
أن تكون مريض صدفية.. في سوق العمل
انهارت بسمة محمد حين عرفت بإصابتها بالصدفية. خشيت على حياتها خصوصًا وأنها كانت في أشهر الحمل، كما خافت من فقدان وظيفتها مُحاسِبةً في شركة متخصصة بشبكات المرافق.
"مفيش حد في عيلتي أو أصدقائي عنده صدفية. كانت حاجة جديدة أول مرة أسمع عنها"، ومع الفحوصات عرفت أن النوع التي تعاني منها هو الصدفية المفصلية "كنت بتعالج بقالي فترة من مفاصلي لكن معرفش إن في حاجة اسمها صدفية أصلًا"، تقول بسمة لـ المنصة.
الصدفية مرض جلدي مناعي مزمن له عدة أنواع، وهو غير معدٍ يظهر على شكل بقع حمراء لها قشرة سميكة على الجلد، تتسبب في الشعور بالحكة والألم. وتصل نسبة الإصابة بالصدفية إلى أكثر من مليون مريض، وفق الأرقام المعلنة في مؤتمر أقامته وزارة الصحة في أبريل/نيسان عام 2014 لاعتماد العلاج البيولوجي لحالات الإصابة بالصدفية.
إنت مُعْدِي وغير مقبول وظيفيًا
على عكس بسمة (40 سنة) التي سرعان ما تجاوزت مخاوفها وحافظت على وظيفتها مع الدعم الذي قدمته لها شركتها، فإن رامي مجدي عاش طويًلا في كابوس الرفض كلما ذهب إلى مقابلة عمل وطُلب منه إجراء الفحص الطبي للتعيين. تخرج رامي في كلية الآداب، قسم جغرافيا، وخاض رحلة طويلة للالتحاق بوظيفة أخصائي مساحة. قضى عامين يتنقل بين الشركات، يُجري المقابلات أملًا في وظيفة توفر له "تأمينًا صحيًا واجتماعيًا"، لكنه وكما يقول "رُفض في أغلب الإنترفيوهات بسبب إصابته بالصدفية".
المرض يُصيب صاحبه بالعجز ليس فقط بدنيًا لكن نفسيًا أيضًا حيث يشعر أنه منبوذ في المجتمع
"بقيت كل ما يتطلب مني استمارة 111 مكملش"، يروي الشاب الثلاثيني لـ المنصة بعض ما تعرض له كُلما طُلب منه تقديمُ تقرير بالحالة الصحية، ففي الوحدة الصحية كثيرًا ما واجه تنمر اللجنة الطبية، كما أنه دائمًا ما كان يصدم بجملة "إنت مُعدي وغير مقبول وظيفيًا".
بدوه وبعد 10 سنوات واجه خلالها الرفض من الشركات والمصانع بسبب الصدفية، فضَّل جمال أشرف (*)، 44 سنة، العمل وسيط عقارات بحثًا عن مساحة يتحرك فيها بعيدًا عن المؤسسات الرسمية والقبول بوظائف لا تضمن أدنى حقوق موظفيها.
يسرد لـ المنصة كيف كانت تجري المقابلات، تبدأ دائمًا بالسؤال عن مرضه "أول ما بدخل المقابلة بيسألوني دي حاجة طارئة، بقولهم لأ مزمنة، يقولولي مش هينفع". يعتبر عماد الدين الجمل رئيس الجمعية المصرية للصدفية امتناع المؤسسات عن تعيين مرضى الصدفية وصمًا لهم، مرجعًا ذلك إلى الجهل، مؤكدًا أن هناك الكثيرين من المصابين بالمرض يلجؤون إليهم للحصول على شهادات بأن الصدفية مرض غير معدٍ، بالتالي لن يكون هناك خطر من انتقاله إلى زملاء العمل "كان آخرهم شاب لجأ لي عشان أديله شهادة مختومة"، يقول لـ المنصة.
الدعم المهني.. بيفرق
أمام كل هذه المواقف المتكررة يجد مريض الصدفية نفسه منبوذًا مرفوضّا من أغلب جهات العمل ينظر له نظرةً خاصةً، فـهذا "المرض يُشعر صاحبه بالعجز، ليس فقط بدنيًا ولكن نفسيًا أيضًا، حيث يشعر أنه منبوذ في المجتمع فيرفض التعامل مع حتى أقرب الأشخاص إليه"، حسب توصيف الدكتور عاصم فرج، أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية، في كلمته ضمن مؤتمر وزارة الصحة للإعلان عن الدواء البيولوجي.
الوصم والنبذ والرفض المجتمعي حفَّزت بسمة لإنشاء جروب فيسبوك باسم دعم مرضى الصدفية يضم أكثر من 8000 عضو من بلدان مختلفة. "وقت ما عرفت إني مريضة صدفية اتخضيت ومكنتش أعرف حاجة، وعشان عارفة اللي بيمر بيه المريض قررت أنشر الوعي بيه، وأحاول أدعم اللي زيي وأجاوب على أسئلتهم"، تقول بسمة.
تحرص أيضًا على توعية أعضاء الجروب بخطر الانسياق خلف العلاجات الشعبية التي يُدّعى أنها العلاج النهائي للقضاء على الصدفية، "في ناس بتّاجر بالمرض، عاوزة تنشر العلاج بالأعشاب، أو تنزل أي دواء مش مرخص"، مشيرة إلى أن المرضى معذورون "إحنا بنجري ورا أي أمل وأنا عارفة إن مفيش علاج هيخفف الصدفية".
تشعر بسمة بالامتنان لشركتها التي دعمتها في رحلتها مع المرض، "الشركة دعمتني مهنيًا ما تعاملتش معايا بأي شكل فيه تمييز أو اعتداء على حقوقي"، كما أن التأمين الطبي الذي توفره مؤسستها يضمن لها الحصول على الأدوية المطلوبة.
هذا الدعم لم يجده رامي، ما اضطره في الأخير إلى العمل بالنظام السركي. ففي سبيله للإنفاق على زوجته وطفليه، لم يجد أمامه إلا القبول بعقد يتجدد كل 15 يومًا لمنع الاستمرارية والتمتع بميزات العمالة الدائمة من التعيين على درجة مالية والتأمينات والمعاشات، ولا يتطلب أكثر من تقديم صورة البطاقة، ولا يحتاج كشفًا طبيًّا.
رغم هذا لم يستطع رامي الاستمرار في هذا العمل أكثر من سنة ونصف السنة ادَّخر فيها بعضًا من المال ليفتتح محل عطارة في المنوفية، لكنه خسر، فعاود مرة أخرى العمل تلي سيلز بشركات اتصالات "بقى معنديش اختيار غيرها".
لا حق في العلاج
يحتاج مريض الصدفية إلى الكثير من الكريمات والقطرات التي توضع يوميًا مرةً على الأقل، خصوصًا في فصل الشتاء وزيادة انتشار الصدفية وتضاعف الآلام، وهو ما يشكل عبئًا كبيرًا على المريض، الذي يضطر في حالة رامي إلى شراء كريمات منخفضة الثمن تضره لاحتوائها على الكورتيزون، فهي حسب ما يقول "بتخلي الجلد ينحف ويرق".
العلاج البيولوجي هو آلية يستهدف بها الأطباء الخلايا النشطة في الجهاز المناعي والتي تزيد من الحكة لدى مرضى الصدفية
قبل الزواج كان رامي يتابع في التأمين الصحي بمستشفيات الجيش الخاصة بعمل والده، ويصرف الأدوية منها، لكن بعد الزواج فقَد التأمين ومع عدم توافر وظيفة بتأمين صحي، توقف عن شرائها، وسعى للحصول على العلاج البيولوجي على نفقة الدولة، لكنه تراجع بسبب احتمالية رفض لجنة الأطباء له، فالعلاج لا يُمنح سوى للحالات المصنفة بـ"الشديدة" وحالته كما يقول "متوسطة".
والعلاج البيولوجي آلية مستحدثة يستهدف بها الأطباء الخلايا النشطة في الجهاز المناعي، التي تزيد من الحكة لدى مرضى الصدفية ما يعمل على تقليل الالتهاب بشكل أسرع من العلاجات الأخرى خاصة لدى الحالات شديدة الصدفية ومنع تفشي المرض.
وتوفر وزارة الصحة العلاج البيولوجي في جميع المستشفيات الحكومية للحالات الشديدة من مرضى الصدفية، فبإمكان المريض التوجه إلى أقرب مستشفى لعمل الفحوصات الطبية المطلوبة لتقييم الحالة، ثم تسجيل بياناته لعمل طلب رسمي بالعلاج على نفقة الدولة.
لكن مريض الصدفية في حاجة للعلاج اليومي، وهو ما يستلزم توفر مظلة تأمينية تتحمل عنه تكاليف العلاج وتوفر الدواء، لذا خاض عمر محمد، البالغ من العمر 27 عامًا، كل طرق للحصول على عملٍ يوفر له تأمينًا صحيًا. عمر الذي ازدادت الصدفية في جسده بعدما عمل في "نقل الخرسانة والرمل" خلال فترة دراسته بالجامعة، "كنت بشتغل من 10 لـ 12 ساعة يوميًا.. وعرفت إن ده غلط عليا بعد كده"، يقول لـ المنصة.
بعد التخرج من كلية نظم المعلومات، عرض عليه صديقه أن يسافر معه إلى البحر الأحمر، للعمل في وظيفة "سيرفيس وأمن" في أحد الفنادق، لكنه لم يوفَّق في أكثر من 9 فنادق هناك، كان ردهم عليه "طالما عندك شيء مزمن مينفعش يتأمن عليك عشان تكلفة العلاج" يقول عمر، قبل أن يستدرك "فندق منهم قالي اشتغل بس كأنك ما قولتيلش إن عندك صدفية، ولو حصل حاجة مش هنتحمل تكلفة الأدوية".
واجه عمر الرفض بدعوى أنه "مبنقبلش أصحاب الأمراض المزمنة" وذلك على الرغم من أن آثار المرض لا تظهر على يديه ولا وجهه، حسب قوله. في النهاية اضطر للاتحاق بوظيفة "سيرفيس" بمركز غطس في البحر الأحمر، كانت مهامه عبارة عن غسل الأكواب وتحضيرها للسائح لكن دون تواصل مباشر معه، استمر فيها 3 سنوات بدون تأمين.
تهرب من قانون العمل
يعتبر المحامي العمالي هيثم محمدين عرض مؤسسات العمل على المتقدم لوظيفة التنازل عن حقه في التأمينات تنصلًا من التزاماتها تجاه العمال "لأن قانون العمل بيفرض التأمين الاجتماعي والصحي".
فالدولة تمنح أصحاب العمل والمستثمرين امتيازات متعددة مثل الإعفاء من الضرائب والتخفيضات الجمركية مقابل الالتزام بقوانين العمل، التي يأتي في مقدمتها تسجيل العمال في التأمينات كحقوق أساسية لهم.
رفض مريض الصدفية يتكرر من قِبل الشركات التي تعتمد على المظهر والشكل العام
يرفض مصطفى عقل، أخصائي موارد بشرية لدى شركة للأدوات الطبية، إقصاء مرضى الصدفية من سوق العمل، "لو الموظف لائق طبيا ليه معينوش"، يقول لـ المنصة.
يؤكد أخصائي الموارد البشرية على أن هناك معايير لا بد من توافرها لتعيين الموظف منها السن والسكن والنوع والخبرة والسلوك والهندام الشخصي والنظافة الشخصية والظروف الصحية، وبالتالي لا يوجد ما يمنع توظيف مرضى الصدفية، مشيرًا إلى أنه عيّن ثلاثة موظفين مصابين بهذا المرض "ورغم أن مساحة الإصابة كبرت مع الوقت لكن معقتهمش عن أداء شغلهم".
ويعتمد قبول مريض الصدفية في العمل لدى محمود عبد العظيم(*) رئيس قسم الموارد البشرية بإحدى الشركات على نوع الوظيفة ونوع المرض ودرجته "يعني لو وظيفة فيها تعامل مع الجمهور أو جهات بره الشركة ممكن يكون درجة المرض مسببة نفور، فبيبقى صعب اختياره للوظيفة، حتى لو منطبق عليه المواصفات الفنية والشخصية".
ولا يخفي محمد عاطف، أخصائي موارد بشرية، تكرار رفض مريض الصدفية، خاصة من قبل الشركات التي تعتمد على المظهر والشكل العام، لكن "مش كل الشركات بتعمل كشف طبي، وإذا ثبت ظهور المرض طبيعي الشركة هترفضه".
وهو ما يُعده هيثم محمدين تمييزًا "لأنه بيقصي فئة من الناس بشكل كامل لأسباب لا يد لهم فيها"، مؤكدًا أن ذلك يخالف الدستور، وفقًا للمادة 53 من الدستور المصري لسنة 2014 المُعدل 2019.
ويشدد على أنه لا يوجد سند قانوني يسمح باستثناء مريض الصدفية من العمل، لذا من حقه اللجوء إلى القضاء استنادًا إلى نصوص الدستور المذكورة في الفقرة السابقة، واتفاقية المعاهدة الدولية "مناهضة التمييز 111"، التي وقعت عليها مصر في الأمم المتحدة، باعتبارها تشريعًا داخليًا تستخدمه الدول في الإقرار بحقوق مواطنيها، مطالبًا بتوفير حماية تشريعية، إما بضم مرضى الصدفية لفئات ذوي الهمم، أو محاسبة الشركات التي ترفض تعيينهم.
ويدعو المهندس إيهاب منصور وكيل لجنة القوى العاملة في مجلس النواب المتضررين لتقديم شكاوى إلى مكاتب العمل التابعة لوزارة العمل في محل سكنهم "لحصر عددهم بما يمكننا من اتخاذ الإجراءات اللازمة ومحاولة توفير فرص عمل لهم".
هروبًا من التمييز، يضطر رامي لإخفاء إصابته بالصدفية حيث ينتظم حاليًا في العمل بأحد المصانع ويشعر بالتهديد الدائم بالطرد إذا اكتشف المسؤولون حالته الصحية، وقتها "معرفش هيتصرفوا معايا إزاي"، ويجد أشرف ضالته في العمل بتسويق العقارات، ويحاول التغلّب على أعبائه المالية من خلال العمل الإضافي كسائق تاكسي، فدخله لا يكفي لتوفير الأدوية اللازمة لحالته، فيما تقوم بسمة بدور فاعل في نشر الوعي بالمرض، ومحاولة دعم المرضى ومساعدتهم على تجاوز صعوباته.
(*) اسم مستعار بناء على طلب المصدر