاتنها، تتعرض للتحرش في بلادنا، لأنه... لحظة... هل أصبحت المرأة، بحد ذاتها كامرأة، شيئًا غريبًا في شارعنا المصري؟
تنال المرأة التي ترتدي الحجاب أو الخمار أو النقاب حظها من التحرش اللفظي تمامًا كتلك التي ترتدي تنورة قصيرة أو الشاب الذي يربط شعره الطويل بتوكة. ومن يرتكبون هذه التحرشات لا يتحرشون قدر ما يتنمرون، بل إنهم يتلذذون بالتنمر. وليصبح وقع التنمر أقوى ينبغي صبغه بصبغة جنسية. تمامًا كالنكت والشتائم التي تزداد قوتها كلما اقتربت أكثر من الجنس. موضوعنا هو التنمر إذن لا التحرش. لقد انتهى عصر التحرش في مصر، وتحول إلى عصر التنمر ضد كل ما هو غريب في الوجود.
ولكن هذا كلام خطير، إذ أنه يقودنا إلى استنتاج أن المرأة تحولت في مجتمعنا الجليل من مجرد إنسان عادي إلى شيء غريب يمشي على الأرض. وكل غريب في شوارعنا يستحق التنمر تمامًا كأي بهلوان قرر أن يسير عاريًا في الميادين. أصبحت المرأة كالكائنات الفضائية. إنه التطور الطبيعي -أو اللا الطبيعي ربما- للتحرش، من كونه مخزونًا للكبت المستمر منذ الولادة، وعدم الاختلاط بالنساء في المراحل العمرية، بالتضافر مع مساندة وتمرين وتقوية الجانب الذكوري العفن لدى الإنسان، الذي يمنح صاحبه شعورًا بالاستحقاق يبيح له التنمر ضد كل ما بدا له غريبًا.
التنمر على الفضائيين
في السابق تداول المصريون نكتة، تفترض أننا إذا استطعنا بطريقة ما التواصل مع فضائيين يعيشون معنا في الكون ودعوناهم لزيارتنا على كوكب الأرض، فإن المواطن الألماني سيتساءل عن كيفية الاستفادة من علمهم، فيما سيحاول الروسي صناعة مركبة فضائية تحاكي مركباتهم، أما الأمريكي سيركز على اكتشاف نقاط ضعفهم تحسبًا لأي غدر، بينما سيتوجه المصري إلى شيخه متسائلًا ما إذا كان نكاح المخلوقات الفضائية حلال أم حرام.
هذه النكتة، للأسف، يتخللها الصواب من كل الجوانب. إذ أصبح عقل الرجل المصري هذه الأيام بين فخذيه. ولكن الجزء الذي لم تذكره النكتة أن المصريين سيتنمرون بلا شك على الفضائيين ويحاولون التحرش بهم (ربما استنادًا إلى الفتوى إذا أجازت النكاح) في كل مكان. سيتهكمون على عقولهم وإن كانت أذكى وسيسخرون من هيئتهم وطريقة كلامهم مثلما يسخر البعض من لهجات أهل الصعيد أو الفلاحين، وسيؤلفون النكات والكوميكس عليهم ويصنعون منهم تريندًا يليق بضيوف الأرض الذين هبطوا من السماء، إلى أن يرحلوا عن الأرض نحو أبعد مجرة ممكنة، تمامًا كما تتجنب النساء في مصر السير في الشوارع كلما أمكن، بحثًا عن بعض الكرامة المفقودة.
ولكن من قال إن تجنب السير في الشوارع يقي من حملات التنمر والأذى؟ كائنات كثيرة حولنا طفحت كالصراصير من المجاري والبالوعات تسخر من سارة حجازي التي تجنبت الحياة كلها لا السير في شوارع المحروسة، ومع ذلك لم تسلم سيرتها ولا أصدقائها الحزانى من الهجوم والشتائم، كونها بالطبع امرأة مثلية لا مجال لأن تفلت من التنمر ولن يمنحها الموت حتى بعضًا من هيبته.
ولا يختلف ذلك كثيرًا عما تلقاه الفنان شريف منير ولاعب الأهلي عمرو السولية من تنمر وتحرش ببناتهما الصغيرات. فأي جنس يمكن لكائن من كان أن يفكر فيه عندما يرى صورة طفلة أنهت للتو رضاعتها؟
النظرة السطحية لمولانا
وفي خضم ذلك كله يهل علينا الشيخ عبد الله رشدي الذي يحب الاشتباك مع هذه التريندات، بنظرة سطحية ساذجة تحاول تحليل ظاهرة التحرش فيخرج بما يعتقد أنه خلاصة الحكمة وصوت العقل؛ إن أحد أسباب انتشار التحرش يا سادة هو تبرج النساء. الشيخ عبد الله يعتقد أنني تعرضت للمضايقة في الشارع لأنني كنت متبرجًا، أو ربما لأن النساء متبرجات، فانتشر التحرش بالجميع.
ثم يسوق رشدي رأيه معتبرًا أن هناك فرقًا بين السبب والمبرر، ليخرج من دائرة تبرير التحرش كما تخرج الشعرة من العجين. ولكن في الحقيقة فإن السبب لا يختلف كثيرًا عن المبرر، لأنه ليس سببًا من الأصل، بل هو انسياق وراء ما يحب أن يسمعه جمهوره الذي طفح علينا من كل حدب وصوب، يؤمّن على كلامه، ويصفق له بحرارة.
يبدو إذن أن الشيخ عبد الله ما زال يعتقد أن التحرش العشوائي في الشوارع مرتبط فقط باحتدام شهوة المتحرش، ولهذا فإنه سيستمر في ربط الظاهرتين؛ التبرج والتحرش، كفعلين مُحرمّين يؤدي أحدهما إلى الآخر. وبما أن كليهما حرام فليتقاسم مرتكبيهما المسؤولية، دون أن تلمح أثرًا لتفرقة بين حرام كالتحرش يتضمن اعتداءً مباشرًا على جسد وسلامة إنسان آخر وحرام كـ "التبرج" لا يشكل اعتداءً على أحد.
يعمي رشدي عينيه عن الطبيعة العنيفة للتحرش وكيف يتحول إلى فعل لاستعراض القوة ويبقيه في دائرة رد الفعل على استفزاز جنسي مزعوم. ولكن إذا تأملنا، على سبيل المثال، حوادث التحرش الجماعي المتكررة في الشوارع، فقد نصل إلى إجابة. طالما رأينا أعدادًا غفيرةً من الناس تلحق أسرابًا وجماعات بفتاة أو سيدة في شارع أو ميدان عام ينادي أحدهم الآخر كي لا يفوته مشهد تلك الفتاة التي ترتدي ملابس ضيقة أو قصيرة، تمامًا كالكائن الفضائي، قبل أن يتسابق الجميع أمام بعضهم البعض على لمسها وسبها وتجريسها. فهل هذه أفعال ترتكب من أجل إشباع شهوة؟ متى أصبحت لدى المصريين ثقافة الجنس الجماعي؟ ليس هكذا يُشبع أغلب المصريين رغباتهم الجنسية يا مولانا.
باتت المرأة إذن، مثلها مثل كل غريب ومختلف في مجتمعنا، تخاف من السير في الطرقات صباحًا ومساء، وتشعر بالرعب إذا استوقفها أحدهم ليسألها عن عنوان يريد الذهاب إليه. ستتجاهله في الغالب إذا لم تصده أو تنهره، قبل أن تسرع خطاها في كل الأحوال هاربة من مكروه على وشك الحدوث.
أصبحت النساء كائنات مرتعبة بالفطرة، تحاول اكتساب مهارات التسلسل والتخفي وتعطيل الحواس أثناء السير في الشارع من أجل البقاء. المسألة لا تتعلق بالملابس بل بالاختلاف، لأنها لا تتعلق بالجنس بل بارتكاب العنف لإثبات سطوة مفترضة تسكن العقل الجمعي الذكوري الذي تلوث بأفكار رجعية على مر الزمان، بعضها يستقى من الخطاب الديني وجب تجديده، وبعضها الآخر من ثقافة ذكورية وجب تهذيبها لجعلها، لا أقول نسوية، بل أكثر إنسانية، تنظر للآخر باعتباره إنسانًا في المقام الأول، بغض النظر عن معتقداته أو عرقه أو ميوله الجنسية أو حتى ملابسه.