
مسرحية "سجن النسا".. مش كل الرقص فرح
سجنٌ تضيقُ زنازنتُه على مجموعة من النساء، بداخل سجن أكبر هو المجتمع الذي يقمعهن، داخل سجن أكبر هو العالم، هذا غير الداخل الإنساني باعتباره سجنًا أقسى.. سجون من بعضها بعض تجد بطلات مسرحية "سجن النسا" أنفسهن رهنها.
مغامرةٌ تخوضُها فرقة المسرح الحديث بقيادة الفنان محسن منصور، لإعادة تقديم العمل الذي يتماس مع الواقع المعاش ويقدم معالجة جديدة لعمل الكاتبة الراحلة فتحية العسال (1933-2014)، الذي سبق تقديمه مسرحيًّا أكثر من مرة من قبل بتصورات مختلفة، كما قُدّم تليفزيونيًّا في مسلسل ناجح عام 2014 كتبته مريم نعوم وهالة الزغندي، وأخرجته كاملة أبو ذكري.
هذه الصيغة تضع الأطروحة المسرحية الراهنة الذي تقدم من بداية أبريل/نيسان 2025 على مسرح السلام في القاهرة، في موضع المقارنة، سواء مع النص الأصلي لمؤلفته الكاتبة المسرحية المحنكة "أمين عام اتحاد النساء التقدمي"، ومع الأطروحات المتعددة السابقة التي استلهمته.
تزاداد مغامرة "سجن النسا" صعوبةً مع انتقاء تلك الخيوط المشحونة بالكوميديا والغناء والاستعراض والرقص لإعادة نسج مسرحية فتحية العسال الإبداعية ذات الطبيعة المأساوية. فالعمل الأصلي تحكمه رؤية جادة، مستغرقة في انخراطات سياسية ومجتمعية، وذلك على خلفية تجربة المؤلفة الشخصية، ككاتبة ومثقفة عضوية ومناضلة تعرضت للسجن فعليًّا في حياتها، ومزجت بين السيرة الذاتية والمتخيّل المسرحي في عملها.
الوعي والرسالة
يمكن وصف عرض "سجن النسا" ببساطة واختصار بأنه من عروض الوعي الخالص، بمعنى أنه لا يكتفي بإبراز أهمية القضية المحورية وجعلها في الصدارة عن عمد وقصد، وإنما يرتقي بها إلى مرتبة الرسالة الواجب توصيلها بشتى السبل، من أجل دق ناقوس الخطر.
العالم سجن أكبر لا حظّ فيه للمنفيين والمشرّدين والمهمّشين والمنبوذين
والرسالة هنا، لا تمنعها الأساليب الفنية التي تتوسلها في طريقها إلى المتفرج من أن تكون قوية وانفجارية وحادة، لتخرج عند اكتمال سطورها مثل صيحة عاتية تعكس الآلام المتراكمة من جهة، وتزلزل الأرض من جهة أخرى، أملًا في تغيير الواقع المحيط إلى الأفضل، وذلك على اعتبار أن وظائف المسرح تتجاوز رصد السلبيات الكائنة، ممتدة إلى البحث عن حلول مثمرة لها، وبدائل إيجابية ممكنة.
البطولة النسائية للمسرحية لمجموعة من الفنانات منهن شريهان الشاذلي، هنادي عبد الخالق، نشوى حسن، هايدي عبد الخالق، راندا جمال، آية أبو زيد، دعاء الزيدي، هبة سليمان، وأخريات، إذ تتخذ من حالات نساء سجينات، من أعمار وطبقات مجتمعية متفاوتة، مرتكزًا لما هو أبعد من إطلاق صرخة نسوية ضد القهر الذكوري كما قد يبدو من الوهلة الأولى. العنوان العريض للسجن لا يدل على أنه للنساء فقط المحبوسات في مكان ضيق واحد، ولكن المراد هو السجن بحد ذاته كفكرة، والمقصود هو الحصار بصفة عامة، والتضييق الشديد على الفرد الواحد، والمجتمع كله، والإنسانية جمعاء. على الضفة الأخرى، المستحيلة والافتراضية، التي قد تغدو ممكنة بمزيد من الإرادة والمبادرة، تتحقق الحرية المنشودة بعمق وعلى مهل، توازيًا مع إعادة بناء الشخصية، وإعادة تشكيل الوعي، حيث تكون الحياة كريمة، والقوانين عادلة، والحقوق محفوظة، وتعود الذاكرة نظيفة من ميراث السلطوية والقهر والظلم والعنصرية والقسوة والكراهية والمشاعر المتحجرة.
هذه المعاني الأولية الجوهرية حرص معدُّ العرض ومخرجه يوسف مراد منير على تأكيدها بوضوح في تمهيده للمسرحية، قبل بدء تجسيدها دراميًّا على الخشبة، إذ قدّم إهداءً مطوّلًا دالًّا للمسرحية يبلور فلسفتها كمشروع لإحياء الضمير الآدمي وصياغة الوعي وتمرير الرسائل "إهداء لكل اللي بيرفضوا مشاريعي باستمرار، إهداء لصامويل بيكيت.. اللي بيكره فكرة الانتظار، إهداء لسنوات انهزامنا.. ولحظات الانتصار، إهداء لكل حاجة أثرت فيها.. وأثرت فيّا".
قضبان الخارج والداخل
تتخذ مسرحية "سجن النسا" موقفًا انتقاديًّا شرسًا ضد كل القيود والأغلال والقضبان والأسوار، بمعناها الحقيقي الملموس، ودلالاتها الرمزية المعنوية. ولا تقف المسرحية عند حد في تقصيها هذه الاحتمالات المتعددة للسجن، بدءًا بالسجن الصغير المباشر الذي تسكنه مجموعة النساء (بطلات العرض)، مرورًا بالمجتمع كسجن كبير يقمع المستضعفات والمستضعفين على السواء، والعالم كسجن أكبر لا حظّ فيه للمنفيين والمشرّدين والمهمّشين والمنبوذين، وصولًا إلى السجن الداخلي الأكثر ظلمًا وظلمة، وهو سجن الإنسان في ذاته، وغرقه في عزلته وبؤسه، وتوحده مع صمته وكبته وآلامه وحيرته.
ولعل هذا السجن الداخلي النفسي، الأكثر قسوة وإحباطًا، الذي تنخرط فيه شخصيات العرض واحدة تلو الأخرى بسرد محنتها تفصيليًّا، يوضح إلى أي مدى تتماس المعالجة الجديدة للمسرحية مع نص الكاتبة فتحية العسال.
تورط النساء في جرائم السرقة والقتل والبغاء يفضح أمراض المجتمع واختلاله
كان الرهان الأكبر للمؤلفة إبراز أخطار ذلك السجن المعنوي الذي يغتال المرأة ولا يكتفي بأسرها وتقييدها المؤقت، ذلك أن السجن المعنوي هو السجن الأبدي الدائم، الذي لا خلاص منه، طالما أن المرأة لا تزال رهينة المعتقدات البالية والموروثات المغلوطة والتصورات الشاذة التي تسلبها إنسانيتها وتصمها بالجهل والتخلف والانحطاط والدونية.
وإذا كانت المؤلفة فتحية العسال رسمت في مسرحيتها صورًا واقعية في وقتها عن السجينات، السياسيات بشكل خاص، لكونها التصقت بهنّ في المعتقل السياسي، فإن العرض المسرحي الحالي يتتبّع في رسمه القضبان الخارجية والداخلية للسجن النسوي المعاصر، ويرسم صورًا كثيرة للضعف الإنساني والانكسار والانهيار والمحاكمة على جرائم فعلية ووهمية.
يركِّز العرض على النشاط المجتمعي والسياسي، وتعبئة الرأي العام، لكن بصيغ جديدة تكنولوجية، من خلال مواقع الإنترنت، والسوشيال ميديا، وهي وسائط بالغة التأثير والخطورة، ويمكن أيضًا أن تُستغل أحيانًا بالباطل، فتصير مجالًا لركوب الترند والتضليل وترويج الشائعات، ما يستوجب المحاسبة.
يوجه صنَّاع العمل رسائلهم عبر اسكتشات العرض القصيرة المتتالية، التي تستعرض تجربة كل حالة على حدة، وأسباب دخولها إلى السجن، لتتكشف في محصلة التجارب جميعها ملامح تفسّخ النظام المجتمعي والإنساني ككل.
تتنقل بقعة الضوء الفاضحة لتعرّي سوءات كثيرة، في سائر الفئات والطبقات، فتظهر من بين ثنايا جرائم السرقة والقتل والبغاء وتجارة المخدرات وغيرها ظروف وملابسات غير عادلة أدت إلى دفع النساء المنسحقات إلى هذه الانحرافات الطارئة أو إلى الانتقام المبرر.
ومن ذلك، نموذج الزوجة الشعبية "عدلات" مثلًا التي انجرفت إلى قتل زوجها بالخطأ في دفاعها الشرعي عن نفسها بعد تكرر اعتداءاته بالضرب المبرح عليها وعلى أبنائها من زوجها الأول.
كما يتضح جليًّا، عبر لوحات العرض الأربع عشرة المستقاة من تفكيك النص المسرحي الأصلي، وجود نسبة غير هينة من السجينات البريئات تمامًا، ممن جرى الدفع بهن إلى السجن في وقائع حاولن فيها دفع الأذى البدني أو النفسي أو التحرش أو الظلم عن أنفسهن، أو لجأن مضطرات تحت ضغوط قهرية إلى بيع أعضائهن لمواجهة غلاء المعيشة، أو اضطررن إلى الاستدانة بشروط مجحفة، ثم عجزن عن سداد ديونهن، فصرن من الغارمات، اللاتي يجب على المسؤولين أن يساعدوهن، لا أن يدفعوا بهن إلى السجن مع المذنبات ومحترفات الإجرام.
خلخلة الإطار
وإلى جانب الاجتهاد الواضح على مستوى تطويع الفكرة والموضوع، والتشعب الجريء في ترسيم مفاهيم السجن والسجان، فإن من أبرز سمات التفوق في مسرحية "سجن النسا" خلخلتها الإطار الثابت الجاهز على مستوى الثيمة أو اللون المسرحي.
يأتي ذلك، بجمعها بين مأساوية الموقف وكوميديته معًا في المشهد الواحد، وربما في العبارة الواحدة، على اعتبار أن شر البلية ما يضحك، إضافة إلى تضفيرها الأداء التمثيلي الاعتيادي مع الإبداع الجسدي والحركي، ونبرات الصوت المرهفة، وتعبيرات الوجوه الحساسة الصادقة، إلى جانب الاستعراضات والغناء والرقص، في منظومة منسجمة بارعة، تحكمها الموهبة الفطرية قبل التنسيق الإداري المحكم المنضبط في هندسة العمل الجماعي.