تصميم أحمد بلال، المنصة، 2024
تقضي الأمهات العاملات في المصانع 9 ساعات بعيدًا عن أطفالهن الرضع

بين الحق في العمل والاحتياج له.. كيف تقضي الأمهات المرضعات ساعات العمل؟

منشور الأربعاء 23 أكتوبر 2024

تسع ساعات تقضيها زينب محمود في العمل على أحد خطوط إنتاج الغسالات في مصنع للأجهزة الكهربائية بمحافظة المنوفية، لا تملك من وقتها سوى دقائق تسرقها في الحمام لتفريغ ثدييها من اللبن في محاولة لتفادي حَرَج انتشار بقع اللبن على ملابسها، وألم التحجير.

تركت زينب رضيعها بعد انتهاء إجازة الوضع التي يحددها القانون بـ3 أشهر، وعادت لوظيفتها. تقول لـ المنصة "ولدتُّ من خمسة شهور، ونزلت الشغل بعد الإجازة، وطبعًا مقدرش آخد ابني معايا، والمصنع حتى مبيديش ساعة رضاعة. بغيب عن ابني من 6 ونص الصبح لحد 5 المغرب، يعني حوالي 11 ساعة ابني مبيرضعش مني".

ما تقصده زينب بـ"ساعة الرضاعة" هو ما تنص عليه المادة 93 من قانون العمل "للعاملة التى تُرضع طفلها خلال الأربعة والعشرين شهرًا التالية لتاريخ الوضع، بالإضافة إلى فترة الراحة المقررة الحق في فترتين إضافيتين للرضاعة، لا تقل كل منهما عن النصف ساعة، وللعاملة الحق فى الجمع بين هاتين الفترتين. وتحسب هاتان الفترتان الإضافيتان من ساعات العمل ولا يترتب عليهما أي تخفيض فى الأجور".

لبن الأم هو الغذاء الأفضل للأطفال في سن العام.

ولبن الأم هو الغذاء المثالي للرضع. ويمدّ الرضيع بكل ما يحتاجه من طاقة وعناصر مغذية في الستة أشهر الأولى من عمره، ويستمر في توفير ما يقارب نصف الاحتياجات الغذائية للطفل خلال عامه الأول، ثم ينخفض إلى الثلث خلال السنة الثانية من عمر الطفل. 

يعني هذا أن لبن الأم هو الغذاء التأسيسي الأفضل، وابتداءً من الشهر السادس ينبغي إدخال الأطعمة التكميلية المأمونة والكافية على النظام الغذائي للطفل، إلى جانب الرضاعة الطبيعية.

ولكن زينب، البالغة من العمر 32 سنة، تضطر إلى الاعتماد على اللبن الصناعي، تقول "في الأول كنت برضَّع ابني قبل ما أسيبه، وأول يوم ما فضيتش اللبن من صدري على أمل إني أول ما أوصل البيت يرضع، لكن جاتلي سخونية وتحجير في صدري وكنت حاسة إني بموت، غير إن لبسي اتبهدل، وسمعت تعليقات ضايقتني من زمايلي، فبقيت أشفّط وأرمي في حوض الحمام خلال يوم العمل".

هناك أكثر من نصف مليار امرأة عاملة في العالم لا يستفدن من التدابير الأساسية لحماية الأمومة في القوانين الوطنية، إذ تُلزم 20% من الدول فحسب أصحاب العمل بتوفير فترات راحة مدفوعة الأجر للعاملات ومرافق للرضاعة الطبيعية أو لاستدرار لبن الأم، وهو ما يحرم أكثر من نصف عدد الرضّع الذين تقل أعمارهم عن 6 أشهر من الرضاعة الطبيعية الخالصة.

وحسب منظمة اليونيسف، يحدث تحجر الثدي بسبب امتلائه باللبن، ويسبب شعورًا بالألم فضلًا عن الاحمرار وتورم الثدي بشكل غير طبيعي. كما يتسبب التحجر في إصابة المرأة بالحمى التي قد تستمر إلى 24 ساعة.

تدفع ظروف العمل 80% من الأمهات إلى الفطام المبكر قبل بلوغ الطفل شهره السادس، حسب تقدير جيهان فؤاد، العميدة السابقة للمعهد القومي للتغذية التابع لوزارة الصحة والسكان، في مارس/آذار من العام الماضي.

وتوضح المسؤولة الحكومية أن ظروف العمل تجبر الأمهات العاملات على ترك أطفالهن لساعات طويلة دون رضاعة طبيعية، ما يؤثر على قدرتهن على إدرار اللبن، ومن ثم صحة الطفل.

منحة ممنوعة

عاملات في اعتصام بمصنع المنصورة-إسبانيا في الدقهلية، 9 مايو 2007

ظروف زينب جعلتها غير قادرة على المطالبة بساعة الرضاعة المنصوص عليها في القانون، فهي تعيش في قرية ميت ربيعة التابعة لمركز منوف "شغلي في منطقة صناعية مفيهاش أي مكان أسيب ابني قريب مني، كمان ما طالبناش بيها لأن أوتوبيسات الشغل بتاخدنا وترجعنا ولو طلعت بدري ساعة أو رحت الشغل متأخر ساعة هاتحمل فلوس المواصلات وده كتير".

إدارة المصنع الذي يقع بكفر الرمل في المنطقة الصناعية بمركز قويسنا التابع لمحافظة المنوفية ناقشت فكرة تأسيس حضانة للعاملات ومنحهن ساعة رضاعة، خاصة أن عددهن يتجاوز الـ4 آلاف امرأة، حسب مصدر بقسم الموارد البشرية بالمصنع، طلب عدم نشر اسمه، قال لـ المنصة "لو عملنا حضانة وساعة رضاعة هانفتح على نفسنا فاتوحة، وكل شوية العاملات يسيبوا شغلهم ويروحوا لعيالهم، وده هيأثر على الإنتاج، وكمان المبنى اللي يتعمل حضانة الإدارة شافت إنه يتعمل مكاتب وتوسعات أحسن". رغم أنه بهذا التفكير تخالف الإدارة نص المادة 71 من قانون الطفل.

الحال لا يختلف في المؤسسات الحكومية، ففي محافظة المنوفية أيضًا قررت آية جمال، التي تعمل صيدلانية في أحد المستشفيات العامة، العودة إلى عملها بعد إجازة الوضع المقررة قانونًا بأربعة أشهر. استعدت آية للعودة للعمل بشراء شفاط ثدي مستعمل يعمل بالكهرباء، لأنه أسرع وأريح من اليدوي، حصلت عليه بمبلغ 3200 جنيه، إذ يتراوح سعر الجهاز الجديد بين 4 إلى 15 ألف جنيه، حسب الماركة والموديل. 

ورغم هذا الاستثمار، لم تستطع آية استخدام الشفاط لعدم توفر مكان مخصص، تقول لـ المنصة "بادخل غرفة مخصصة للأطباء، وأشفّط مرة واحدة في نص اليوم، لأن شغلي من 8 صباحًا لـ 1 ظهرًا، وبكون مرضعة بنتي قبل ما أنزل وأرجع جري بعد الشغل أرضعها تاني، وباخد لها اللبن المتشفّط معايا عشان تاخده تاني يوم في فترة غيابي عنها".

بخلاف مشكلة المكان، يرفض مديرو الصيدلية أن تحتفظ آية بلبن ثديها في ثلاجات المستشفى، "بيقولوا المنظر مش حلو". اضطرت آية لإعطاء ابنتها جرعات من اللبن الصناعي "وبحاول أحافظ على المتبقي من الطبيعي، وعشان كده التشفيط مهم جدًا لزياده إدرار اللبن". 

حلول بديلة لمن استطاع إليها سبيلًا

قبل أكثر من عام، دشنت بوسي الجندي، أخصائية تحاليل طبية، قناة على يوتيوب وصفحة على إنستجرام إلى جانب مجموعة مغلقة على فيسبوك، لتوعية الأمهات بأهمية الرضاعة الطبيعية وتثقيفهن بطرق وآليات الحفاظ على حليب الأم.

تقول لـ المنصة "أقدم محتوى ينشر ثقافة الرضاعة الطبيعية والاعتماد على الشفاط رغم تكلفته العالية للحفاظ على إدرار اللبن"، تشعر بوسي أن ما تقدمه من محتوى يواجه الكثير من العقبات المادية، "وجود غرفة للأمهات في الشغل، غير تكلفة لوازم التشفيط زي أكياس حفظ اللبن، وتلاجة وشنط مخصصة للحفظ".

توصي منظمة الصحة العالمية بتوفير غرف واستراحات للرضاعة الطبيعية

لكن ذلك كله لا يعني أنه سيوفر للأم البيئة المناسبة لتمارس عملها وتحافظ على الرضاعة الطبيعية، إذ اضطرت نسمة أحمد، التي تعمل بقسم العلاقات العامة في إحدى الشركات الخاصة بمحافظة القاهرة، إلى تعطيل مسيرتها المهنية.

تقول لـ المنصة "اشتريت الشفاط بـ8 آلاف جنيه، بيشتغل ببطارية وبيلزق لوحده على الثدي، لكن هيبقى باين تحت الهدوم، وله صوت. وبردو هاتعرّض لمضايقات زي بالظبط لما بحط ساتر الرضاعة عليا فألاقي الناس بتتفرج كأني قلعت هدومي!"، قررت الأم ذات الـ26 عامًا الحصول على إجازة غير مدفوعة الأجر تجنبًا للتعليقات والنظرات.

تندم نسمة على قرارها، تقول "كل اللي في الشغل طوروا نفسهم وبيترقوا بانتظام في مواعيد الترقيات"، ليلازمها الشعور أن بيئة العمل غير المناسبة أجبرتها على الاختيار بين أمومتها وطموحها. "مفيش بيئة عمل بتساعد الست ولا أي مكان بيراعي الأمهات اللي بترضع".

توصي منظمة الصحة العالمية بتوفير غرف واستراحات للرضاعة الطبيعية، وهي تعديلات منخفضة التكلفة يمكن أن تصبح جزءًا من سياسة صديقة للأسرة تنطوي على فوائد عديدة لمكان العمل، كما يمكن أن تحسن من معدلات الرضاعة الطبيعية.

مطالبات نسوية

تساعد الرضاعة الطبيعية على حماية الطفل من الأمراض

بدورها، قدمت منى عزت، استشارية تمكين اقتصادي واجتماعي، ورئيسة مجلس أمناء مؤسسة النون لرعاية الأسرة، دليلًا لمفتشي العمل بشأن قضايا المساواة بين الجنسين بالتعاون مع منظمة العمل الدولية.

يضمن الدليل حفظ حقوق الأم العاملة، خاصة وأن صاحب العمل يعتبر منح النساء حقهن في ساعة رضاعة هو تعطيل لعجلة الإنتاج، فيما تمنح بعض المصانع الأم يوم راحة أسبوعيًا بديلًا عن ساعة كل يوم و"هو أمر غير قانوني ويتعارض مع مصلحة الأم والطفل" حسب منى.

ترجع منى اعتراض أصحاب العمل على إنشاء الحضانة في المصانع إلى التمييز، تقول لـ المنصة "شايفين إن ليه يتحملوا عبء مادي لصالح المرأة، ومش كل المصانع بتسمح بإجازة وضع. بتضطر الأم تنزل بعد الولادة بفترة قصيرة وتسيب طفلها بدون رضاعة، وده بيخليه يعتمد على اللبن الصناعي فمناعتهم تتأثر ويخليهم عرضة لأي عدوى".

لا يقتصر الأمر على صحة الطفل، اللبن الصناعي يعني "تكلفة عالية جدًا على الأم، لأن أسعاره مرتفعة". فوزارة الصحة تضع شروطًا وإجراءات معقدة للحصول على اللبن المدعم.

ترتفع أسعار الألبان الصناعية بمختلف أنواعها بشكل شهري، كما تعتبر بعض الأصناف من النواقص دائمًا في الصيدليات. وتبلغ تكلفة علبة اللبن الواحدة 230 جنيهًا كحد أدنى، ويحتاج الطفل في المرحلة الأولى (من يوم إلى 6 أشهر) 10 علب شهريًا، تقل تدريجيًا مع إدخال الطعام.

ترى استشارية التمكين الاقتصادي الحل في توفير حضانة في مكان العمل أو بالقرب منه. كما طالبت مؤسسة المحاميات المصريات لحقوق المرأة بتعديل المواد الخاصة بالعاملات في قانون العمل، وتفعيل الاتفاقية 190 لمنظمة العمل الدولية، التي تنص على توفير بيئة عمل آمنة للنساء، وتحديدًا "زيادة الفترة المخصصة للرضاعة إلى ساعتين بدلًا من ساعة واحدة، وتوفير غرف للرضاعة، خاصة أن الأمهات يرضعن أطفالهن داخل الحمام أو المسجد ويتعرضن لمواقف محرجة"، حسب هبة عادل، رئيسة مجلس أمناء المؤسسة.

دخلت مؤسسة المحاميات المصريات على خط الدفاع عن المرضعات منذ عدة سنوات حين تواصلت مع ثلاث عاملات في مصنع إلكترونيات، تقدمن بشكاوى لمكتب العمل تمهيدًا لرفع دعوى قضائية بسبب امتناع الإدارة عن منحهن ساعة رضاعة، أو توفير حضانة للرضع، أو حتى إعطائهن بدلًا ماديًا لدفع مصروفات حضانة خارجية. في تلك الحالة أيضًا هددتهن الإدارة؛ إما القبول بالتسوية أو النقل لفرع الشركة في الإسماعيلية.

"مش كل الستات نَفَسها طويل عشان تاخد حقها بالقانون" تقول هبة عادل.

كانت الحكومة تقدمت بمشروع قانون جديد للعمل يتضمن المادة 56 التي تنص على "على صاحب العمل الذي يستخدم مائة عاملة فأكثر في مكان واحد أن ينشئ دارًا للحضانة، أو يعهد إلى دار للحضانة برعاية أطفال العاملات بالشروط والأوضاع التي تحدد بقرار من الوزير المختص"، غير أن المشروع الذي نوقش في لجنة القوى العاملة بمجلس النواب لم يرَ النور حتى الآن.

توفر بعض المؤسسات غرفة رعاية لأبناء العاملات وتسمح للأم بإرضاع الطفل خلال الساعة التي يقرها القانون، سواء مرة واحدة لمدة ساعة أو مرتين بواقع نصف ساعة لكل مرة. وهي التجربة التي اختبرتها مريم عبد الحكيم، معلمة الرياضيات بإحدى المدارس الخاصة التي قالت لـ المنصة "عملولنا بيبي روم، وكنا بنجيب ولادنا، لكن ما كملتش ولغوها".

وذلك لأن إدارة المدرسة "شافت إننا بنتعطل والطفل بعد ما بيشوف أمه بيفضل يعيط، وبناخد وقت لحد ما نقدر نرجع تاني لحصصنا".

عادت مريم إلى المربع صفر، حيث لا تزال زينب تبكي ظهيرة كل يوم وهي تفرغ ثدييها بيديها في البلاعة وتعاني لتوفير ثمن اللبن الصناعي.