تقدمت نتالي عادل، ذات الـ27 عامًا، إلى وظيفة استقبال في أحد الفنادق الذي عنون إعلانه بـ"مطلوب آنسة حسنة المظهر". لم تلق نتالي بالًا لذلك، فمظهرها مهندم، والأهم قدراتها اللغوية، ودراستها للسياحة والفنادق تؤهلها لنيل الوظيفة بسهولة.
ذهبت نتالي، التي ترغب في السفر للخارج لاستكمال دراستها، إلى مقابلة العمل باعتبارها مرحلة انتقالية لحين سفرها. وهي تعاني من أن أسرتها لا تساوي في الانفاق على التعليم بين الأولاد والفتيات، لتُفاجأ بتمييز آخر.
خلال المقابلة، استمعن الموظفة إلى نتالي، وانبهرت باللغات التي تتقنها، والتي منها؛ الصينية وبعض الإسبانية والإنجليزية. وبعد انتظار دام يومين، فوجئت برفضها، تقول لـ المنصة "تجمد الدم في عروقي، حسيت إن فيه حاجة غلط"، وطلبت التحدث إلى الموظفة التي أجرت معها المقابلة، لتخبرها الأخيرة أن المظهر شرط هام، غير أن خبراتها شفعت لها لتكون في خدمة الغرف.
تكمل نتالي "مقدرتش أتمالك دموعي، وسألتها: هل أنا وحشة، لترد إنتي لطيفة ولكن مبينطبقش عليكي شرط الجمال حسب معايير الإدارة".
ردع ينقصه التشريع
لا يستغرب سعيد صادق، أستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ذلك السلوك، قائلًا لـ المنصة، إن "القبول المجتمعي لصور التمييز ضد النساء في إعلانات التوظيف، وإتاحة العمل لهن بشروط، ناتج عن الثقافة الذكورية السائدة".
ويضيف أن "بعض الأعمال الفنية والخطاب الديني كرس لفكرة أن المرأة مكانها المنزل، وبالتالي تصاب الفتيات بالإحباط، خصوصًا في ظل الطرق العنصرية في التوظيف من طلب آنسة أو التأكيد على حسن المظهر، ما رسخ لدى بعضهن شعورًا بعدم الاستحقاق، ودفعهن للابتعاد عن سوق العمل، وبالتالي سقطن فريسة للاستغلال المادي والاجتماعي والخنوع لذكر يعنفهن".
ورأى صادق أن تغيير الفكر السائد لا بد أن يتم بصرامة القانون، "سن قوانين وتطبيق عقوبات رادعة"، بالإضافة إلى "تغيير الصورة الذهنية من خلال الدراما والتعليم والإعلام والخطاب الديني، وتدخل مجلسي حقوق الإنسان والقومي للمرأة".
وهو ما تنص عليه المادة 11 في الدستور "تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية". لكن مجلس النواب لم يصدر قانونًا بذلك حتى الآن بحسب مي صالح، مديرة برنامج النساء والعمل والحقوق الاقتصادية بمؤسسة المرأة الجديدة.
النساء لا يقدمن شكاوى عند فصلهن لشعورهن باليأس من الحصول على حقهن، أو لغياب الوعي القانوني
وإذا كانت نتالي تعرضت لتمييز يشترط معايير معينة للجمال، فإن الثلاثينية ليليان عزمي تعرضت لتمييز يتعلق بالمظهر أيضًا، حين تقدمت للعمل في شركة سياحة للحج والعمرة، وهي غير محجبة، فرفض طلبها لأن الحجاب أحد شروط الوظيفة.
وبلغت نسبة البطالة بين النساء في مصر في الربع الثاني من العام 17.3%، مقابل 4.8% نسبتها بين الرجال، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وتحتل مصر المرتبة 129 من بين 146 دولة، في مؤشر إجمالي فجوة الأجور بين الجنسين لعام 2022.
آنسة .. وفقط
ومن تجربة رفض نتالي إلى الرفض لأسباب اجتماعية، تروي شيرين عبد العاطي تجاربها في الرفض المتكرر لكونها متزوجة. حصلت شيرين على بكالوريوس إدارة أعمال، ومؤخرًا قررت التقدم لوظيفة خدمة عملاء دون ارتداء خاتم الزواج، لتخطي السبب الذي لطالما رفضت لأجله.
في البداية، نجحت خطة شيرين، واجتازت المقابلة الشخصية، وفي أول يوم تدريب طلبوا منها البطاقة الشخصية، ثم استدعاها مسؤول التوظيف، وباقتضاب أخبرها أن تعليمات الإدارة عدم توظيف المتزوجات.
"قولتله إني مأجلة الخلفة" تضيف لـ المنصة، في محاولة منها للاحتفاظ بالوظيفة، خصوصًا أنها أول وظيفة لها، وأنها أقنعت زوجها بصعوبة للقبول بها، لكن هذه المحاولة لم تجدِ نفعًا، وجاء رد الموظف "بعتذر مش هنشغل ستات".
لم تفكر شيرين في التقدم بشكوى "لأن سوق العمل مفتوح عرض وطلب، وحق صاحب العمل إنه يحط أي شروط". فيما تشير مي صالح من مؤسسة المرأة الجديدة أن القانون الموجود حاليًا خاص بالحماية من الفصل التعسفي. وعمليًا لم تُعين شيرين رسميًا، بل أغلق الباب أمامها في أول يوم تدريب، لذا فالفصل التعسفي لا ينطبق عليها.
وبخلاف شيرين، تشير مي إلى أن "النساء لا يقدمن شكاوى عند فصلهن لشعورهن باليأس من الحصول على حقهن، أو لغياب الوعي القانوني"، ولهذا السبب "لم ترد إلينا شكاوى سوى في واقعة إعلان وزارة التربية والتعليم، ومع ذلك لم تستكمل الشاكيات المشوار" تقول الحقوقية.
حيث أعلن وزير التربية والتعليم رضا حجازي أمام مجلس الشيوخ، يناير/كانون الثاني الماضي، عدم التعاقد مع الحوامل في إعلان الـ30 ألف معلم.
وتصف مي ذلك بـ"التحريض الصريح ضدهن بالمخالفة للدستور". وتضيف "جميعها انتهاكات للحقوق الإنجابية، لذلك نطالب بإشراك الأب في رعاية الأبناء ومنحه إجازة رعاية بعد الولادة، وفي الحضانة، حتى تنتهي أسباب رفض عمل النساء والتفتيش في حالتهن الاجتماعية وخططهن الإنجابية".
لم يقتصرالتمييز السلبي ضد الحوامل على وزارة التربية والتعليم، إذ واجهته الصحفية الثلاثينية أمنية المالكي، في مؤسستين صحفيتين.
تتذكر أمنية في حديثها مع المنصة، الهجوم على زميلاتها الأمهات مع أي تقصير من جانبهن، يعقبه تهديد ولوم شديد مقارنة بزملائها، حتى أن إحداهن قيل لها "لو مش قادرة توفقي بين شغلك ودورك كأم اتفرغي لأطفالك".
وتُشير إلى أخرى كانت ترتدي حزامًا لإخفاء حملها، "هذا جعلني أتردد بعد زواجي بشأن الحمل خاصة مع تكرار سؤال رؤسائي حول خططي للإنجاب، ولم يستمر الأمر طويلًا، وحملت وظللت أخفي الخبر ولكن حالتي الصحية لم تمهلني وقتًا".
طلبت أمنية إجازة ولكن طلبها قوبل بالرفض، بل وتقرر زيادة ساعات عملها أو الاستمرار مقابل نصف الراتب، ما اضطرها للاستقالة، والالتحاق بصحيفة أخرى.
في المؤسسة الأخرى، احتفظت أمنية بحملها كسر؛ قررت أن تكشفه أمام إعجاب رؤسائها بعملها "منحوني مكافأة، ما شجعني على إخبارهم، وفي اليوم التالي فوجئت بالاستغناء عني دون إبداء أسباب".
المصنع يختار توظيف الفتيات لأن "الراتب المحدد قليل، وخصصنا وظائف أخرى للرجال براتب أعلى"
وتستنكر منى عزت، استشارية التمكين الاقتصادي والنوع الاجتماعي، ما يحدث مع النساء في مصر، مشيرة في تصريح لـ المنصة، إلى أن منظمة العمل الدولية أباحت الأسئلة الصحية المتعلقة بالحمل والرضاعة لمراعاة اشتراطات السلامة المهنية؛ كالتعامل مع مواد كيماوية، ولكن في مصر يتم التصنيف طبقًا للنوع وثقافة صاحب العمل.
ولا تبدو حالة أمنية بالنادرة، حتى أن مبادرة مؤنث سالم، وهي مبادرة نسوية لدعم حقوق الصحفيات، أطلقت في مارس/آذار الماضي جلسة تحت عنوان مش ذنبي إني أم، رصدت خلالها شهادات موثقة للصحفيات اللاتي تم الاستغناء عنهن فور حملهن إما بالفصل أو"التطفيش"، وحجب المكافآت والترقيات، بحسب أسماء فتحي مؤسسة المبادرة.
وتشير أسماء في حديثها لـ المنصة، إلى غياب العدالة بالنظر لعدد روؤساء التحرير النساء مقارنة بالرجال. وتضيف "رصدنا فجوة في الأجور حيث تتلقى الصحفيات أقل من زملائهن الذكور، ومع تخفيض الأعداد في الصحف الخاصة، تكون الصحفيات على رأس القائمة".
تحكي أسماء عن مديرة تحرير اكتشفت أن صحفيًا يحصل على راتب أكبر منها، وحين اعترضت أخبرتها الإدارة أن "النساء لديها أسرة تنفق عليها، بينما الرجال لديهم أعباء تكوين أسرة". وتابعت أنه مع قرارات التعيين يكون الاختيار للذكور حتى لا تتورط الصحيفة في امرأة قد تتزوج وتنجب، أولقناعاتهم باحتياج الذكور للاستقرار المهني.
وتتقاضى النساء أجورًا أقل من الرجال، وتقدر فجوة الأجور بين الجنسين بنسبة تقترب من 20% على مستوى العالم. حيث تكسب النساء 77 سنتًا مقابل كل دولار يكسبه الرجال لقاء نفس العمل، مع وجود فجوة أجر أكبر للنساء ذوات الأطفال، بحسب الأمم المتحدة.
رواتبهن أقل
والتمييز في الراتب الذي رصدته أسماء ضد الصحفيات، يتكرر في مجالات أخرى، حتى وصل مصنعًا للحقائب في منطقة إمبابة.
تروي الثلاثينية إيمان سعد وهي تعمل بقسم التوظيف هناك "لدينا شرط لتوظيف النساء، أن تكون آنسة كي لا تنشغل بالزواج، وتظل متاحة للتأخر في العمل، وإذا حملت وأنجبت يتم فصلها ووقف تأميناتها الاجتماعية، وإن اضطررنا لعودتها يتم تعيينها بعقد وراتب جديدين".
وتُشير إلى أن المصنع يختار توظيف الفتيات لأن "الراتب المحدد قليل، وخصصنا وظائف أخرى للرجال براتب أعلى".
ولا تقف الشروط هنا؛ بل تمتد إلى رفض غير المحجبات، بينما تحاول هي "تجاهل شرط رفض المخطوبات"، توضح إيمان لـ المنصة "أشعر بغضب داخلي مع الكثير من التعليمات التي تخص توظيف النساء، أنا أيضًا أعاني، فمنذ خلع الحجاب أفكر في الاستقالة نتيجة للضغط المستمر".
تأنيث الفقر
وتعلق مي صالح، مديرة برنامج النساء والعمل والحقوق الاقتصادية بمؤسسة المرأة الجديدة، أن أخطر ما تواجهه النساء تسليعهن في سوق العمل، مشيرة إلى أنه ليس فقط تمييز بين النساء والرجال، ولكن "بين النساء والنساء، فليس جميعهن آنسات، ولا على ذات القدر من الجمال، ما أدى لتأنيث الفقر".
لكن بعضهن يتمردن على التمييز والتنميط، ويقفزن على آثار ما تعرضن له، ومنهن نتالي ذات البشرة السمراء، وبعض البروز في الأسنان والشعر المجعد، والتي وإن لم تجد ترحيبًا بتلك الملامح في الداخل، حصلت أخيرًا على منحة لدراسة إدارة المدن السياحية بدولة أوروبية لتطير من الفرح، على حد وصفها.
نتالي تمكنت من اقتناص فرصتها، لكن لا تزال مئات النساء يواجهن التمييز ضدهن كل يوم في سوق العمل، ويخضعن لشروط حول المظهر، والحالة الاجتماعية، وقلما يُسألن عن الكفاءة.