
بويضات للبيع وأرحام للإيجار.. أسواق للأمومة البديلة
"منذ صغري وأنا أتمنى تعلم الفرنسية لأقرأ 'البؤساء' بلغتها، ومنذ صغري أيضًا أميل لقصصِ مَن دمَّرت الحياةُ أحلامهم وهجرتهم ونفتهم عن أوطانهم. وحين أتقنت الفرنسية دمرتني الحياة ونفتني لأحمل وألد في أرضٍ غير أرضي".
تصف ليلى حالها كأمٍّ بديلة. هي امرأة سوريّة يبلغ عمرها 32 عامًا، انتهت بها رحلة استغلال طويلة إلى فرنسا، حيث تحمل في بطنها جنينَ والدَيْن يعيشان هناك.
"أؤجر رحمي فقط لأعطي شيئًا من روحي ودمي لغيري"، تقول دارسة الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة حلب، التي انقضَّت عليها الحرب هي وأختها أسماء، كوحش كاد يفترسهما. وحين هربتا، وجدتَا وحشًا آخر يشحذ مخالبه ويُلمّع أنيابه لينهش جسديهما ثم يُلقي بهما في دوامة مرعبة من الاستغلال الممنهج.
هربت ليلى من سوريا إلى تركيا بحثًا عن الأمان، لكنها وجدت نفسها في قبضة الفقر ليغريها غريب بتأجير رحمها لصالح زوجين. بعد موافقتها وتوقيع العقد، نُقلت إلى قبرص التركية، حيث تسمح القوانين هناك بتأجير الأرحام التجاري. هناك، زرعوا جنينًا في رحمها، ومن ثم نُقلت إلى أوكرانيا، حيث قضت فترة حملها في عزلة تامة، حتى وضعت الطفل وسلمته إلى الزوجين مقابل مبلغ مالي.
بعد عام ونصف العام، وجدت نفسها في فرنسا تحمل طفلًا آخر ليس منها. زُرع الجنين في رحمها هذه المرة في رومانيا. ولتلبية رغبة الوالدين المقيمين في فرنسا، انتقلت لتقضي فترة حملها برفقتهما هنا، على أن تعود إلى رومانيا عندما يقترب موعد الولادة، لتضع الطفل وتُسلّمه كما فعلت من قبل.
أما أسماء، التي تصغرها بسنتين وتكبرها في المأساة، فقد جاءت إلى فرنسا بعد أن استُغلت في اليونان، حيث اضطرت لبيع بويضاتها، ثم أجّرت رحمها مرتين لتكون أمًّا بديلةً تحمل في جسدها أطفالًا لا تعرفهم. كلتاهما، ليلى وأسماء، تعرضت لاستغلال أن تحملا بأطفال لن تكونا لهم أمهات.
تملك النساء في عصر النيوليبرالية
تعود جذور الأمومة البديلة إلى العصور القديمة، حين كانت النساء تستخدم وسيلةً لإنجاب الأطفال للأسر النبيلة التي لم تستطع الإنجاب. وفقًا للعهد القديم (سفر التكوين 16) يُقال إن إسماعيل، ابن إبراهيم، وُلد بهذه الطريقة، حملت به هاجر، خادمة سارة، بهدف إعطائه لهما.
واليوم، وفي عصر نيوليبرالية لا تكترث بالعدالة الاجتماعية، وتسعى لتدمير الهياكل الجماعية القادرة على اعتراض منطق السوق، تبرز الأمومة البديلة في دول أوروبية ظاهرةً تعيد تشكيل الأدوار الاجتماعية للنساء، وتُسلِّط الضوء على استمرار استغلالهن في سياقات جديدة. فالتطور في تقنيات الإنجاب الحديثة، أعاد فتح أبواب جديدة لاستغلال النساء الفقيرات والمهاجرات، بل وتملّكهن في أحيان كثيرة.
لفهم ظاهرة الأمومة البديلة، التي تتقاطع فيها عوامل اجتماعية واقتصادية وقانونية، طوَّرت الباحثتان كوليت جيومين وكرستين دالفي مفهوم تملك النساء، كإطار نظري ضروري.
تشير الباحثتان إلى أن التملك الاجتماعي يُحوّل الأفراد، خصوصًا النساء، إلى ممتلكات مادية، ويعني المصطلح تقليلهن إلى حالة الأداة.
وفي إطار الأمومة البديلة يستولى على ماديتهن الكاملة، ويتجلى ذلك من خلال قيود اجتماعية واقتصادية وقانونية، مثل التحكم في مكان الإقامة أو استغلال الأدوات القانونية. مثلما أُجبرت ليلى على المكوث في فرنسا مع والدي الطفل الذي تحمله، وفقًا لرغبتيهما، ما قيِّد حركتها.
أما الأدوات القانونية، فهي تعتمد على تناقضات تمنح النساء حريةً ظاهريةً عند توقيع عقود الأمومة البديلة، لكنها عمليًا تجردهن من القدرة على اتخاذ القرارات بأنفسهن، مما يحولهن إلى أدوات تُستغل تحت غطاء الحرية القانونية. وبهذا، ومن منظور نسوي، يمكن النظر إلى الأمومة البديلة باعتبارها إعادة إنتاج للأدوار التقليدية للمرأة أداةً للإنجاب، مما يعيدها إلى التبعية الاقتصادية والجسدية.
"هناك أشخاص جائعون! هناك أشخاص يشعرون بالبرد! هناك فقراء!" (*)
هذا ما شعرت به ليلى "طيلة فترة الحمل لم أكن أملك نفسي ولا جسدي. في كل مرحلة جردتني الظروف من جزءٍ من إنسانيتي، وقعت عقدًا سلبني حريتي".
تسحب حجابها إلى الخلف بحركة مترددة، تمسح دمعة تنساب على خدها، ثم تضم يديها في حضنها وكأنها تحاول جمع ما تبقى من شتات نفسها وتواصل "في تركيا، بدأوا بتحضير جسدي ليكون جاهزًا للجنين، وحصروا تحركاتي، وفي قبرص ومن ثم أوكرانيا أصبحتُ مجرد وعاء.. أنا لم أختر الذهاب لهذه الدول، هم قرروا، وأنا لم أملك حتى حرية الموافقة".
بالنسبة لأسماء شقيقة ليلى "في البداية، كان الأمر غريبًا، لكنني كنتُ أظن أنني أستطيع السيطرة على وضعي. في اليونان، بدأت أبيع بويضاتي، ولكنني لم أكن أدرك تمامًا كيف ستتحول حياتي إلى سلسلة من الاستغلال".
دخلت أسماء اليونان عبر البحر، ضمن مسار هجرة غير نظامية، وكانت تنوي تقديم طلب لجوء، لكن لم تتمكن من ذلك بسبب ظروفها في تلك الفترة. بعد وصولها، توجهت إلى بعض المؤسسات التي تقترح فرص عمل كمعينة منزلية للنساء في وضعيات هشّة، ومن هناك تم استقطابها من طرف وسيط. لتبدأ بيع بويضاتها.
تفتح كفيها وتبسطهما على الطاولة، تنظر إلى الأرض لحظة قبل أن ترفع رأسها بنظرة ثابتة، ثم تضغط بأصابعها على الطاولة كأنها تحتج على الواقع وتسيطر على نفسها وتشبك يديها أمامها لتستعيد توازنها.
تكمل بصوت جاف "بعدها، أجرت رحمي مرتين، فشل الحمل في التجربة الثانية، فألغي العقد قانونيًا. وأمام تلك الخيبة، فقدت كل شيء: المال الذي وعدوني به والكثير من روحي وحريتي".
تتوقف لبرهة، ثم تفك تشابك يديها ببطء، وتنظر إلى الأمام رافضة أي تعاطف وتواصل بحزم "إذا راح الجمل لا تتحسَّر ع الرسن، ما كل البلد راحت".
الفقر مصدر الهشاشة والاتجار
رغم أن النساء والفتيات يمثلن قرابة نصف عدد المهاجرين، ورغم الدور الأساسي لهن في الهجرات الدولية، فقد كنّ لفترة طويلة غير مرئيات. ومع تزايد الدراسات التي تسلط الضوء على وجودهن في سياق الهجرة وسلاسل الرعاية العالمية، أصبحت مشاركتهن أكثر وضوحًا، غير أن ذلك لم يشمل المهاجرات في إطار الأمومة البديلة. فهؤلاء ما زلن غير مرئيات بسبب تراكم طبقات من الإخفاء والتمييز، حيث يُنظر إليهن كأدوات لإرضاء المنتسبين. هذا التجريد من الإنسانية يؤدي إلى نقص في المعلومات والمعرفة حولهن.
"باعت كل ما كانت تملك، مما جلب لها مئتي فرنك"(*)
"هاجرت أو هربت من وطني بحثًا عن حياة أفضل، لكن هل أنا حقًا إنسانة مهاجرة في نظر هذا العالم؟ من يعرف عني شيئًا؟ أنا مجرد رقم في مراكز بيع البويضات وتأجير الأرحام، ربما، وحتى هذه اللحظة، اسمي لم يسجل فعليًا على الحدود"، تقول أسماء.
يلعب الفقر الدور الأساسي في تعريض النساء للاستغلال في عمليات تأجير الأرحام والتبرع بالبويضات، فمعظمهن يعشن ظروفًا اقتصادية قاسية، مما يجعلهن أهدافًا سهلة للوسطاء المجنِّدين الذين يستغلون أوضاعهن الحرجة بوعدهن بتعويضات مالية قد لا تتحقق.
ليلى كانت في وضعٍ لا تستطيع تحمله "فقر شديد وعجز عن تأمين حتى احتياجاتي الأساسية. عندما عرضوا عليّ المال مقابل حمل طفل لآخرين، لم أستطع رفض العرض. وعدوني بمبلغ كبير مقارنة بوضع حياتي، وكنت أظن أنني سأتمكن من تحسين حياتي وحياة أسرتي. لكن بعد فترة انتهى المال الذي بعت نفسي من أجله".
استغلال خفي في سوق الخصوبة
في العقود الأخيرة، ازداد الطلب على البويضات البشرية في أنحاء العالم، سواء للإنجاب أو لأغراض بحثية مثل أبحاث الخلايا الجذعية. وهنا ظهرت مشكلة أخلاقية واجتماعية تتعلق باستغلال النساء، خصوصًا اللاتي يعانين من أوضاع اقتصادية صعبة أو المهاجرات.
تُستهدف هؤلاء النساء من قبل وسطاء ووكلاء يسعون لجذبهن بعروض مالية مغرية مقابل التبرع ببويضاتهن. غالبًا ما تُغلف هذه العملية بغطاء أخلاقي مثل مساعدة عائلة على الإنجاب، لكنها في الواقع تُحول النساء إلى أدوات بيولوجية لإنتاج مواد تناسلية تُباع في سوق الخصوبة.
تقول أسماء "في البداية، صدقت، أو أردت تصديق أن بيع بويضاتي سيساهم في إسعاد عائلة أخرى، تشبثت بفكرة أن هذا قد يكون عملًا حسنًا، لم أفكر في اختلاط الأنساب أو العواقب الدينية لهذا الفعل. مع مرور الوقت، بدأ ضميري يعاتبني". تتوقف لبرهة، تشعل سيجارة، ثم تكمل "هللي بيشتغل بهيك قرف بيلحسلو لحسة".
"السفر هو أن تولد وتموت في كل لحظة"(*)
يُعتبر التبرع بالبويضات إجراءً طبيًا يساعد العديد من النساء اللاتي يعانين من مشكلات في الخصوبة على تحقيق حلم الأمومة. لكن في الوقت نفسه تُجبر النساء على توقيع عقود غير عادلة فيتعرضن لمخاطر صحية، في إطار ما يمكن وصفه بـ"تسليع" الجسم البشري.
تشير الدراسات إلى أن المتبرعات غالبًا ما يفتقرن إلى المعرفة الكافية بالمخاطر الصحية المرتبطة بإجراءات التبرع بالبويضات، التي قد تشمل النزيف، التهابات، ومضاعفات أخرى طويلة الأمد.
تقول ليلى، بصوت يحمل خليطًا من الحيرة والخوف، "لم أستطع بيع بويضاتي لأنني خفت من الله، لكنني حملت بطفل لوالدين مثليين. لم أوقع على إعطائهما بويضاتي، ولكنني لست متأكدة إن كان الأطباء قد احترموا ذلك. هذا الشك يطاردني".
شكل جديد من الاتجار بالبشر
تتباين القوانين المتعلقة بالأمومة البديلة من دولة إلى أخرى. ففي حين تحظرها بعض الدول مثل فرنسا بشكل صارم، تتيحها دول أخرى مثل أوكرانيا وقبرص التركية بشروط مختلفة. هذا التباين القانوني يؤدي إلى ما يُعرف بـ"سياحة الأمومة البديلة"، حيث يسافر الأفراد إلى الدول التي تسمح بهذه الممارسات.
تُشير أبحاث إلى أن تنقلات الأمهات البديلات تأخذ أشكالًا متعددة، تقع تحت بند الاستغلال، مما يجعلها شكلاً جديدًا من الاتجار بالبشر. إذ تستدرج النساء من بلدانهن الأصلية إلى دول أخرى حيث تكون الأمومة البديلة قانونية، أو يُستهدفن بعد الهجرة ليصبحن أمهات بديلات أو متبرعات بالبويضات.
بالإضافة إلى ذلك، تجبَر النساء أحيانًا على التنقل لأسباب طبية إلى مراكز متخصصة، أو يُنقلن إلى مناطق مختلفة لتقليل التكاليف، ما يؤدي إلى عزلتها عن مجتمعاتهن ودعائمهن الاجتماعية.
بعد انتهاء حصص التدريب على الولادة التي جمعتني بليلى وشقيقتها أسماء انقطعت صلتي بالمرأتين، ولم أعد أعرف أين أخذتهما الحياة، لم يبق منهما سوى تسجيلات ضمن بحثي عن الأمومة البديلة، لتظلا شاهدتين على مأساة تُحكى في صمت، ولا يسمعها إلا من عاشها.
مأساة، لا تقتصر على النساء وحدهن، بل تشمل أيضًا الأطفال الذين يُنقلون عبر الحدود بطرق غير قانونية، ليصبحوا ضحايا غير مرئيين في نظام يركز على إرضاء الوالدين المستأجرين دون أن يأبه بالتساؤلات الأخلاقية العميقة حول هويتهم وحقوقهم.
(*) القبسات من رواية البؤساء لفيكتور هوجو.