عبَّرت لي صديقة عن ضجرها من أحد الأشخاص، واقتراب صبرها على النفاد من تصرفاته السخيفة، لتُنهي حديثها بأنه في حال عدم توقفه عنها، ستُضطر آسفة إلى "تطليعه على المسرح".
لم أفهم المجاز في حينه، لأن الصعود على خشبة المسرح يترادف عندي مع الشجاعة وثقة الحضور وامتلاك ناصية الكلام. فرصة للحرية واختبار قدرة الاستيلاء على حواس جمهور يُنصت ويشاهد، فمتى تغيرت الدلالة وأصبح الصعود على المسرح مرادفًا للفضح والإحراج والإهانة؟
لم يعد المسرح خشبة يتوافد عليها المشاهدون بإرادتهم لتلقي ما يقدمه لهم مؤدٍّ ما، أصبح لكل إنسان خشبة مسرحه على السوشيال ميديا، أسواق عكاظ مليونية، والكل يعرض بضاعته، وآليات الشراء والتبادل غير مباشرة وأقل رضائية ومحكومة بسلطة طرف ثالث.
في هذه الأسواق، وجود بضاعة أفضل من الأخرى أو أكثر جاذبية منها، لا يعنى احتكارها للحصة الأكبر من المبيعات، فالعارضون بالملايين والمستهلكون كذلك. ومن لا يستطيع جذب المستهلك بجودة "المحتوى"، التي ترتبط بمقدار القيمة المضافة في عملية إنتاجه، فسيحاول جذب الانتباه بكل الوسائل الممكنة واللازمة، في أسواق تجزئة مكتظة بالبائعين؛ حيث الفجاجة البصرية، والتطرف التعبيري، والمبالغة الهيستيرية، والتكثيف الغرائزي.
يعمل الاقتصاد السيبراني المعاصر في جانب منه على مبدأ يقايض المستخدمين؛ لن يدفعوا شيئًا للحصول على مُنتجٍ سِلعيٍّ ما، مقابل أن يتحولوا هم أنفسهم إلى مُنتجٍ سِلعيٍّ. تُحدثنا الكاتبة جوي سليم، في مقال ذكي عن اقتصاد الانتباه، وعن "بيعنا" من مواقع وتطبيقات السوشيال ميديا للمعلنين، عبر الأموال التي تُنتزع من انتباه المستخدمين ووقتهم.
في هذه العملية واستمرار تطور أدواتها، سنُصبح نحن المُنتَج، الذي ستستهلكه سلع سيشتريها لاحقًا البعض منَّا، وآخرون، مِنَّا أيضًا، هم أدوات العرض في الوقت نفسه. لكنَّ السلعة الأكثر قيمة وسط هذه الدائرة الإنسانية المُسْتَلبة، هي انتباهنا الذهني ووقتنا المخصص بحماسة ووفاء لهذه العمليات يوميًا.
إقطاع رقمي أم رأسمالية تشيخ؟
هناك خلاف بين قطاع من المفكرين الماركسيين وما بعد الماركسيين حول طبيعة الطور الحالي للاقتصاد الرقمي؛ فيرى كل من تيموثى إيريك ستروم وجودي دين ويانيس فيروفاكيس على تنوع مداخلهم، أن احتكارات الشركات التكنولوجية العملاقة مثل جوجل وأمازون وميتا وتيك توك، وصلت في علاقاتها إلى مرحلة يمكن تسميتها بـ" الإقطاع الرقمي".
الفضيحة الجماعية ليست فضيحة طالما الممارسة معممة، والترند فضيحة مؤقتة سينهيها النسيان
والإقطاع التكنولوجي أو الرقمي، وفقًا لتلك الرؤى، هو تحول نوعي لطبيعة الرأسمالية عن طريق منصات التكنولوجيا، لأن استغلال الرأسمال لسلعة العمل كان محدودًا بيوم الإنسان المقسم بين العمل والراحة والحياة الاجتماعية. ولكن في ظل الإقطاع الرقمي، استُعيدت السيادة على وقت الإنسان بالمجمل.
في قلب هذه الحجة فكرة مفادها أن الرأسماليين اليوم؛ لا يعيدون استثمار أرباحهم بشكل عام في تطوير قوى الإنتاج من أجل زيادة إنتاجية العمل، التي هي جوهر عمل وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي، جنبًا إلى جنب وبالتلازم مع سمة الابتكار المستمر.
ولكن عوضًا عن ذلك، أصبحت الحصة الأكبر من عملية النمو، وإعادة الاستثمار تأتي على هيئة منصات مراقبة ذات علاقات هشة مع عمال ومستخدمين، يُولِّدون لهم الربح عبر تفاعل دائري مستدام.
ولكن على جانب آخر، يرى يفجينى موروزوف أن كل ما سبق يقع في جوهر السمات المركزية للرأسمالية، لا انحرافات عنها، لأن جوهر أي إقطاع يكمن في انتزاع فائض العمل بالقسر والإجبار. أما ما يحدث حاليًا فليس إلا طور شديد الاحتكارية من الرأسمالية، لكنه برأيه لا يغير من جوهر علاقة رأس المال بسلعة العمل.
وعليه، ووفقًا لموروزف، يقودنا الفهم الضيق للغاية لما تشمله الرأسمالية وقواعدها في عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج، إلى استنتاج خاطئ مفاده أننا ندخل إلى ما يشبه الإقطاع الجديد.
لكن في كل الأحول، وبين درامية نظرية الإقطاع الرقمي التي ترى في الطور الحالي للرأسمالية ردة تاريخية عن علاقات إنتاجها، وناقديها الماركسيين، ثمة شيء مؤكد هو أن الطور الحالي هذا يُنتج معه مظاهر مختلفة وطازجة للوجود الاجتماعي للإنسان، تختلف بشكل لافت عمَّا قبلها، وتستحق تأملًا غير تقليدي في ملامحها.
اعتلاء الترند في أسواق التجزئة
في فيلم إنترستلر (2014)، واجهت مجموعة من رواد الفضاء الأرضيين، وهم في سعي محموم لإيجاد موطئ قدم جديد في الكون يصلح لمعيشة الإنسان، تحديًا كبيرًا مع نسبية الزمن؛ بين وجودهم السابح في الرحلة الكونية، وعمر البشر المتبقين على كوكب يقترب من الفناء.
في أحد مشاهد الفيلم يهبط الأرضيون على كوكب مغمور بالمياه، الساعة على سطحه تكافئ سبع سنوات على الأرض. وبينما كانوا يسرعون في جمع ما يريدون من معلومات عن الكوكب خلال تلك الساعة الثمينة، تراءت لهم جبال تقترب منهم، سرعان ما اتضح أنها أمواج عاتية لم يروا مثلها من قبل، ليسرعوا لحظتها في الهروب بعد أن فقدوا واحدًا منهم، وكل المعلومات التي أتوا لجمعها، لتنتهي رحلتهم على هذا الكوكب في أقل من خمس دقائق.
الترند في عالم أسواق تجزئة الانتباه المعاصرة يشبه تلك الأمواج الجبلية؛ شاهقٌ وسريعٌ ومدمرٌ ولكنه يتجه لنهايته المحتومة. وفي صراع الزمن المكثف ستأتي خلفه موجات أخرى لتدمر انتباهنا الآني، لتعقبها موجات أخرى تأتي على ما تبقى من انتباهنا التالي. سرعات الترند المعاصرة قصوى، والانتباه المطلوب لها انتباه أبله في زمن قياسي، سيعقبه انتباه آخر ربما أكثر بلاهة.
سيصبح "الكرينج" هو سلاح ملايين لا يملكون سوى قوة حضورهم المحرج
لنعد إلى بلدنا النامي الفقير. بدأ مفهوم الترند في مصر مرتبطًا بالجدالات الفكرية والثقافية، في وقتٍ كان الفضاء الرقمي فيه أكثر نخبوية وحرية في نفس الوقت. جدل ينفجر على خلفية حدث أو موقف ما، فيُنتج آراءً ووجهات نظر نابعة من ميول ومنطلقات فكرية مختلفة، يتجاذب الأفراد المنتمون إليها أطراف الحديث والصراع. بعضهم يشده إلى حدوده القصوى لينشأ في مواجهته امتعاض من تلك التمظهرات المتطرفة. وبينما يسعى البعض إلى سحب الجدل لمناطق أقل تطرفًا ينشأ من يزدري هذه الوسطية.
تويتر المصري في بداياته كان يعمل على تغذية الوجود النرجسي والضَجِر في معظم الأحيان؛ لإنسان يشق طريقًا شاقًا في أسواق الاستعراض. مساحة ضيقة وعدد محدود من الحروف تعبر من خلالها الكينونة الافتراضية عن وجودها بأشد درجات التركيز التعبيري، والسعي البروباجاندي لكسب الانتباه، وسط ملايين من الأشباه الرقمية. لكن في النهاية كان تويتر هذا مجالًا للحضور الاستعراضي وتكثيفِ الأنا، دون دوافع أو آليات للارتزاق المباشر.
الكرينج.. أقصى مراحل الترند
ولكنَّ الأمر اختلف خلال السنوات السبع الماضية؛ بعد اتساع اعتماد شركات التواصل الاحتكارية على نموذج يربط توليد الدخل بعدد المشاهدات على منصاتها، وذلك في إطار الصراع للاستيلاء على انتباه الإنسان/ السلعة/ المستخدم، ليبدأ بعدها التدافع بالمناكب بين ملايين المستخدمين لكسب الرزق بلفت الانتباه، أيًا كانت الخسائر!
هنا سيتحول الترند تدريجيًا إلى الميدالية الذهبية في مسابقة الوجود "الأراجوزي" للإنسان، حيث البيع اليومي للوجود الحي للإنسان. وفي إطار صراع ملايين المتنافسين، سيصبح "الكرينج" هو السلاح الأكثر منطقية لملايين "العمال" الذين لا يملكون سوى قوة حضورهم "المحرج" كعمل معروض للبيع.
حين حاولت منذ فترة فهم معنى كلمة "كرينج" ودلالته، توصلت إلى كونه حضورًا ومحتوىً مهينًا لإنسان بسبب مظهر أو سلوك أو أداء معين، مع عدم وجود وعي ذاتي بأن هذا الحضور محرج. لكن لا يبدو هذا التعريف سليمًا في اللحظة المعاصرة، ذلك أن قطاعًا كبيرًا من منتجي الكرينجات واعون إلى حد كبير بطبيعة حضورهم المهين هذا.
المنافسة محرجة الطابع الواعية بذاتها ربما تذهب بالإنسان إلى قمة الكرينج سعيًا لاعتلاء الترند، لكن من دون أن تعي تمامًا حدود "كرينجيتها"، طالما أنها سلوك يتشارك فيه ملايين آخرون بتصاعد ومزايدة. ستجد آلاف الفيديوهات القصيرة لنساء يرجرجن أردافهن وأثدائهن، لكن مع الوقت ستزداد مقاييسهن الجسمانية كاريكاتورية فتتضخم الأثداء والأرداف ويصغر حجم الخصر ليصبحن أشبه بنساء كاريكاتير صحيفة أخبار اليوم.
الفضيحة الجماعية ليست فضيحة طالما الممارسة معممة، والترند فضيحة مؤقتة سينهيها النسيان، بعد أن كابد كثيرون مشقة اعتلائه عبر منافسة شرسة على تعميق الفضيحة وتجسيم الإحراج.
ربما سنحتاج لاحقًا لمحاورة محمد عامل النظافة محاورة صادقة وإنسانية بعد مرور سنين من صناعة وتصنيع ترنده، وبعد أن استنفد كل فرص الشقلبة، وعن وجوده الجديد بعد أن صنعه الترند والكرينج، وجعلا منه إنسانًا مختلفًا. لكن من منَّا سيتذكره بعد سنوات ستتعاقب فيها الأمواج الجبلية؟