لم تحصد إيمان حمدي ثمار عملها طيلة 25 عامًا، فما أن مرضت واضطرت للخروج للمعاش المبكر، حتى حُرمت من معاشها بفعل قانون التأمينات الجديد. تقول للمنصة بأسى "لما جاتلي جلطة في عيني الشمال وما بقتش قادرة أشوف بيها، طلعت معاش مبكر، وما لقيتش لا معاش أصرف منه ولا تأمين صحي يعالجني".
التزمت إيمان، ذات الـ47 عامًا، طيلة عملها بسدد اشتراك التأمين الاجتماعي والصحي، وفي المقابل امتنعت هيئة التأمينات الاجتماعية عن صرفه لها باعتبارها "غير مستحقة"، وفقًا للقانون رقم 148 لسنة 2019، الذي قيد حالات استحقاق المعاش المبكر، بينما كان القانون القديم رقم 108 لسنة 1976 ينص في المادة 18 على أن المعاش يحق لكل من استكمل مدة 20 سنة في الاشتراكات التأمينية.
الأمر نفسه واجهه علي إبراهيم ذو الـ55 عامًا، رغم حصوله على تقرير اللجنة الطبية (قومسيون) في يونيو/حزيران 2022، يفيد بأنه مصاب بجلطة في القلب وقصور وانسداد في الشرايين، لكن الهيئة طالبته بإعادة المناظرة بعد عام.
تزيد مدة عمل كلًا من إيمان وعلي عن 20 عامًا. عملت الأولى في شركة متخصصة في إنتاج المواد الغذائية (قطاع خاص) كمُحاسبة لمدة 24 عامًا ونصف. أما علي فعمل في 5 شركات قطاع خاص لمدد مختلفة أشهرها مجموعة جولد ستار التابعة لمجموعة بهجت والخليجية للتصنيع، بإجمالي سنوات 21 عامًا واشترى 3 سنوات ونصف إضافية للحصول على المعاش، كان ذلك في العام 2020 بالتزامن مع جائحة كورونا.
حرمان قانوني
إيمان وعلي ليسا استثناءً. يوضح شعبان خليفة نقيب العاملين في القطاع الخاص للمنصة، أن قانون التأمينات والمعاشات الجديد حرم أكثر من مليون عامل خرجوا معاش مبكر أو أجبروا على الاستقالة أو أُقيلوا من علمهم خلال جائحة كورونا من معاشهم بسبب نص المادتين 21 و24 من القانون. ولم يتسنّ للمنصة التأكد من الرقم من مصدر رسمي.
ويشرح خليفة أن المادة 24 تُحدد المعدل الاكتواري (حجم الأثر الاقتصادي للقانون) الذي يسمح للموظف بالحصول على معاش عند بلوغه سن الشيخوخة بـ65% من إجمالي الاشتراكات/الأجر التأميني، وتنص المادة 21 أن سن التقاعد سيكون مجدولًا على أن يصل لـ25 سنة اشتراك تأمينات و65 سنة سن المعاش بحلول 2040.
النصوص السابقة وإن كانت ترفع قيمة المعاش التي يحصل عليها الموظفون الحاليون، لكنها في المقابل تحرم من خرجوا للمعاش بعد إقراره، بينما دفعوا الاشتراكات طيلة تلك السنوات وفق قانون التأمينات والمعاشات القديم رقم 79 لسنة 1975، بحسب خليفة.
ويزيد حكيم يحيى، وهو محام متخصص في قضايا العمال في التوضيح قائلًا للمنصة المادة 21 قيدت أيضًا إمكانية الحصول على المعاش بسبب العجز الجزئي أو الكلي، في أن يكون للعامل مدد اشتراكات تأمينية مجموعها لا يقل عن 50% من الاشتراك الجديد، وهو ما لا يمكن تحقيقه، لأن القانون القديم كان يتعامل على شريحة تأمينية تناهز 1800 جنيه، بينما في القانون الجديد تناهز الشريحة 7000 جنيه، وهو ما لا ينطبق على أي عامل بالقطاعين الحكومي أو الخاص.
واتفق معه نقيب العاملين في القطاع الخاص، معلقًا للمنصة على تلك المادة "من غير الجائز أن ينص القانون على أحقية بعض العاملين في استحقاق المعاش المبكر ثم يضع عمليًا شرطًا يحول دون هذا الاستحقاق".
ولفت المحامي العمالي أن القانون القديم كان يحسب الشريحة التأمينية على 1800 جنيه، وتنطبق الخصومات على هذا الرقم، بينما زادها القانون الجديد حتى يحصل أصحاب المعاشات على مبالغ أعلى توفر لهم حياة كريمة، لكن أي من العاملين لم تصل استقطاعاتهم التأمينية أو حسابهم الاكتوراي إلى 65%.
حياة "لئيمة" مش كريمة
لم تكن إيمان تتخيل أن تعاني تلك المعاناة بعد خروجها على المعاش، إذ تجد هي وزوجها الذي يعمل بشكل غير منتظم، صعوبة في الإنفاق على أبنائهم الأربعة. تقول للمنصة "بدور على أي شغل أقدر أصرف بيه على ولادي"، مشيرة إلى أنها عادة ما تُرفض بسبب إعاقتها البصرية.
الأمر نفسه مع علي، الذي عاد للعمل بنظام اليومية للإنفاق على أسرته المكونة من 5 أفراد، وخلاله أصيب بأزمة قلبية، نُقل إثرها إلى المعهد القومي للقلب، وأجريت له عملية قسطرة، وأخبروه أنه بحاجة لعملية قلب مفتوح، وبعدها لم يتمكن من العودة لهذا العمل، واضطر إلى فتح محل لإصلاح وتأجير الدراجات الهوائية للأطفال بدخل زهيد نحو 50 جنيهًا يوميًا.
"المادة 21 من القانون تتناقض مع المادة 8 من الدستور، التي تكفل التكافل والكرامة للمواطن"
يعلق علي للمنصة "عايشين حياة لئيمة مش كريمة.. كنت دايمًا بشتغل وأموري كويسة، ومكنتش منتظر حسنة أو معروف من حد، لكن الوضع اختلف وما بقتش قادر اشتغل ولا قادر أعمل مجهود، ليه تحرموني من معاشي وعلاجي؟!" يُغالب علي دموعه متحسرًا بعدما نهشه الفقر والمرض.
التأمين الصحي
تجد إيمان معاناة في توفير احتياجاتها من العلاج في ظل عدم انتظام دخل زوجها ونفقات أسرتها، وبات علي مُطالبًا بشراء 6 أنواع من الأدوية كُتبت له بعد إجراء عملية القسطرة بمعهد القلب، يزيد سعرها على الألف جنيه شهريًا.
وبعدما يأست إيمان من إمكانية حصولها على معاشها التقاعدي، فكرت في الحصول على معاش عاجز أو أي رعاية طبية بعد 24 عامًا من العمل، تلخص رحلتها "اترفضت من القومسيون الطبي وعملت تظلم، وجبتلهم شهادة مرضية من مستشفى رمد الجيزة، أحسن مستشفى رمد حكومي، ولما شافوا التقرير قالوا عايزين زيه بالظبط من مستشفى رمد إمبابة، روحت جبتله تقرير تاني من مستشفى رمد إمبابة، راح قالي إحنا هنرد عليكي في مستشفى تأمين الصحي الهرم، وفي النهاية موصلتش لحاجة".
طعن بعدم الدستورية
وأمام معاناة هذا العدد الكبير من العاملين في القطاع الخاص، رفعت النقابة الخاصة بهم دعوى رقم 75621 لسنة 76 شق عاجل/حقوق وحريات، للطعن بعدم دستورية المادتين 21 و24 من قانون التأمينات والمعاشات رقم 148 لسنة 2019، بحسب النقيب شعبان خليفة، مشيرًا إلى أن الدعوى حولت أمام محكمة جنوب القاهرة.
وفند خليفة، وهو أيضًا محامٍ، النقاط التي استند إليها الطعن في أن المادة 21 من القانون تتناقض مع المادة 8 من الدستور، التي تكفل التكافل والكرامة للمواطن، متسائلًا "كيف تكفل كرامة المواطن وهو قاعد في البيت مش عارف ينفق على نفسه وأسرته".
وأضاف أن المادة نفسها تصطدم أيضًا بالمادتين 2 و4 تمهيد في قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، اللتان تنصان على أن "أي مادة قانونية في غير مصلحة العامل لا يُعتد بها"، و"تعتبر المزايا الواردة بتلك التشريعات الحد الأدنى الذي يتم التفاوض على أساسه"، وعلق أن مادة 21 من القانون لا تصب في مصلحة العامل أو المواطن المصري عامة.
وأشار إلى أن هناك بعض الشركات والمصانع في طريقها للتصفية، وسيخضع عدد كبير من عامليها للتسوية ويخرجون على المعاش المبكر، ومن المتوقع أن يواجهوا مشكلة في الحصول على معاش وتأمين صحي.
يتابع "تخيل وضع إنسان قاعد بدون عمل وعنده 40 أو 45 أو 50 سنة، وبناته في الجامعة وأولاده في الجامعة وعلى وش جواز وتجهيز وعايز علاج ومش قادر يوفر، لا مصاريف علاجه ولا مصاريف أولاده بعد سنين طويلة من الشغل".
تحركات برلمانية
في غضون ذلك، تقدّم المهندس إيهاب منصور وكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، بمشروع قانون لتعديل قانون التأمينات الحالي، "وكان يفترض أن تُشكل لجنة مشتركة من الحكومة والبرلمان لدراسة الوضع الراهن ووضع التعديلات المطلوبة، منذ يوليو/تموز 2022، ولكن حتى الآن لا جديد في الأمر" بحسب قوله للمنصة.
ويضيف منصور أن مشكلة القانون الحالي في أن تطبيقه جرى دون فترة انتقالية للحفاظ على حقوق هؤلاء العمال، مقترحًا تطبيق تلك الفترة لمدة 5 سنوات قبل بدء تفعيل القانون من 2019 حتى 2024، بحيث يُصرف المعاش لمن خرجوا معاش مبكر أو لم يستوفوا مدة الاشتراك التأميني المنصوص عليها في القانون الحالي.
وأقر ذلك المقترح نقيب العاملين في القطاع الخاص، مضيفًا للمنصة، "بقترح تعديل المادتين 21 و24 من القانون كاملتين"، مشيرًا إلى أن لجنة من النقابة طالبت ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني، بضرورة تخصيص جلسة على هامش اجتماعات الحوار الوطني من أجل مناقشة مشاكل قانون التأمينات والمعاشات الجديد.
وبخلاف منصور، تقدم نواب آخرون بمشروعات قوانين لتعديل بعض مواد قانون التأمينات على خلفية الإشكاليات التي يواجهها تطبيقه، من بينهم: ضياء الدين داوود، وإيهاب رمزي، وسولاف درويش، إضافة إلى الهيئة البرلمانية لحزب التجمع.
وأقر القانون البرلمان المصري السابق برئاسة علي عبد العال في يوليو، بعدما قدمته الحكومة في 2019، وصدق عليه الرئيس أواخر أغسطس/آب من العام نفسه، ليبدأ سريانه منذ مطلع العام 2020.
تتابع إيمان وعلي تلك التحركات بأمل في أن تسفر عن شيء، يُغير مسار حياتهما.
الهيئة لا تمانع التعديل
من جانبها، لا تنكر هيئة التأمين الاجتماعي المشاكل التطبيقية للقانون، وقال سامي عبد الهادي نائب رئيس الهيئة، أمام لجنة الخطة والموازنة في مجلس النواب في 25 مايو/أيار الماضي، خلال تمثيله للحكومة لمناقشة مشاكل القانون بعد 3 سنوات من إقراره وبينها مشاكل ذوي المعاش المبكر، إنهم لا يمانعون تعديله بما يحقق صالح المستفيدين، بشرط أخذ رأي الخبراء الاكتورايين في المواد الخاصة بالمعاش المبكر في القانون، مؤكدًا أنه يتم عمل فحص اكتواري للمنظومة بالكامل بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، وبعدها سيتم دراسة أي مقترحات للتعديل.
وأشار عبد الهادي إلى أن مشروع الموازنة الجديدة للهيئة يُقدر بنحو 576 مليارًا و103 ملايين و613 ألف جنيه، والموازنة الحالية بلغت 476 مليارًا و433 مليونًا و613 ألف جنيه، والفائض المتوقع أكثر من 76 مليار جنيه.
حاولت المنصة التواصل مع اللواء جمال عوض رئيس هيئة التأمين الاجتماعي، لسؤاله عما وصل إليه الأمر، وإمكانية تعديل القانون في ظل تضرر عدد كبير من عمال المعاش المبكر، لكنه لم يرد.
حتى الآن لم تُسفر الجهود المذكورة في تحقيق أي تقدم. وبينما ينتظر علي بأمل موعد مناظرته أمام اللجنة الطبية، نهاية أغسطس الجاري، تتمسك إيمان بخيط رجاء أن تُحل مشكلتها في وقت قريب، حتى يتمكنان من الحصول على حقهما في معاش تقاعدي يُمكنهما من تلبية الحد الأدنى من متطلبات الحياة ويغنيهما عن ذلّ سؤال المحيطين.