على مدار قرون، لم يُنظر للأمومة سوى بوصفها غريزة تولد بها النساء، وتدور حياتهن بالمجمل حول اللحظة التي تجعل منهن أمهات بالفعل، أبو بالأحرى، تمنحهن الوجود كذات إنسانية.
بتقسيم الأدوار بين الجنسين تحولت الأمومة إلى عاطفة غريزية لا يمكن مساءلتها، وشيئًا فشيئًا ازدادت قوة الهالة المقدسة التي تحيط بالأم، ليُنظر للمرأة التي لم تنجب بوصفها غير مكتملة، وتوصف بأنها عاقر ذات رحم جاف أجدب. تحققت المساواة ولكن ليس بين الجنسين وإنما بين المرأة والأمومة.
ذلك المفهوم احتاج إلى الكثير من الجهد العلمي لينتقل من كونه أحد الأدوار الطبيعية للنساء إلى موضوع للدرس.
بدأ الأمر من مجال علم النفس ثم انتقل إلى علم الاجتماع وظهر في نهاية المطاف في النقد الأدبي. ورغم أن الأعمال الأدبية لا تكاد تخلو من شخصية الأم أو العلاقة بينها وأبناءها، فإن النقد الأدبي النسوي كان عليه أن ينتظر صدور كتاب ماريان هيرش، الأمريكية من أصل روماني، عام 1989 بعنوان حبكة الأم/الابنة: السرد، التحليل النفسي، النسوية.
تتناول هيرش أشكالًا متعددة من العلاقة بين الأم والابنة، وتستخلص من التحليل أن حبكة الأم/ الابنة على مدار القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانت تنحو إلى نفي ذات الأولى لصالح الثانية، حيث تتكلم الابنة بدلًا من الأم، وهو ما يمنح صوتًا لخطابها ويهمش خطاب الأخرى.
تشير هيرش أيضًا إلى ظهور ذات أمومية خاصة في أدب السود، مثل أليس ووكر وتوني موريسون، باعتبارهن يرين أنفسهن "جيل نسوي جديد فيما يتعلق بالثقافة الأمومية"، والمقصود بالجدة هنا توجه الكاتبات في تصوير ذات الأم بشكل مختلف عن الخطاب الأدبي والثقافي السائد.
وكأن هيرش فتحت أفقًا جديدًا في تناول الأم أدبيًا، فعلى سبيل المثال قدمت جيل راي عام 2009 كتابًا بعنوان سرديات الأمومة: كتابات النساء في فرنسا المعاصرة، الذي يعد أول دراسة تتناول الكتابات الفرنسية، اشتبك مع قضايا دائمًا ما تثيرها تأثرًا بتغير نمط العائلة والخيارات الإنجابية.
إضفاء الرومانسية على الأم وربطها بالأرض يرسخ مبدأ الجوهرية من ناحية وينزع عن الأم فردانيتها من ناحية أخرى
ومنذ بداية الألفية أصبحت الأمومة زاوية يتم من خلالها مقاربة النص الأدبي، وصدرت الكثير من العناوين التي تتناول صورة الأم أو علاقتها بالأبناء كما تتجلى في الآداب المختلفة. غير أن تناول صورة الأم في السينما بدأ مبكرًا مع صدور مقال البريطانية لورا مولفي عام 1973 بعنوان اللذة البصرية وسينما السرد، الذي بالرغم من أنه لم يكن مخصصًا لصورة الأم على الشاشة، فإنه لفت النظر إلى التقنيات السينمائية التي يتم تصوير النساء بها وهو ما يؤثر على تلقي المشاهد، كظهور الأم بشكل سلبي في مقابل الرجل أو الأب كذات ايجابية.
وفي عام 1992 خصصت آن كابلان، صاحبة مصطلح "النظرة الإمبريالية"، كتابًا للأمومة كما يتم تصويرها في الثقافة الدارجة والميلودراما، موضحة أن الأيديولوجيا التي تساهم في رسم صورة الأم في الأفلام تعتمد على مصدرين؛ الأول هو الكنيسة التي تتدخل في تنشئة الطفل بما يحول الأم إلى "ملاك"، والثاني الشعبية التي تحظى بها نظرية التطور الدارويني، التي تؤكد أنه على المستوى البيولوجي لا يُمكن تربية الطفل إلا برعاية الأم.
ازدهار تلك الدراسات وغيرها التي ترصد مفهوم الأمومة يرجع الفضل فيه إلى الدراسات النسوية التي أدركت أن الأم كمؤسسة وتجربة وأيقونة وأيديولوجيا مُنظمة للمجتمع تساعد الخطاب الأبوي على تشييد أركانه بوصفه الذات الرئيسية الفاعلة التي تُهمش كل ما عداها. فقامت النسوية البيئية مثلًا بتوظيف مسألة الأمومة حيث ذهبت إلى تصوير الإنجاب والرعاية الأمومية بشكل رومانسي مما حول الأمر إلى استعارة تؤشر على "الأرض الأم".
وإذا كانت هذه الرؤية ساهمت في التقريب بين النساء، لكنها لا تخلو من المشاكل المنهجية؛ إضفاء الرومانسية على الأم وربطها بالأرض يرسخ مبدأ الجوهرية من ناحية وينزع عن الأم فردانيتها من ناحية أخرى، كما أنه يربط بين الرجل والعقل في حين يضع المرأة في مجال الطبيعة. وأشارت لين ستيرني عام 1994 في مقالها عن الأمومة والأنماط الأولية إلى أن هذه الرؤية تتجاهل التشكل الاجتماعي والأيديولوجي للأمومة لصالح التأكيد على الارتباط الوثيق بين النساء وقدرتهن على الإنجاب.
أدى هذا التراكم، حتى وإن كان متفرقًا، إلى ظهور مصطلح "دراسات الأمومة" لأول مرة عام 2011 في موسوعة الأمومة التي حررتها الكندية أندريا أوريلي، الأستاذة في جامعة يورك بتورونتو، وهي أيضًا محررة أول مجلة علمية محكمة عن الأمومة.
في المفتتح تشير المحررة إلى أن موضوع الأمومة بدأ في الظهور في الثلاثين عامًا السابقة (على 2011) في المجال الأكاديمي والبحثي، وقد تطور المجال البحثي إلى ثلاثة أقسام متداخلة ومرتبطة في آن: الأمومة كمؤسسة، والأمومة كتجربة، والأمومة كهوية، وذاتية. في هذا السياق لا يمكن أن نتجاهل تأثير كتاب أدريان ريتش الصادر عام 1976 بعنوان "عن المرأة المولودة".
أدى كل ذلك الإنتاج المعرفي إلى تحول دراسات الأمومة إلى مقرر معترف به في الجامعات الأمريكية والأوروبية
كانت النتيجة الطبيعية لتحول موضوع الأمومة إشكالية أكاديمية هي إنشاء مجلات علمية محكمة مخصصة لتناول تلك القضية. وكانت أولى هذه المجلات نتاج جهد أندريا أوريلي عام 1999، واسمها مجلة مبادرة الأمومة، وهي نصف سنوية علمية ومحكمة، يطرح كل عدد إشكالية محددة متعلقة بالأمومة ليتم تناولها من مختلف الزوايا والمقاربات المنهجية.
وفي عام 2009 ظهرت مجلة دراسات في الأمومي، وهي مجلة رقمية بينية دولية علمية محكمة تصدر مرتين سنويًا، وتهدف إلى توفير مساحة لمناقشة المناظرات النقدية المعاصرة حول الأمومي بوصفه تجربة حياتية، وموقعًا اجتماعيًا، وممارسة علمية وسياسية، وتحديًا أخلاقيًا واقتصاديًا، وبعدًا هيكليًا في العلاقات الإنسانية والسياسة والأخلاق. بشكل عام تشتبك هذه المجلة مع نفس مجال مجلة مبادرة الأمومة من وجهة نظر نسوية.
وفي عام 2015 ظهرت مجلة دراسات الأم، وهي أيضًا دولية وبينية ومحكمة علميًا، تأسست كنتيجة لرسالة ماجستير قامت بها الموسيقية والناشطة مارتا جوي روز في جامعة نيويورك تحت إشراف باربارا روثمان صاحبة كتاب "إعادة تكوين الأمومة".
تنشر المجلة أبحاثًا بينية عن الأم، الرعاية الأمومية، والأمومة بهدف طرح التأويلات المختلفة للتجربة، بالإضافة إلى البحث في مفردات الحياة اليومية من وجهة نظر الأم بوصفها الآخر.
بالتأكيد لا يُعد ما ذكر أعلاه حصرًا شاملًا للمنتج الفكري في مجال دراسات الأمومة. كل ما أردت فعله هو التأشير على النقاط المفصلية التي أخرجت الأمومة من مجرد دور تقليدي متوقع من النساء إلى سؤال نظري يرتبط بالمجالات البحثية من ناحية، ويساهم في كشف النظام الأبوي الذي يحكم المجتمع من ناحية أخرى.
أدى كل ذلك الإنتاج المعرفي إلى تحول دراسات الأمومة إلى مقرر معترف به في الجامعات الأمريكية والأوروبية، وذلك بوصفها إحدى أدوات البحث النسوي الذي ينهل من الحياة اليومية وخبرات النساء. أدت أيضًا كل تلك الجهود إلى إضعاف ملحوظ لأي خطاب مهيمن على المتن الثقافي والمجتمعي حول مسألة الأمومة كغريزة، ودور الأمهات، وغير ذلك من الخطابات الإنشائية التي تهدف إلى قولبة النساء وحصرهن داخل أدوار محددة سلفًا.