في الثامنة من مساء يوم الاثنين 1 فبراير/ شباط الجاري، انتهت إسراء وزميلتها أ. ع، من إعداد مسودة بيان مركز بلادي للحقوق والحريات، بعد إدانة محمد حسانين، أحد مديري المركز، بالتحرش الجنسي وهتك العرض، بناء على تحقيقات أجرتها لجنة مستقلة.
كان أهم ما يميز المسودة التي أعدتها الموظفتان السابقتان في المؤسسة بعد أن تقدمتا للتو باستقالتيهما مع الاستمرار كمتطوعتين حتى انتهاء هذه الأزمة، هو الوضوح فيما يتعلق بإعلان ما انتهت إليه لجنة التحقيق؛ بدءًا من ذكر اسم محمد حسانين، وتوضيح منصبه، وتسمية الجريمتين اللتين أدين بارتكابهما، بالإضافة إلى سرد كل توصيات اللجنة مع تأكيد التزام المنظمة بتنفيذها كاملة تباعًا.
ولأنهما استقالتا من المؤسسة ولم يعد لهما دور فيها، سلمتا المسودة لمديرها في القاهرة.
كان هذا نص ما سنسميه مسودة رقم 1 التي لم تنشر.
بحسب إسراء وزميلتها اللتين تحدثت إليهما المنصة، قوبلت هذه المسودة بالرفض التام من آية حجازي، رئيسة المؤسسة المقيمة في الولايات المتحدة، حسبما أخبرهما مدير فرع المؤسسة بالقاهرة قبل أن يوضح لهما أن هناك "بيان جديد جاي من أمريكا". ويقولان إنه فور أن وصل هذا البيان، وسنسميه هنا مسودة 2، رفضه المدير في مصر "رفضًا قاطعًا" وهدد بالاستقالة، لأنه جاء مبهمًا تمامًا "مكانش بتقول أكتر من إنه تم فصل شخص ما"، بحسب إحدى العاملات الحاليات في المؤسسة، التي اطلعت بنفسها على المسودة 2 في حينها.
لاحقًا، عقد اجتماع مطول بين المديرين في القاهرة وواشنطن وتونس، عاد منه مدير فرع القاهرة بصيغة ثالثة تم التوافق عليها، باعتبارها حلًا وسطًا "لاعتبارات إنسانية، عشان خاطر والدته وأخته وبنته"، كما تقول إسراء. وبالتالي تحولت هذه النسخة الثالثة إلى البيان النهائي الذي نشرته مؤسسة بلادي في الثلاثاء 2 فبراير حوالي الساعة السابعة مساء، الذي أثار غضب الناجيات اللاتي تقدمن بالشكوى ضد حسانين، وأيضًا غضب مجموعة من الناشطات النسويات في مصر. ما دعا أحد نافخي/ نافخات الصفارة، إلى إمداد المنصة مساء يوم 3 فبراير بنسخة من ملخص لجنة التحقيق، ومجموعة من المصادر التي يمكن الاتصال بها للتحقيق في المسار الذي اتخذته مؤسسة بلادي.
ولكن مدير مكتب القاهرة، الذي تتحفظ المنصة على نشر اسمه لتعرضه لمضايقات أمنية، ينفي أنه هدد بالاستقالة، أو أن آية هي من رفضت مسودة 1، قائلا "كانت هناك أكثر من مسودة وليست مسودة واحدة، وتم الاتفاق في النهاية على البيان النهائي، ولم تكن آية هي من رفضت المسودة الأولى بل قررنا بشكل جماعي انا وآية ومديرة مكتب تونس ومسؤول تنمية موارد المؤسسة عدم نشرها لاعتبارات تخص مصلحة المؤسسة وقدرتها على الاستمرار". ويضيف "لن أستقيل من هذه المؤسسة حتى تعبر هذه الأزمة بسلام وتقف على رجليها".
البيان الذي تم نشره في النهاية
ولكن ما بين المسودات الثلاث، وغضب المتابعين على السوشيال ميديا، كانت للقصة أبعاد أخرى.
من العمل الخيري إلى العمل الحقوقي
أطلقت بلادي نشاطها في فبراير 2013، عندما قررت مؤسستها آية حجازي العودة إلى مصر محمّلةً، مثل كثيرٍ من الشباب المصري في الخارج، بآمال وأحلام كبيرة للبلد بعد الثورة، وإطلاق مبادرة لإنقاذ أطفال الشوارع وحمايتهم من الإدمان، تجمع بين جمع القمامة من الشوارع والحفاظ على الأطفال.
تعاملت المبادرة في البداية مع الأطفال ما بين 12 و17 عاما، وكانت آية، وهي حاصلة على الجنسية الأمريكية، أتمت في هذا الوقت دراستها بالخارج، وحصلت على بكالوريوس تحليل وحل النزاعات من جامعة جورج ميسون، وهي حاصلة كذلك على بكالوريوس الحقوق من جامعة القاهرة.
التقت آية محمد حسانين في 2013، وتزوجا في نفس العام الذي تأسست فيه المؤسسة، وفي مايو/ أيار 2014 ألقي القبض على آية وحسانين بتهمة ملفقة وهي تكوين عصابة لاستقطاب أطفال الشوارع، والهاربين من ذويهم. وفي سبتمبر أحيلت القضية للمحاكمة العاجلة أمام محكمة الجنايات، بـ7 اتهامات وهي إدارة جماعة إجرامية لأغراض الإتجار بالبشر، وهتك عرض 6 أطفال، باستخدام القوة والتهديد، وإجبارهم على ممارسة الفجور والجنس، واستغلالهم جنسيًا، وخطف بطريقي التحايل والإكراه أطفالا ذكورا لم يبلغوا ثماني عشرة سنة، وإعداد وحيازة أعمال إباحية شارك فيها أطفال تتعلق بالاستغلال الجنسي، وإنشاء كيان تحت مسمى جمعية بلادي. ولكن كل هذه الاتهامات المرعبة لزوجين شابين محملين بأحلام الثورة وآمالها أسفرت عن حملة تضامن واسعة داخل مصر وخارجها.
وبعد قرابة ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي غير القانوني، تم إخلاء سبيل آية حجازي بطلب من الرئيس الأمريكي السابق ترامب للرئيس السيسي، لتعود إلى واشنطن على متن طائرة حربية في 20 أبريل 2017 بصحبة مسؤول رفيع المستوى في البيت الأبيض.
تحولت بلادي من جمعية خيرية لمؤسسة حقوقية حين تأسس فرعها في الولايات المتحدة عام 2017، وتلاها في نفس العام تأسيس فرعها في القاهرة، وجاء فرع تونس في نهاية عام 2019. تهدف المؤسسة بحسب موقعها الالكتروني إلى مساعدة الفئات الأكثر عرضة للخطر والعمل على تمكينهم بالتركيز على الانتهاكات الواقعة على المرأة والطفل على خلفية أسباب سياسية، عن طريق تقديم الدعم القانوني في قضايا النساء أو الأطفال، ورصد وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان، بجانب عمل وحدة الأبحاث بتحويل البيانات الرقمية إلى محتوىً تحليلي، وتقديم الدعم النفسي للخارجين من السجون، وحملات التدوين للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين.
أدوار ملتبسة وفصل مزعوم
التحقت إسراء بالعمل في بلادي قبل عام ونصف كمسؤولة وحدة الأبحاث، واستقالت منها في ديسمبر/ كانون الأول 2020، بعد ما أسمته "مضايقات وتدخلات في العمل من آية حجازي"، ولكنها استمرت في التواصل بشكل شخصي مع زملائها في المؤسسة بعد استقالتها وتطوعت لصياغة مسودة 1 حرصا منها على إتمام ما بدأته. ففي بداية الأحداث تم تشكيل "لجنة إدارة الأزمة" بعضوية إسراء وزميلتها أ. ع ومدير مكتب القاهرة وكان دورهم تشكيل وتكليف لجنة التحقيق المستقلة، وانتهى دور لجنة الأزمة حين تسلمت لجنة التحقيق دفة الأمور.
أما أ. ع فالتحقت بالمؤسسة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019 واستقالت في يناير/ كانون الثاني 2021. تقول "كنت قلقة أن يفشل التحقيق في إدانته بشكل واضح وبالتالي لا يتم فصله، فتركت العمل حين وجدت فرصة عمل أخرى". ومثل إسراء، استمرت أ. ع على تواصل مع زملائها وفور صدور نتيجة التحقيق عرضت المساعدة في إعادة صياغة اللائحة الداخلية حسب توصيات اللجنة.
تصف إسراء بيئة العمل نفسها داخل المؤسسة بأنها ليست مهنية وليست حقوقية. وترى أن الفشل في إدارة الأزمة بشكل مهني إنما يعود لكيفية إدارة المؤسسة بشكل عام ونقص خبرة القائمين عليها في العمل الحقوقي وفي الإدارة، بداية من منصب حسانين غير الواضح إلى كيفية اتخاذ وضمان تنفيذ القرارات.
فبينما يدعي بيان بلادي أن حسانين هو مدير أحد المشروعات؛ تحدثت المنصة إلى عدد من الأشخاص قام حسانين بتعريف نفسه لهم بصفته المدير التنفيذي، وأمدنا أحدهم بكارت حسانين الذي كان يقدمه للناس، ويحمل منصبه كمدير تنفيذي للمؤسسة. تحدثنا كذلك مع بعض العاملين الحاليين والسابقين الذين قام حسانين بإجراء مقابلات تعيينهم "الإنترفيو" وكان يعطيهم تكليفات يومية، ولكنهم لا يعرفون له منصبا رسميا. فهو أحيانا المدير التنفيذي وصاحب القرار في كل شيء، وأحيانا مجرد مدير مشروع. وتمت بالفعل الإشارة إلى هذا التضارب في تقرير اللجنة، كما نصت إحدى التوصيات على تحديد توصيف الأعمال والمسؤوليات لكافة العاملين.
يشكو العاملون السابقون والحاليون الذين تحدثوا إلى المنصة من أن حسانين، قبل إثارة هذه الأزمة، كان يتصل بهم ويعطيهم تكليفات خارج مواعيد العمل وخلال العطلة الأسبوعية ومن خلال الهاتف بشكل أساسي وليس الإيميل، دون منحهم أي أجر إضافي مقابل هذه الأعمال. استمر هذا الوضع حتى شهر مارس/ آذار الماضي، حين تم اعتماد قاعدة الأجر الإضافي للعمل الإضافي ضمن بنود اللائحة الداخلية. يعلق مدير المؤسسة بالقاهرة "محمد كان شخص لحوح، هذا طبع شخصي، والخلافات في العمل أمر وارد في أي مكان. والمهم أن القواعد أقرت ولا يمكن الآن لأي شخص أن يجبر أحد العاملين على العمل خارج الوقت دون مقابل".
يشكوا العاملون أيضا من تدني الأجور في المؤسسة، فراتب شخص حاصل على مؤهل جامعي في وظيفة مهنية أساسية بالمؤسسة بدأ عند التعيين ب 2500 جنيه زادت بعد 3 شهور إلى 3000 جنيه، بينما تتراوح أجور مديري الوحدات بين ستة وسبعة آلاف جنيه، وهي أجور متدنية مقارنة بمؤسسات المجتمع المدني المماثلة في مصر. ويرجع القائمين على المؤسسة ذلك إلى ضعف موارد المؤسسة في البداية، ومع مرور الوقت وتعديل اللائحة صار الحد الأدنى للأجر منذ أكتوبر 2020 هو 3000 ج لشخص دون أي سابق خبرة.
تصف إسراء فترة عملها في بلادي بأنها كانت موترة "كنا مهددين، مرة حسانين قاللي بعد ما العالم دخل في وباء كورونا الناس دالوقت مش لاقية شغل واللي هيقصر مش هتمسك بيه. بفلوس الوحدة (يقصد وحدة الأبحاث) أجيب 3 أمريكان فريلانسرز يطلعولي كل واحد فيهم تقرير كل شهر. هو كان طموحه عالي جدا لكن بدون إمكانيات، يعني كان بيقولنا أنا عاوز نبقى زي هيومان رايتس ووتش، طيب ما هو عشان نبقى زيهم لازم الإدارة كمان تشتغل على أسس محترمة".
لا تظن إسراء أن صلة القرابة بين حسانين وآية هي المشكلة، فذلك وارد في منظمات المجتمع المدني، ولكن المشكلة في رأيها تكمن في قلة الخبرة وضعف النظم والقيم الإدارية.
أحد الذين استقالوا من المؤسسة إثر الأزمة الأخيرة قال للمنصة إن حسانين تواصل معه بعد إيقافه عن العمل ودعاه لاستكمال مهامه بشكل طبيعي قائلا "هغيب عن السوشيال ميديا 6 شهور هيدوني إجازة بدون مرتب وبعدين أرجع اشتغل عادي".
كما اطلعت المنصة من خلال أحد العاملين الحاليين على ما يؤكد استمرار حسانين في الاضطلاع بإحدى مهامه طوال فترة إيقافه المزعوم عن العمل وحتى بعد إعلان فصله في البيان الأخير. وتعليقا على ذلك قال مدير المؤسسة بالقاهرة "لا علم لي بهذا الأمر. ما أعرفه أننا عقدنا اجتماعًا أنا وآية ومحمد وتسلمت أنا مهامه في هذا الاجتماع تزامنا مع إيقافه عن العمل".
اللجنة والتحقيق
بسبب غياب آليات واضحة توفر للنساء الحماية وإمكانية تطبيق العدالة، فإن تشكيل لجان التحقيق المستقلة في اتهامات التحرش والعنف الجنسي ومباشرة هذه اللجان لعملها وضمان تعاون جميع الأطراف معها، يمران غالبًا بتعقيدات كثيرة تجعل كشف حقيقة الاتهامات وتحقيق العدالة أمورًا صعبةً.
في واقعة "فتاة الإيميل" عام 2018، التي اتهم فيها عضو في حزب العيش والحرية بالاغتصاب ووكيل مؤسسي الحزب بالتحرش، استقالت اللجنة الأولى بينما تحدثت الثانية في ملخص تقريرها عن صعوبات كان من بينها عدم تعاون جميع الأطراف، حالت دون تمكنها من التوصل إلى قرارات جازمة. أما مؤسسة حرية التعبير فما زالت حتى الآن تتبع سياسة مناهضة التحرش الخاصة بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، لأنها لم تصدر بعد سياستها التي كلفت خبيرة في قضايا النوع الاجتماعي العمل عليها في يوليو/ تموز الماضي بالتزامن مع اعتراف مدير وحدة الأبحاث محمد ناجي بارتكاب انتهاكات جنسية ثم فصله، وفقًا لما أوضحه مديرها محمد عبد السلام في اتصال مع المنصة.
صعوبات تشكيل اللجنة مشكلة واجهتها بلادي، فبحسب مديرها التنفيذي في مصر، تواصلت المؤسسة في البداية مع الدكتورة ماجدة عدلي، وهي طبيبة نفسية ومن الشخصيات المشهود لها بالنزاهة، ووافقت على الفور. ولكن عملية استكمال أعضاء اللجنة أخذت وقتًا طويلًا "تواصلنا مع نسويات في مصر ورفضن المشاركة في اللجنة، تواصلنا بعدها مع نسوية مصرية مشهود لها بالنزاهة مقيمة في أمريكا ووافقت فأصدرنا لها خطاب تكليف، ولكنها عادت واعتذرت، تواصلنا مع شخصيات محترمة ومعروفة في تونس ولكنهم اعتذروا بحجة عدم وجود ناجيات من تونس في الشكوى".
استغرق الأمر قرابة الشهر من تاريخ نشر أول بوست فيسبوك بتاريخ 26 يوليو 2020 وحتى إعلان اللجنة عن نفسها وعن تلقيها للشكاوى في منتصف أغسطس، التي جاء تشكيلها النهائي: الدكتورة ماجدة عدلي، المحامية عزة سليمان، والمحامي أحمد راغب، وبدأت اللجنة في الاستماع للناجيات والشهود في منتصف سبتمبر "على الرغم من أن إيقاف حسانين عن العمل، والإعلان عن النية في تشكيل لجنة تحقيق لم يأخذ سوى ساعتين فقط من نشر بوست سارة قدري" بحسب مدير المؤسسة في القاهرة.
إلا أنه ورغم صعوبات التشكيل، تميزت لجنة التحقيق في قضية مؤسسة بلادي بتعاون كل الأطراف، وهو الأمر الذي يحسب لها، ولعله أيضا الأمر الذي مكنها من الانتهاء إلى نتيجة جازمة.
لماذا لم يُرضِ بيان بلادي الناجيات والنسويات؟
استنكرت واحدة من الناجيات بيان مؤسسة بلادي واعتبرت أنه "محبط جدا، يعني إيه بعد كل شهور التحقيق دي والتعب النفسي والتروما اللي فيها ميتذكرش اسم اللي قام بالفعل ده، ومفيش أي مبرر زي ما بيتقال إنه في أمريكا فمش هينفع يتذكر اسمه ده اسمه بيان صدر لحفظ ماء الوجه فقط مش أكتر".
تقول الناجية التي تحدثت إليها المنصة إنها راضية عن أداء اللجنة التي قامت بالتحقيق، ولكنها غير راضية عن البيان الذي نشر، وترى فيه إهدارا لحقوقها هي وباقي الناجيات "هو دلوقتي إيه اللي يثبت لي إنه البيان قصده حسانين، ما يمكن قصدهم على مدير مشروعات تاني، وفين توصيات اللجنة ليه متذكرتش في البيان؟".
وتابعت "من البداية احنا عارفين إن عمل لجنة التحقيق عرفي ومالهوش علاقة باللجوء للقانون، وده اللي احنا بنفكر فيه بشكل جدي في الفترة الجاية، إننا نلجأ للقانون لمقاضاته لأن هنا في أمريكا فيه قوانين صارمة جدا في مواضيع التحرش، بس لازم كمان يكون اسمه واضح علشان يبقى مسارنا القانوني مضبوط، وأنا عن نفسي بسأل في قانونية الأمر ده علشان أضمن إنه لما اتخذه ميكونش عليا ضرر، كفاية الضرر النفسي والتشويه اللي بيحصل لنا من قرايب المتهم بيتقال إن الوقائع محصلتش واحنا مختلقينها علشان أسباب مش منطقية زي الغيرة وكدة".
وعن تعويض المؤسسة للناجيات ماديا، أوضحت "فين التعويض المادي اللي المؤسسة وافقت عليه، بناء على موافقتها على التوصيات اللي صدرت من اللجنة، ومفيش حاجة اسمها معندهمش موارد، احنا طبعا مش قصدنا ماديات ولا ده أصلا هدفنا، بس الفكرة هنا إن المؤسسة وافقت على توصيات وفي الآخر مش بتعملها".
وقالت الناجية إن اللجنة بذلت جهدا كبيرا خلال الأشهر الماضية، كما بذلت الناجيات جهدا أيضا في حكي وسرد الوقائع، وإيجاد الأدلة وتفنيد ادعاءات المتهم، كل ذلك في ظل خوفهن من حملات التشويه أو التشكيك في مصداقيتهن "أصعب حاجة إننا كل الوقت ده فعلا في ضغط عصبي ونفسي وفي النهاية يطلع بيان زي ده سطحي قوي، ومش واضح موقف المؤسسة من التوصيات اللي مذكرتهاش، هتلتزم بيها ولا لأ".
فيما يتعلق بالانتقادات الموجهة لبلادي بسبب عدم ذكر اسم حسانين في بيانها يبرر المدير في مصر بأن "عقد حسانين مع المؤسسة عقد أمريكي وحسانين مقيم في الولايات المتحدة. أحد بنود العقد يتعلق بعدم الإفصاح والحفاظ على سرية البيانات والمعلومات. خشينا من الملاحقة القانونية في أمريكا خصوصا وأن بلادي لها مقر هناك". وردا على أن بنود عدم الإفصاح في العقود غالبا ما تكون في صالح المؤسسات والشركات وليس الموظفين والأفراد قال "لو أتى أي موظف بفعل مشين وتمت إدانته، علي أن اتخذ ضده الإجراءات اللازمة ولكن لا يوجد ما يحتم عليَّ التشهير به".
أما عن الانتقادات الموجهة لبلادي فيما يتعلق بمحاولة المراوغة في تقديم الدعم النفسي للضحايا يقول المدير "أوصت اللجنة نصا أن نتكفل بتكلفة العلاج النفسي للضحايا لمدة 6 شهور على الأقل. كل اللاتي تقدمن بشكاوى هن من غير العاملات بالمؤسسة في أي من فروعها الثلاثة في مصر وتونس وأمريكا. كل الاتهامات الموجهة له لم تحدث بسبب العمل، أو في إطار العمل. ومن ناحية أخرى الناجيات مقيمات في أمريكا مما يعني تكلفة ضخمة وهذا يضع المؤسسة تحت عبء مادي يفوق إمكانياتها، خصوصا أن مواردنا تأثرت فعليا بسبب تلك الواقعة. ولكن رغم ذلك قلنا في بياننا الصادر 2 فبراير أننا ملتزمون بتقديم الدعم النفسي للناجيات إن طلبن ذلك وبالقدر الذي يتوافق مع إمكانيات المنظمة".
سارة حمزة الباحثة الحقوقية، وهي على صلة بالناجيات، أكدت للمنصة أيضا أن البيان لم يلق ترحيبهن، وهن من أردن نشر التوصيات والتوضيح عبر السوشيال ميديا "البيان فاشل ومحبط جدا لعدة أسباب أولها أنهم تعاملوا مع التوصيات بشكل أناني جدا جدا، ونشروا منها المناسب ليهم بس، وأخفوا اسم المتحرش محمد حسانين وغيروا الوظيفة بتاعته والكل يعلم أنه كان مدير المكان بالكامل، وبالإضافة انهم منشروش التوصيات كاملة كمان النقاط اللي اتنشرت معمولها إعادة صياغة بطريقة مستفزة جدا".
تابعت "البيان فيه تدليس من وجهة نظري بيقول إن التحقيق تم على خلفية وقائع تحرش، والحقيقة أن التحقيق كان لوقائع تحرش وهتك عرض، فالأولى انهم يطلعوا بيان محترم شوية، يحفظ حقوق الناجيات، ويثبت إن اللي اتعرضوا له ده مكانش يصح، وميصحش يحصل تاني في أي مكان".
تقول المؤسسة على لسان مديرها بالقاهرة إنها قدمت كل ما يمكنها فعلا تقديمه. فهي من ناحية ترحب بتوصيات اللجنة المتعلقة بتنقيح سياسة مناهضة التحرش في اللائحة الداخلية بحيث تنص على جزاءات محددة، وتحديد الهيكل الإداري وتحديد توصيف الأعمال والمسؤوليات لجميع العاملين، ولكن من ناحية أخرى "اللجنة أوصت بفصل حسانين، واحنا فصلناه بالفعل في يناير 2021، وأوصت بتعويض مادي للضحايا من مستحقاته، ولكن ليس له مستحقات كي نخصم منها، وأوصت أنه يقدم اعتذار علني، ومنقدرش نجبره على دا خصوصا بعد ما فصلناه. باقي التوصيات عملناها ونشرنا البيان".
ولعل الغصة الأكبر في حلق منتقدي البيان هي إغفاله ذكر إدانة التحقيق للمتهم بهتك عرض إحدى الشاكيات، وهي تهمة قلما يتم إثباتها في التحقيقات المماثلة. يبرر مدير المؤسسة ذلك بقوله "هتك العرض لفظ له مرادف قانوني مختلف في كل دولة، فهو في مصر يعني ملامسة الجسد دون موافقة المجني عليها، أما في تونس معناه إتيان المرأة من الخلف، وفي أمريكا يعد اغتصابًا. مؤسسة بلادي لها فروع في هذه الدول الثلاثة وبالتالي اخترنا صياغة البيان بهذا الشكل حفاظا على مصلحة المؤسسة والعاملين فيها في الداخل والخارج". ويختتم قائلا "البيان صادر عن المكتب التنفيذي للمؤسسة وهو يمثل قيادات المؤسسة في الدول الثلاثة ونحن راضون تماما عنه".
المسارات والمسارات البديلة
في أغسطس/ آب 2018 لجأت الصحفية مي الشامي للقانون حين حررت محضرا ضد مديرها دندراوي الهواري، رئيس التحرير التنفيذي في جريدة اليوم السابع، متهمة إياه بالتحرش بها في محل عملها. وبعد شهور من التقاضي قررت النيابة حفظ التحقيق إداريا "لعدم كفاية الأدلة لإثبات التحرش"، وقررت اليوم السابع فصل مي من عملها فصلًا تعسفيًا، واستمرت في مقاضاة الجريدة حتى حصلت في يناير 2020 على تعويض مادي بسبب الفصل التعسفي وليس التحرش.
وبينما لجأت منظمات أخرى للجان التحقيق المستقلة العرفية مثل حزب العيش والحرية في واقعة "فتاة الإيميل"، ومؤسسة حرية الفكر والتعبير في الشكاوى المقدمة ضد محمد ناجي، يستنكر البعض لجوء مؤسسة بلادي لآلية لجان التحقيق المستقلة، ومنهم هند محمود، الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية وقضايا النساء في الشرق الأوسط، وهي مقيمة حاليا في الولايات المتحدة.
في بداية الأحداث لجأت لجنة إدارة الأزمة إلى هند محمود، وأصدرت لها خطاب تكليف لتكون ضمن لجنة التحقيق المستقلة، ولكن هند عادت واعتذرت بسبب "موقفها النقدي" من اللجان العرفية خاصة مع وجود آليات لتحقيق العدالة حيث إن المؤسسة أمريكية والناجيات والمتهم يعيشون هناك.
وأوضحت هند أكثر للمنصة "لدي موقف نقدي من فكرة اللجان العرفية بشكل عام، وبشكل خاص في حالة مؤسسة بلادي. اللجان العرفية في النهاية تظل توصياتها غير ملزمة. إذا كانت بعض المؤسسات في مصر ترتضي تلك الآلية لضعف البنية القانونية في مصر فيما يتعلق بقوانين العنف ضد المرأة ولصعوبة الوضع الأمني على مؤسسات المجتمع المدني، فلماذا تلجأ مؤسسة مشهرة في أمريكا، والناجيات متواجدات في أمريكا، والشخص المتهم متعاقد مع فرع المؤسسة في أمريكا، إلى لجنة عرفية؟"
ترى هند أنه بحسب القانون الأمريكي فمؤسسة بلادي ملزمة بعمل تحقيق داخلي واتخاذ إجراءات ملزمة، وأن لجوء المؤسسة للجنة عرفية واختلاقها أعذارا لعدم فضح الشخص المدان كلها علامات على المراوغة، تقول هند "بالطبع يتم الإفصاح عن الأشخاص المدانين في أمريكا، حتى رئيس الجمهورية نفسه يتم إعلان كافة مخالفاته".
ولكن ما هي خيارات مؤسسات المجتمع المدني في مصر في ظل الضغوط والملاحقات الأمنية من جهة وتصاعد صوت الحركة النسوية من جهة أخرى؟ في رأي هند محمود "يتحتم التحرك في ثلاث مسارات بالتوازي، الأول هو إنشاء لجان تحقيق داخلية في كل المؤسسات، وليس مؤسسات المجتمع المدني فقط وذلك في إطار لوائح داخلية تناهض العنف الجنسي ضد النساء وتنص على عقوبات واضحة، ويمكن للجان الداخلية الاستعانة بأشخاص من ذوي الخبرة. والثاني يتعلق بخوض معركة لتغيير القوانين نفسها وإصدار قانون موحد في مصر لمناهضة العنف الجنسي ضد النساء أسوة ليس فقط بدول العالم المتقدم ولكن كذلك بتونس التي أصدرت قانونها الموحد في 2017. والمسار الثالث هو الفضح عبر المدونات وهو ما لا يجب أن ننظر إليه بصفته آلية بديلة حتى وإن كان دليلًا على فشل الآليات الرسمية".
خطوة على الطريق
يقول مدير المؤسسة بالقاهرة "مؤسسة بلادي من أحدث مؤسسات المجتمع المدني في مصر، ورغم ذلك فأي شخص متهم بأي جريمة او متحرش لن يكون له مكان بيننا. نحن ماضون في الطريق الصحيح وبأي حال لن نستطيع إرضاء الجميع. وصلنا ردود أفعال سلبية وأخرى ايجابية وما حدث هو خطوة على الطريق لخلق بيئة عمل آمنة للنساء في المجتمع المدني".
ولعل الأمر الذي يجمع عليه كل من تحدثت المنصة إليهم هو العرفان للجنة التحقيق التي قبلت القيام بهذا الدور الشاق الذي يعرفون منذ البداية أنه مهما بذلوا من جهد لن تكون النتيجة مرضية للجميع، وأنه رغم صعوبة الموقف يمكن للمؤسسة الخروج من هذه الأزمة إن التزمت بتوصيات اللجنة.
تواصلت المنصة مع آية حجازي التي رفضت التعليق. وتواصلت كذلك مع ميشيل دن، مديرة برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيجي، بصفتها عضوة في مجلس إدارة مؤسسة بلادي، ولكنها قالت "هذا أمر شديد الحساسية ومجلس الإدارة يقوم حاليا بمراقبة ما يحدث وهناك نقاش داخلي يجري حاليا بشأنه" معتذرة عن الرد على أسئلتنا التفصيلية.
كما تواصلت المنصة أيضًا مع محمد حسانين لمنحه حق الرد، دون أي استجابة حتى نشر هذا التقرير.
جرى تعديل هذه القصة في 10 فبراير 2021 لإخفاء هوية أحد المصادر لاعتبارات أمنية؛ بناء على طلبه.