تصميم: يوسف أيمن- المنصة

أبجدية "صفية" في وطن لا يصلح للنساء

منشور السبت 19 سبتمبر 2020

 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

خـ: ختان

إنه أول أيام طفولة صفية. 

كلما فتحت بابًا لذكرياتها تذكرت هذا اليوم أولًا. يقفز إلى عقلها كما تقفز حبة ذرة في طنجرة ساخنة.

كانت كالعادة تستيقظ من نومها، تختطف لقمة أو اثنتين من مائدة الطعام، وتضفر شعرها الطويل، ثم تنطلق كحصان بريّ إلى الشارع، تنازل من يخطف منها الكرة، ربما كسرت سناً أو اثنين آنذاك لنفس السبب. 

لطالما جرت بسعادة عندما تسابقت مع أطفال الحي في نفس عمرها. كانت الفتاة الوحيدة في فريق اللهو واللعب بين أربعة ذكور. وعندما كانت تُسأل عمّا تريد أن تكونه عندما تكبُر، كانت تجيب بتفلسف "مش عاوزة أكبر.. عاوزة أفضل ألعب في الشارع على طول".

لكن في اليوم الموعود طلبت منها أمها أن تغتسل وتبدل ملابسها وترتب هيئتها كما يليق بفتاة جميلة، وتنتظرها حتى تعود لأن مفاجأةً سارّة على وشك الحدوث.  أخرجت صفية فستاناً تحبه، منقوش بالزهور المطلية بالأبيض والأسود. لطالما تمنت أن تتحول هذه الزهور إلى اللون الورديّ، ولأن أمها لم تكن لتتحمل كُلفة فستان جديد، ظلت صفية تدعو الله، فقد بدا لها أن ذلك أسهل.

بعد أن ارتدت فستانها، تركت شعرها ينسدل بحرية دون أن تقيده، كانت المفاجآت تُسعدها، ولطالما أحبت مفاجآت أمها خاصةً؛ فانتظرت بأمل وسعادة.

مرت ساعة وجاءت الأم، لكنها لم تكن وحدها، بل اجتمعت كل نساء العائلة وبينهن امرأة غريبة، هنأن صفية ومسحن على رأسها، وباركن لها. لم تكن الفتاة وهي ابنة العاشرة لتفهم ما يحدث، أخذنها من ذراعيها بقوة تعجبت لها، ثم ها هن يطرحنها أرضًا، أمسكت كل واحدة منهن بساق، وباعدن بين الساقين، نزعن عنها الملابس حتى تلك التي كانت أمها تحذرها من أن يمسها أو يراها أحد..

استغاثت بأمها لكن الأم لم تُجب! اقتربت تلك المرأة الغريبة من بينهن وفي يدها آلة حادة، صرخت صفية من الألم، لكن الجميع كُنَّ يضحكن ويحاولن تهدئتها. صرخت مرارًا علّها تلفظ روحها وتتخلص من هذا الألم البغيض، لكن ذلك لم يحدث، ظلت تصرخ آملة أن ينقشع الصمم عن أمها، علها تشفق على حال صغيرتها، أو تحميها كما يفترض بأم، وهذا أيضًا لم يحدث.

في ذلك اليوم، استيقظت صفية بعد فقدت وعيها لتجد أمنيتها وقد تحققت؛ صار لون الزهور في فستانها ورديّ. لم تكن تدري أن الأمنيات تتحقق بالألم والدماء. ومنذ ذلك اليوم لم تعد صفية تثق في أمها، كانت في قرارة نفسها تعلم أنها عندما تناديها لن تجيب.

كما أنها لم تعد تحب المفاجآت.


 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

تـ: تحرش

بعد مرور سنتين، ذهبت صفية إلى البقال لشراء بعض حاجيات المنزل.

كانت صفية تحب شراء الحلوى بما يتبقى من ميزانية مشتروات أمها، وكانت تلك متعتها الوحيدة إلى جانب مشاهدة التلفاز. لم تعد صفية تلعب في الشارع، ولم تعد تتحدث مع رفاقها. لقد عرفت أن ما حدث لها كان غرضه ألا تقترب من الصبيان، وظلت على يقين بأنها إذا شوهدت يومًا تتحدث إلى أصدقائها القدامى، فسيتكرر الأمر مرة أخرى. جعلها ألم الذاكرة تركض بعيدًا في كل مرة تحدث إليها أحدهم أو حاول الابتسام لها من بعيد. 

لكن الخطر داهمها من جانبٍ آخر، فقد كان يتعقبها شخصٌ كبير اعتادت أن تناديه "عمو" كلما ذهبت إلى البقال؛ يتقرب منها بطريقة غير مريحة، حتى إنها كلما حاولت الركض هربًا منه نظر إليها بخبثٍ وهو يُسرع بدراجته حتى يلحق بها. فلتت مرة، وأخرى، وخشيت أن تخبر أمها حتى لا تعاقبها، وهي لا ذنب لها فيما حدث.

لكنها في المرة الثالثة لم تفلت، ولكن أنقذها الصراخ هذه المرة. وبينما كان مفترضًا أن تعود بكيس مكرونة وبضع حبات من البندورة، عادت صفية بتورم في الحنجرة من شدة الصراخ ورجفة تسري في جسدها وقطع حلوى قبضت عليها في حين أفلتت الأشياء الأخرى من يدها أثناء هروبها.

سألتها أمها بنبرة حادة "هنتغدى شيكولاته؟ فين الحاجات؟" فحاولت صفية أن تشرح مُضطرة ما حدث، فصفعتها أمها، لا لأنها لم تصدقها، بل لأنها لم تكن تدري ماذا تفعل، وكيف تتصرف. ثم أخبرت صفية التي لم تكن ساذجة إلى ذلك الحد لتصدقها، أن ما حدث هو مجرد حلم، وسوف تستيقظ منه.

كبرت صفية ولا زالت تراودها تلك الأحلام البغيضة؛ مرة في العمل، مرة في الجامعة، مرة في الشارع، ومرة في الجامع. ولم تكن لتحكي أيًا منها لأي أحد. تصرفت وحسب، لكنها كانت تريد أن تتوقف الأحلام. كانت تريد لو أن أمها أخذت لها حقها. أو أن الناس لم يلتحفوا الصمت، ولم يعتادوا الأذى. تمنت لو أن الشرطي الذي استنجدت به عندما تحرش بها سائق ميكروباص، لم يكن هو الآخر يطلق بصره نحو جسد امرأة أخرى في نفس الوقت كرصاصة شهوة.  

كانت تريد أن تستيقظ، تريد أن تعرف شيئًا يمكنها فعله في كل مرة أفضل من اصابتها بتورمٍ في الحنجرة، وغصة في القلب.


 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

عـ: عنف

في الخامسة عشر من عمرها بدأت صفية ترى كيف تعيش الفتيات من سنها في بلاد أخرى بعيدة. التلفزيون كان يجلب لها الأمل بأن حياتها ليس ميؤوسًا منها، وأن هناك ما يمكنها فعله حتى يصبح الواقع أفضل.

في هذا السن صفية فضّلت البقاء بعيدًا عن الشارع إلا عندما تخرج في مجموعة مع صديقاتها  إلى المدرسة. كانت تتهرب من مشوار البقال، ولم تعد تأكل الشيكولاتة. أصبح التلفزيون صديقها الأقرب، وخصوصًا مسلسلات المراهقين الأجنبية.

تمنت لو أنها تستطيع ارتداء قميص بنصف كم، وبنطال قصير في الحر الشديد الذي يؤرقها فيه حجابها المفروض عليها، وملابسها الثقيلة التي لا تناسب سنها. لكنها تخلت عن الفكرة عندما رأت الندبة على ساقها اليُسرى.

أصيبت صفية بهذه الندبة بفعل ملعقة طعام ساخنة وضعتها أمها على جسدها لأنها استغرقت في النوم وفوتت درس تحفيظ القرآن. حاولت صفية الدفاع عن نفسها وقالت لأمها باستنكار "تفتكري ربنا كان هيعاقبني بالحرق عشان فوتت درس القرآن مرة؟" فأجابت الأم "أنا عارفة إيه اللي خلاكي تفسدي.."، ثم منعت صفية عن مشاهدة التلفزيون.

عندما حاولت صفية أن تثور مثل فتاة أجنبية وهي في السادسة عشر من عمرها، قالت لأمها "لو مبطلتيش تضربيني هشتكيكي"، فضحكت الأم بصوتٍ عال، وتساءلت بسخرية "لمين؟"، فتذكرت صفية أن لا قانون يحميها. إلى أين تذهب ولمن؟ هل هناك ما يُمكنه انقاذها من يد أمها؟ ولو وُجد، فماذا تقول؟ إن أمي تسيء معاملتي؟ إنها تُعنفني بسبب وبلا سبب؟ إنها تحرق جلدي وتوصمني بالندبات كي أتذكر أخطائي مدى الحياة؟ إنها تعاملني كما لو كنت ملكها، وتفعل بي ما تشاء، يمكنها أن تصفع وجهي، أو تحركني يمينًا ويسارًا لأنها أنجبتني ووهبتني تلك الحياة. وعندما أجرب قول: "لا" تنزل بي العقاب كيفما تشاء؟

أجابت صفية في يأس وقد وجدت أن لا مأوى لها خارج هذا البيت، ولا جدوى من الثورة "هشتكيكي لربنا". 

في صلاة الفجر الأم أدت فرضها، وبدأت في تلاوة الآيات ( 23: 25) من سورة الإسراء 

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً* رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً} 

حرصت أم صفية أن يكون صوتها مسموعًا، فنظرت صفية إلى السقف، وسافرت بقلبها إلى ما هو أبعد وقالت "يا الله، ذكرها ولو بآية واحدة تُحسن فيها إليّ، وتبرني".


 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

قـ: قمع

في التاسعة عشر من عمرها، أرادت صفية دراسة الآداب، لكن والدها اختار لها كلية أخرى.

حاولت أن تثنيه عن رأيه لكنه رفض كل الرفض. استسلمت صفية ودرست العلوم لمدة سنة، ثم فاض بها الكيل، فحاولت أن تغيّر مجال دراستها وتحويل مسار حياتها العلمية إلى دراسة الآداب، وفنونها.

لكن والدها عندما علم برغبتها في ذلك، هددها بالمنع من إكمال دراستها، فإن كانت لا ترغب في دراسة ما اختاره هو، فلن تدرس على الإطلاق، صاحبت ذلك التهديد أيام من الحبس الإنفرادي والطعام الرديء والمعاملة السيئة، وسيل من الدعوات، والشتائم، لم يكن هناك بد من الرضوخ والاستسلام.

لطالما نجحوا في ترويض الجانب الجامح من صفية. ولطالما حلمت سرًا بيومٍ تستطيع فيه أن تصبح ما تريده، لا ما يريد الآخرون.


 

تـ: تمييز

في الرابعة والعشرين استقلت صفية ماديًا، كانت تلك الخطوة الأولى التي تسعى إليها منذ سنوات، كانت تظن أن العمل سوف يحقق لها حرية أكبر تمكنها من اختيار شكل الحياة التي تريد، وتساعدها على الابتعاد ولو جزئيًا عن الضغوط النفسية التي كبرت في وسطها.

لكن سياسات العمل في المجتمع المصري تقف إلى جانب الرجل دائمًا. سمعت صفية لأول مرة جملة "هو راجل بيفتح بيت، طبيعي يكون مرتبه أكبر منك" عندما تساءلت لماذا راتبها أقل من زميلها الذكر الأقل منها خبرة، ولكنه متساوٍ معها في الواجبات والالتزامات في بيئة العمل!

وعندما تركت العمل الأول، وذهبت إلى مكانٍ أفضل، قيل لها بطريقة غير مباشرة إنها قد تحظى بأفضلية إذا استخدمت أنوثتها للحصول على ما تريد.

ظلت صفية تنتقل بين عمل وعمل آخر، وفي كل مرة تجد معضلة جديدة كل أساسها أنها امرأة. فمرة لم تُقبل في عمل لأنها مُحجبة رغم أن مؤهلاتها مناسبة تمامًا، لكن المؤسسة كانت بوضوح تام تمارس التمييز ضد المرأة المُحجبة. ومرة أخرى رُفِضَت لأنها امرأة، وعندما كانت تشك في أن ذلك هو السبب، قامت بتزييف حساب عمل، وقدمت العرض نفسه باسم رجل، وقد تم قبوله.


 

تصميم: يوسف أيمن - المنصة

و: وصم

عندما خُطبت صفية، قال لها خطيبها "يا أنا يا الشغل". وعندما فسخت تلك الخطبة، وواحدة أخرى تلتها، خاض الناس حديثًا في أخلاقها، وشككوا في نواياها، وألفوا القصص عنها، وعن حياتها. وعندما تأخرت في الزواج، قالوا إنها عانس.


تولد صفية فتسوّد الوجوه لأنها بنت، تخرج صفية إلى الشارع، فتواجه التحرش لأن ثيابها لا تلائم أيًا من العابرين أيًا كان ما ترتديه، تحاول مقاومة التحرش فتصطدم بسؤال "لماذا خرجت من الأساس؟".

تحاول صفية إبداء رأيها كأي إنسان في أي مجتمع، فيُقال لها "ارجعي المطبخ" أو "هل أنتِ حائض الآن؟" ، تُستخدم صفية، وأوصاف صفية، وأجزاء من جسد صفية، عندما يريد شخص ما أن يسب بطلاقة. "إنت بتعيط زي النسوان؟" /"**أمك"/ #%^$ أختك/ .. بنتك/ .. مراتك.. إلخ. 

تصلي صفية في الشارع، فيُستفز المجتمع، والجميع يضع نفسه في موضع الإله ويُبدي رأيه في صحة وجواز صلاتها (لله) أو بطلانها. 

تخلع صفية الحجاب فيقيمون عليها الحد. ترتدي صفية الحجاب فتُهمّش وتوصف بالرجعية ويقال عنها "غفر" مقارنة بنساء بلدان أخرى.

تُخطئ صفية فتُكّفر وتجد ألف سكين تنتظر ذبحها، حتى لو كان الخطأ نفسه يرتكبه رجل، فيقبله المجتمع والناس أو يتحدثون عن الفرصة الثانية والتسامح والستر في أحسن الأحوال.

تُختن صفية وهي طفلة وتُزوّج وهي قاصر، وتُقتل فيستحل دمها، وتُعنف وتتعرض لجرائم الشرف.

صفية لا تعلم، المجتمع أعلم. صفية حديث المجتمع، وضحيته. 

صفية لا تجد لها مكانًا آمنًا في البيت، ولا في الشارع، ولا في العمل، ولا تسلم حتى وهي وحدها من الأقاويل والاتهامات. 

صفية في تلك القصص أنا، وصفية هي كل امرأة مصرية تعاني واضطرت إلى حفظ الأبجدية. ينبغي أن يكون الوطن هو ذلك المكان الذي تنتهي فيه كل محاولات المرء للهروب، لكن صفية ستظل دائمًا تحاول الهرب؛ لأن الوطن غير صالح لصفية. 

الوطن غير صالح للنساء.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.