انتهت أول أمس، الأحد، حملة الـ16 يومًا السنوية التي خصصتها الأمم المتحدة لتنظيم أنشطة وفعاليات مختلفة لمناهضة العنف ضد المرأة، ودعت حملة 2023 الأفراد إلى إظهار مدى اهتمامهم بإنهاء العنف ضد المرأة والفتاة، وإلى مشاركة الحكومات في الاستثمار في منع العنف القائم على النوع الاجتماعي.
ويعدُّ العنف ضدَّ المرأة واحدًا من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارًا وشيوعًا في المجالين العام والخاص، فلا تكاد تخلو صفحات الحوادث بالصحف والمواقع الإخبارية اليومية من جرائم قتل النساء وملاحقتهن على يد ذويهم أو جيرانهم أو زملائهم في الدراسة والعمل.
وحسب دراسة صادرة عن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن 75% من النساء تعرضن للعنف في المجتمع المصري، وإن 80% تعرضن للعنف في الشارع خلال حياتهن، خصوصًا التحرش (معاكسة لفظية، التقبيل، إمساك اليد، اللمس، إلخ). بينما جاء العنف المنزلي في المرتبة الثانية، حيث يتخذ مظاهر مختلفة من الإهانة اللفظية والضرب من الزوج، إلى التهديد بالطلاق وبالحرمان من الأولاد، حتى المنع من زيارة الأهل وغيرها.
أسباب العنف ضد المرأة كثيرة ومتنوعة، منها الجهل بالحقوق، طريقة التنشئة، الفقر، عدم الاستقلال المالي، النظام الأبوي القائم على إعلاء مكانة الرجل على حسابها. لكن تظل من أبرز هذه الأسباب وأهمها التفسيرات الدينية، والتقاليد والتراث الثقافي المرتبطان بها، وهي بمثابة حجر الزاوية في التمييز ضد المرأة، والمعوِّق الأساسي أمام بسط الحماية القانونية، وجبر الضرر للناجيات، ومعاقبة المتورطين فيه.
يعتبر قطاع واسع من المؤسسات الدينية ورجال الدين المرأة أقلَّ قيمة من الرجل، وتفتقر إلى الإرادة الحرة الكاملة. كما يُنظر إليها عادةً رمزًا لكرامة المجتمع وحارسة للشرف. هذه القيمة الرمزية لجسد المرأة تستند إلى تراث ديني واجتماعي أبوي محافظ للغاية، يفرض قيودًا على النساء، ويبرر العنف ضدهن على مستوى الأسرة والمجتمع.
ومن المثير للأسى أنَّ مؤسسات الدولة التي ينبغي عليها ضمان تمتُّع مواطنيها بكافة حقوقهم، في مقدمتها المساواة وعدم التمييز على أساس النوع الاجتماعي، هي نفسها تمارس هذا التمييز، وتُزكِّي هذه النظرة التي تبرر العنف ضد المرأة، بداية من تحفظها على بعض بنود اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، استنادًا لتعارضها مع الشريعة الإسلامية، مرورًا بقوانين الأحوال الشخصية التمييزية، سواء للمسلمين أو المسيحيين، والمستندة إلى الأحكام والمبادئ الدينية، ومما يحول دون قدرة المرأة على ترك علاقة عنيفة، انتهاءً بالتعامل مع العنف ضد المرأة بشكل موسمي وبالقطعة، كلما ظهرت حالة فجة أو احتلت مساحة من اهتمام الرأي العام، كحالات قتل بعض الفتيات بسبب رفض الارتباط بالقاتل.
خطاب ديني مأزوم
تتشابه المؤسسات الدينية المصرية، إسلامية ومسيحية، في أنَّ لكلِّ مؤسسة خطابين في قضايا المرأة، بغض النظر عن التفاصيل والأسانيد المستخدمة لتبرير كلٍّ منهما. وبينما يؤكد الأول طوال الوقت، بعمومية، على تكريم الإسلام أو المسيحية للمرأة ومساواتها بالرجل ورفض العنف ضدها، يرسِّخ الثاني، الذي يشتبك مع التفاصيل، النظرة الأبوية والأدوار النمطية والتقليدية للمرأة، وهو خطاب شديد المحافظة ومنتشر على نطاق واسع بين المصريين.
مؤسسة الأزهر أصدرت وثيقة داعمة لحقوق المرأة، تناولت 7 محاور رئيسية لحماية المرأة من بينها: قيمة المرأة الإنسانية والاجتماعية، الشخصية القانونية للمرأة، المرأة والأسرة، المرأة والتعليم، المرأة والعمل، المرأة والأمن الشخصي، المرأة والمشاركة السياسية. وشدد على مبدأي المساواة والمسؤولية المشتركة كأساس لفهم وتأسيس العلاقة بين الجنسين. وفي عديد المرات أعلن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب دعمه بعض حقوق المرأة، مثل رفض تبرير التحرش بسلوك أو ملابس المرأة، وموقفه من قضية تعدد الزوجات.
خطاب المؤسسات الدينية ذكوري يقوم فيه رجال بتحديد قائمة الأولويات والتحديات التي تواجهها المرأة
أما الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، فأصدرت وثيقة حول موقفها من العنف ضد المرأة، أعلنت فيها رفض جميع أشكاله؛ الجسدي واللفظي والمعنوي، وأكدت مناهضة أيَّ ممارسات ضارة تؤدي أو يمكن أن تؤدي إلى معاناة للمرأة أو تنتقص شيئًا من حقوقها وكرامتها، كالختان والزواج المبكر أو القسري والحرمان من التعليم والحرمان أو التمييز في الميراث والعنف الجنسي بأشكاله.
في تقديري، هناك خمس سمات لهذا الخطاب الديني المناهض للعنف ضد المرأة، تؤدي إلى فشله في مواجهة الخطاب الديني الراديكالي، الذي يبرر العدوان على حقوق المرأة في المجمل، وتجعل تأثيره محدودًا وهامشيًا، رغم مشاعر التقدير والشكر للشخصيات التي تتبناه.
السمة الأولى، أنه خطاب نخبوي غير متجذر في بنية المؤسسة الدينية، أو لدى القطاع الواسع من رجال الدين، أي أنه خطاب مرهون بموقف القادة الكبار مثل الدكتور الطيب والبابا تواضروس والدوائر الضيقة جدًا المحيطة بهما.
فلا يزال خطاب جلِّ أعضاء المؤسسات الدينية تمييزيًا ضد المرأة، ويصبُّ في مصلحة الجماعة التي يمثلونها، لترسيخ الفجوة في الأدوار والتمكين من الحقوق بين الجنسين. يربط العنف ضد المرأة بسلوكياتها ومساحة ممارستها لحقوقها، فتخليها عن الحشمة مثلًا هو ما يعرضها للتحرش. وهنا لا فرق بين مبررات الداعية عبد الله رشدي لدوافع التحرش وتحذيرات القس داود لمعي من تداعيات عدم الحشمة وما سمَّاه "اللبس الخليع".
السمة الثانية لهذا الخطاب، أنه إنشائي بلا أصداء واقعية، ولا يُترجم في سياسات وقرارات تنفيذية، وفي مواقف المؤسسات الدينية من قضايا العنف الأسري والاغتصاب الزوجي خير دليل. لا تزال آلاف الأسر المسيحية تعاني من تعسف قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين، وصعوبة الطلاق والزواج الثاني. وكثيرًا ما يطالب رجال الدين من الزوجة الصبر والقبول بالعنف الواقع عليها تحت مبررات حماية كيان الأسرة، وعادة ما نسمع عبارة "ده صليبك وقدرك اللي لازم تتحمليه".
أما قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين، فحدث ولا حرج عن ظلم المرأة فيما يخص الحرمان من الحضانة والرؤية وعدم القدرة على تطليق الزوجة نفسها، النفقة. ومما يؤدي إلى قبول المرأة للعنف الذي تتعرض له.
هذا الخطاب أيضًا يتعامل مع قشور قضية العنف ضد المرأة، دون التعامل مع صلب أو جذور هذه الظاهرة، وهذه سمته الثالثة. فلو سألنا رجال الدين عن تعريفهم للعنف، وهل يوافقون على التعريف الدولي المقرر بما يتضمنه من أشكال ومظاهر متنوعة، من بينها العنف الأسري والاغتصاب الزوجي؟ غالبًا ما سيكون لهم رأي مخالف لذلك.
يُعرَّف العنف ضد المرأة وفقًا للإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الشأن عام 1993، بأنه "أيُّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب عنه أو يُرجَّح أن يترتب عليه أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة".
يجب ألّا تتخذ المؤسسة الدينية مواقف تحريضية تجاه خطوات تصحيح هذا الوضع المأساوي
يظهر العنف في أشكال جسدية وجنسية ونفسية تشمل طيفًا واسعًا من الممارسات مثل العنف الأسري بأشكاله المتنوعة بين الضرب والإساءة النفسية والاغتصاب الزوجي وقتل النساء، العنف الجنسي (الاغتصاب، الأفعال الجنسية القسرية، التحرش الجنسي، الاعتداء الجنسي على الأطفال، الزواج القسري، التحرش في الشوارع، الملاحقة، المضايقة الإلكترونية)، الاتجار بالبشر (العبودية والاستغلال الجنسي)، الختان وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، زواج الأطفال.
السمة الرابعة لهذا الخطاب أنه هش وضعيف، اكتفى بالإعلان عن رفض ظاهر العنف ضد المرأة فقط، لكنه لم يشتبك مع الأسانيد الدينية والمبررات التي تدعم التمييز وعدم المساواة، ومن ثَمَّ العنف. لم تُفنِّد هذه المؤسسات الأطروحات التي تعتبرهنَّ ناقصات عقل ودين، أو تحملهنَّ مسؤولية السقوط وطرد آدم من الجنة، وما يترتب عليها من اعتبار إرادة المرأة غير سوية أو كاملة، وأنها ليست بالضرورة قادرة على اتخاذ القرارات الصحيحة.
أما السمة الخامسة فهي أنه خطاب ذكوري، يقوم فيه رجال بتحديد قائمة الأولويات والتحديات التي تواجهها المرأة، فيما القطاع الأوسع من النساء مستبعد من بلورة رؤية هذه المؤسسات لمكانة المرأة وقضاياها، وسبل الحد من العنف الواقع عليها، بل إن بعض هذه المؤسسات نفسها تتسامح مع الانتهاكات التي يقوم بها مسؤولوها خشية التأثير على سمعتها، مثل بعض حالات الشكاوى من التحرش والاعتداء الجنسي بحق رجال دين.
ما ننتظره من المؤسسات الدينية
بطبيعة الحال، هناك حساسية شديدة في التعامل مع نصوص دينية راسخة. ونحن لسنا في سياق تقييم هذه النصوص، أو القصص التي تضمنتها الكتب المقدسة، ولا نطالب المؤسسات الدينية بذلك. ولكن ما نلح عليه أن تقوم هذه المؤسسات بأدوارها الأخرى المتوقعة منها، إذا كانت صادقة في خطابها الرافض للعنف ضد المرأة، مثل الانفتاح على التفسيرات الدينية التي تقدم رؤية مغايرة لما هو سائد، وحماية من يتبنَّاها.
هذا إلى جانب إشراك المرأة في النقاش المجتمعي الداخلي حول أمورها، ليس فقط بتعزيز تمثيل المرأة في لجنة هنا أو هناك من باب تحسين الصورة، فالأمر لا يتعلق بوجود نساء في لجنة إعداد قوانين الأحوال الشخصية مثلًا، بل بمشاركة حقيقية لقطاعات واسعة من النساء في الحوار المجتمعي عن القانون، وإبداء رأيهنَّ فيه، واعتباره والأخذ به.
كما يجب على المؤسسات الدينية ألَّا تتخذ مواقف تحريضية تجاه أي خطوات قد تتخذها مؤسسات الدولة في اتجاه تصحيح هذا الوضع المأساوي بالتأكيد على الضرورة الأخلاقية والروحية لحماية المرأة وتعزيز حقوقها. وفي السياق نفسه، لا تقف عائقًا أمام جهود منظمات المجتمع المدني التي لديها خطط أو سياسات أو مبادرات تكافح العنف ضد المرأة، ذلك بأن تكف عن التعامل مع المرأة من خلال دورها في إطار الأسرة، والتعامل معها كإنسانة مسؤولة لها كامل الحقوق.