تصميم: يوسف أيمن، المنصة
قس مسيحي

رجال الدين والإفلات من العقاب في قضايا الاعتداء الجنسي

منشور الثلاثاء 10 ديسمبر 2024

تنتهي اليوم حملة "اتحدوا!" الأممية السنوية، وهي 16 يومًا من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، تبدأ في اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء في 25 نوفمبر/تشرين الثاني وتنتهي في اليوم العالمي لحقوق الإنسان 10 ديسمبر/كانون الثاني، وتهدف إلى لفت النظر إلى هذه الظاهرة التي تزداد انتشارًا، وإلقاء الضوء على التزامات الحكومات والمسؤولين لمواجهتها، خصوصًا في ظل الأزمات والصراعات والمشاكل الاقتصادية.

بهذه المناسبة، يحاول المقال إلقاء الضوء على أحد أنماط هذه الظاهرة، التي تعد من التابوهات في ظل الصمت والخوف من الوصم بالعار للضحايا، وأعني تورُّط رجال الدين في وقائع التحرش والاعتداءات الجنسية.

هذه واحدة من القضايا الشائكة، التي يخشى المجتمع ومؤسسات الدولة طرحها للنقاش الموضوعي الساعي إلى منع تكرارها وحماية ضحاياها ومحاسبة المتورطين فيها. والحجة الجاهزة دائمًا هي نفي وجود هذه السلوكيات المرضية وغير الأخلاقية في مجتمعنا، لأن مؤسساتنا الدينية بخير، وهي حصن الأديان وقيمها السامية.

ليسوا حالات فردية

المرأة التي اتهمت شيخ الطريقة الصوفية بالتحرش بها، قالت إن مكانته وغياب دعم أسرتها أثرا عليها لسنوات

لكن وقائع عدة بإمكانها أن تتحدى هذا الزعم، قد تكون آخرها القضية التي طفت على السطح منذ أشهر، عندما اتهمت امرأة أحد شيوخ الطرق الصوفية المشهورين بالتحرش الجنسي بها وإرسال صور غير مرغوب فيها، وقالت إنها ظلت متأثرة نفسيًا وغير قادرة عن التعبير عما حدث لها طوال سنوات، بسبب مكانته ونفوذه وعدم مساندة أسرتها.

هذه القضية هي الأخيرة في سلسلة اتهامات مماثلة واجهها بعض رجال الدين الإسلامي والمسيحي بالاعتداء الجنسي، لعل أبرزها اعتداء القس المشلوح رويس خليل على سالي زخاري، التي خرجت للإعلام بعد سنوات من انتظار تدخل الكنيسة لمعاقبة المعتدي دون جدوى، قبل أن يُجرَّد من درجته الكهنوتية بعد نحو 17 عامًا من نضال الضحية وطَرقها مختلف الأبواب لمعاقبته.

لا أعتقد أن نطاق هذه الجرائم والممارسات مقتصر على ما يصلنا عبر الإعلام أو السوشيال ميديا، ولا يوجد ما يدعم الزعم بأنها حالات فردية لا يجب القلق من تكرارها بشكل نمطي، خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار ما يتمتع به رجال الدين من سلطة روحية واجتماعية تسمح لهم بمعرفة أدق تفاصيل حيوات قطاعات كبيرة من المواطنين الذين يستشيرونهم في أمورهم اليومية، مما يتيح لأصحاب السلوك غير السوي السيطرة على ضحاياهم بسهولة، ومنحهم حصانة من الملاحقة على جرائمهم.

تتضافر عدة عوامل لتؤدي إلى الخوف من مناقشة هذه الجرائم، في مقدمتها طبيعة المشكلة نفسها كونها عامة ومنتشرة يتسامح معها المجتمع ويغض الطرف عنها عندما تحدث بصورة نمطية في المواصلات وأماكن العمل ومقار الحصول على الخدمات العامة.

يزداد قلق المسيحيين باعتبارهم أقلية من أن ترسخ مساءلة رجال الدين صورة نمطية سلبية عنهم

وفق دراسة أجرتها هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة، تعرضت 99% من النساء المصريات لصورة ما من صور التحرش الجنسي، أما مسح التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي أجراه كل من صندوق الأمم المتحدة للسكان والمجلس القومي للمرأة والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فَذَكر أن حوالي 7.8 مليون امرأة في مصر يعانين من جميع أشكال العنف سنويًا، سواء ارتكب هذا العنف على يد الزوج أو الخطيب أو أفراد في دائرتها المقربة أو من غرباء في الأماكن العامة.

تستخدم هذه النسب عادةً، بعد مقارنتها بما نعرفه عن اعتداءات رجال الدين، لنفي أن الأخيرة ظاهرة متكررة. ولكن بالنظر إلى ما تحظى به المؤسسات الدينية في مصر من علاقات قوية مع المؤسسات السياسية بحكم تلاقي المصالح، تنعكس على نفوذها الاجتماعي الواسع، من امتيازات تحميها من تداعيات أفعال مسؤوليها والعاملين بها، فإن نقد رجال الدين في مثل هذا النوع من القضايا الأخلاقية الحساسة خط أحمر لا يجوز تعديه.

مخاوف الأقليات

فبالنسبة لكثيرين، رجال الدين يمثلون الله على الأرض، وأعلى فئة في المجتمع، ولا يمكن مساءلتهم. وبالنسبة لهم، توجيه الاتهام لأحد رجال الدين عندهم يعني اتهام المؤسسة ككل، أو على أقل تقدير تشويه صورتها وسمعتهاـ وبشكل قد لا يكون عادلًا. وهو ما يترتب عليه اهتزاز ثقة الأعضاء في المؤسسة الدينية ورجال الدين في المجمل، والسماح بأشكال من السخرية والتنمر عليها، خصوصًا إذا كان المعتدي ينتمي إلى مجموعة أقلية دينية مختلفة عن المذهب السني السائد.

شاهدنا نموذجًا على التعامل الشعبي الذي يشوبه التهكم والاستظراف والتعامل باستخفاف ودون مراعاة لمشاعر ومخاوف الأطراف الضعيفة، في رد الفعل على قضية الشيخ الصوفي الأخيرة، الذي امتد ليصل إلى انتقاد الممارسات والتقاليد الصوفية ككل. وبطبيعة الحال يزداد القلق عند المسيحيين باعتبارهم أقلية، يسهل ترسيخ صورة نمطية سلبية عنهم.

يتذكر البعض حادث الراهب المشلوح برسوم المحرقي الذي نشرت قصته جريدة النبأ في 2001، واستُخدم الاسم الذي أطلقه للتنمر ومضايقة المسيحيات لفترة، ليصبح غلق باب النقاش مصلحةً عامةً وطريقة تحمي بها المؤسسة الدينية المنتمين إليها في المجمل من التعرض للإهانة.

لم يكن أمام إحدى النساء إلَّا مجاراة كاهن في سوهاج وتسجيل تجاوزاته لترد على من يكذّبها

استكمالًا لهذا النهج، يسوّق البعض طريقة مضللة وخبيثة للتعامل مع هذه الاعتداءات باعتبارها فقط خطايا بالمفهوم الديني، ومن ثم لا يجب كشفها علنًا، بل التستر عليها، وطالما هي خطايا وحسب، فعلاجها هو الاعتراف والتوبة. يساعد نمط التفكير هذا المتورطين على الإفلات من العقاب الجنائي، ويحافظ على سمعتهم على حساب جبر الضرر للضحايا، الذين يُطلب منهم في العادة النسيان والتسامح والطاعة العمياء للسلطة الدينية، مع عدم التعاطي بسرعة مع الاتهامات، والرهان على عامل الوقت لعل الشاكية تفقد الأمل في الاستجابة لشكواها.

هذا، وتعد الثقافة المحافظة دينيًا واجتماعيًا عاملًا ضاغطًا على الضحايا إلى حد كبير. يخشى الكثيرون، مسيحيين ومسلمين على حد سواء، من أن يؤدي تقديم قصص الاعتداء الجنسي إلى الإضرار بسمعة الضحايا. فالحديث في هذه الموضوعات عيب و"قلة أدب" بالنسبة للكثيرين.

وعادة ما يوجَّه اللوم والنقد للضحية باعتبارها الطرف الأضعف والمسؤول عما حدث، بدءًا من تكذيبها والتشكيك في روايتها، كما حدث من الأم في واقعة شيخ الطريقة التيجانية، وليس انتهاءً بتحميل الضحية المسؤولية أو جزءًا منها بحجج ملابسها أو سلوكها، واعتبار ذلك تشجيعًا منها لرجل الدين على الاستمرار في تعبيره عن رغباته الجنسية أو التعدي على الضحية. 

ولمواجهة ذلك، لم يكن أمام إحدى النساء إلَّا مجاراة كاهن في سوهاج، وتسجيل تجاوزاته لترد على من يكذّبها وتضغط من أجل محاسبته، وأدى نشر التسجيل الصوتي إلى إيقافه عن الخدمة. وفي ظل هذا المناخ، يكون من الصعب أن تنجو الضحية، وألَّا تتأثر نفسيًا واجتماعيًا من هذه الصورة التي تشكلت عنها.

ما يزيد الأمر سوءًا غياب آليات الإنصاف على المستويين الإداري والجنائي، فغياب الإجراءات المعلنة والواضحة والمناسبة لهذا النوع من الجرائم يشجع على الإفلات من العقاب، ويزيد الضغوط على الضحايا، إذ تحتاج هذه القضايا إلى منهج خاص في جمع القرائن والأدلة وإعطاء وزن لشهادة الناجيات، فلا يكفي وجود النصوص القانونية وحدها بدون الأخذ في الاعتبار طبيعة هذه الجرائم وصعوبة وجود الشهود.

لا حصانة لأحد

ينبغي أن يحاسب رجل الدين، شأن أي مواطن، على سلوكياته

رجل الدين لا يملك حصانة تمنعه من ارتكاب الخطايا والجرائم، وقيادته لمؤسسة دينية أو عمله بها لا يجب أن يمنحه حصانة من المساءلة وتلقي العقاب. محاسبة رجل الدين قبل أن تكون محاسبة أخلاقية يجب أن تكون محاسبة إدارية بعزلة عن عمله، ومحاسبة قانونية وقضائية يتعرض فيها للعقوبات الجنائية شأن أي مواطن. ولن يضر المؤسسة الدينية الكشف عن مثل هذه الجرائم الأخلاقية والمالية متى وجدت، فما يضرها ويؤلمها التستر على هذه الجرائم تحت أي مسمى.

أولى الخطوات الضرورية للتعامل مع هذا الملف هو تشجيع الناجيات للحديث عن تجاربهن بحرية ودون خوف من التداعيات الاجتماعية، فهو بوابة النجاة للأخريات. ويحتاج ذلك إلى تعزيز ووضوح القوانين التي تضمن حقوق الضحايا، وإلى دور نشط لمنظمات المجتمع المدني في توفير الدعم النفسي والقانوني للضحايا.

ومن طرق المعالجة الناجعة، التحرُّك نحو إصدار وتعميم مدونة سلوك أو سياسة لمكافحة الاعتداءات الجنسية، تتضمن تعريفًا واضحًا لحدود علاقة رجال الدين والعاملين في المؤسسات الدينية، بالمترددين على هذه المؤسسات والمستفيدين من خدماتها، وتحدد مسارًا لتلقي الشكاوى والتحقيق فيها، وتضمن عدم الضغط على الضحايا بل تشجيعهن على الحديث.

ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى أهمية تجربة عدد من إيبارشيات الأقباط الأرثوذكس في أمريكا عقب قضية سالي زخاري بشأن إصدار بروتوكول عن سوء السلوك الجنسي للتحقيق في الادعاءات، وتوفير تدريب إلزامي لرجال الدين والخدَّام، وهو ما لم يتم في مصر.

ختامًا، في جميع الأحوال لا يلغي التحقيق الإداري داخل المؤسسة الدينية حتى لو اتخذت إجراءات عقابية ضد المتورطين عن الإجراءات القانونية، فكثير من هذه الأفعال مجرمة في قانون العقوبات، ولا يجب أن يتميز رجل الدين عن مرتكبي هذه الوقائع من غير رجاله.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.