تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
السوشيال ميديا وهي تعزز التفاوت الطبقي بدلًا من التواصل

تحولات الفردانية والعنف| الاغتراب الرقمي في منصات "التواصل"

القوة معيار الحقيقة والغلبة فوق الحق

منشور السبت 7 يونيو 2025

يتعمق الانعزال الطبقي جغرافيًّا ليُنتج مجتمعًا تمزِّق الأسوار مُدنَه، معيدًا إنتاج نفسه بتأسيس أجياله الجديدة على قيم التمييز باعتبارها فضيلة، والفردانية باعتبارها نمطًا بنيويًا للحياة، كما شرحت في المقالين السابقين من هذه السلسلة. ولكن كيف تعزَّز ذلك كله في زمن السوشيال ميديا التي سهَّلت تواصل مليارات البشر حول العالم؟ 

في الحقيقة، اشتبكت حالة الانعزال الجغرافي والتعليمي هذه مع وسائط التواصل الجديدة التي وفَّرها الإنترنت، حيث يستهلك الناس كميات هائلة من الأخبار المتضاربة، ما يؤدي إلى شعور عام بانعدام الفاعلية وانهيار الأمل في التغيير، لتبدو الفردانية وكأنها رد فعل عقلاني على عالم مشوش.

فعبر السوشيال ميديا، أصبح الناشط هو الآخر افتراضيًا، يتعامل مع كل حدث باعتباره قضية يجب أن يُصدر موقفًا فوريًا منها بمعزل عن السياق الاجتماعي أو التنظيم، وفي غياب أي آلية للتحرك الجماعي. هذه الممارسات تقتل الروح الجمعية وتحيل السياسة إلى مواقف أخلاقية فردانية خالصة غير مؤثرة. أو تبدو الفردانية وكأنها ملاذ، لكنها في الواقع تُعمِّق الانعزال وتعزز العجز السياسي.

وهذه الفردانية لا تؤدي بالضرورة إلى حالة أخلاقية متزنة، بل على العكس، غالبًا ما تُفضي إلى تبرير اللامساواة وتطبيع الظلم. يولِّد ذلك بدوره عنفًا بين فئات منعزلة ومغتربة، عنف يبدأ داخل كل طبقة مغلقة على نفسها، لكنه لا يلبث أن يتحول لعنف عابر للطبقات.

البقاء للأقوى في غابة السوشيال ميديا

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 26 يناير 2025

يصوِّر النموذج الأمريكي الهوليودي للرأسمالية النجاحَ والفشلَ كخيارات فردية بحتة، منزوعَةً من سياقاتها الاجتماعية والسياسية. في هذا النموذج، يصبح المال هو المعيار الأوحد للحُكم على الإنسان: فالناجح هو مَن يملك المال مهما كان مصدر ثروته، بينما يُحمَّل الفقير مسؤولية فقره، ويُختزل في لقب "loser".

يرسِّخ هذا المنطق ثقافة تلوم الضحية وتُمجّد القوي، وتُخضِع الأخلاق لمعادلة السوق. وتظهر أبشع تجلياته في مواقف بعض الدول بل والأفراد في منطقتنا تجاه الإبادة الجماعية التي تحدث في غزة؛ فنجد تماهيًا مع القاتل لأنه أقوى ولومًا للضحية كونها أضعف. ليصبح العدوان مبرَّرًا والمقاومة مُدانةً، لأن القوة معيار الحقيقة والغلبة فوق الحق. وهكذا تكون القوة كعقيدة هي المعبَر بين الفردانية والعنف.

تجلٍّ آخر نجده في كرة القدم، حيث لم يعد للأداء الجيد أو المنافسة المشرّفة معنى، وبات الاحتفاء بقيم مثل هذه انهزامية وتكريس للفشل.

في هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي تلعبه السوشيال ميديا، رغم كونها وسائلَ للتواصل، في تعميق الفجوة الطبقية وصياغة أشكال جديدة من الاغتراب الاجتماعي. لأن ما كان يُفترض أن يكون فضاءً للتواصل والتضامن، تحوَّل إلى ساحة استعراض فردي لا نهائية، تعيد بدورها إنتاج التفاوت الطبقي يوميًا عبْر الصور والنصوص.

تنقسم الشاشات إلى عالمين متوازيين: عالم النخبة الذي يزهو برحلاته الفاخرة وسكناه في الكُمباوندات الحصرية، وعالم العامة الذي لا يجد سوى مساحة للشكوى أو طلب المساعدة. تخلق هذه الديناميكية ما يمكن تسميته "بالاغتراب الرقمي"، حيث يتحول التواصل الاجتماعي إلى مسرح للتمثيلات المصطنعة، يعرض الأغنياء فيها نسخًا لحيواتهم مبالغًا في مثاليتها، ويُحصَر الفقراء في أدوار التسول. والنتيجة هي فجوة نفسية وسياسية تتجاوز التفاوت المادي، لتشمل تباينًا في التوقعات والتصورات عن الذات.

الأخطر أن هذه المنصات تتحول إلى أدوات فعّالة لتعزيز الطبقية، عندما تعمل على تسويغ هذا التفاوت الذي تعرضه. فبينما تروِّج إعلانات الكُمباوندات لثقافة العزلة الطوعية، تُقدِّم حملاتُ التبرعات الفقرَ كظاهرة طبيعية تواجهها المجتمعات بالإحسان لا بالعدالة. وهكذا تتراجع إمكانيات الفعل الجماعي لصالح ردود فعل فردية عابرة، تتبخر كترِندات مؤقتة دون أن تصنع أثرًا حقيقيًا.

بهذا المعنى، تتحول السوشيال ميديا إلى أداة فعالة في يد النظام الرأسمالي لإنتاج وعي مشتت، يعجز عن ربط معاناته اليومية بالبُنى الاقتصادية التي أنتجها هذا النظام. وبآلية معقدة، يتحول التضامن المجتمعي إلى أوهام رقمية، ويستبدل بالحراك السياسي الجاد حوار الصم الذي لا ينتج سوى مزيد من الفردانية.

صور متوازية لا تلتقي

لقطة من فيلم ريش، إخراج عمر الزهيري (2021)

يتجلّى التناقض الصارخ الذي تصنعه الفجوة الطبقية اليوم، في إعلانات الكُمباوندات الفاخرة التي تجاور إعلانات التبرع لفقراء معدمين يعيشون في ظروف بالغة القسوة.

هذا المشهد لا يُثير تساؤلًا أخلاقيًا أو نقدًا اجتماعيًا، بقدر ما يُستخدم كأداة تسويقية بحد ذاته، تُظهر كيف أصبح التفاوت الطبقي جزءًا من المشهد العام، لا خللًا فيه.

في مصر، تُقدَّم إعلانات العقارات الفاخرة بوصفها حلمًا مشروعًا للطبقة الوسطى العليا، "أسلوب حياة" فيه العزلة فضيلة، والأمن سلعة، والخصوصية امتياز. وتُعرَض إعلانات الدعم الخيري بنفس الأسلوب البصري المكثف، حيث تُجسّد المعاناة في صور حادة مكثفة للفقر، تُوظَّف لاستثارة الشفقة لا لإثارة النقاش حول الجذور البنيوية للفقر. هذا التناقض لا يعكس فقط فجوة طبقية، بل أيضًا يعمّق شعورًا بالاغتراب لدى الجمهور، خصوصًا من لا ينتمون إلى أي من الصورتين.

لا يقدم هذا التناوب الإعلاني حلولًا جذرية، بل يخلق بيئة يشعر فيها الأفراد إما بالعجز الكامل أو بالاستعلاء الكامل. وهو ما يدفع شرائح كبيرة نحو الانعزال النفسي والاجتماعي، حيث تبدو الحياة الاجتماعية كمشهدين منفصلين لا يلتقيان.

من هنا، يُعاد إنتاج مناخ الفردانية من جديد: من يجد نفسه في موقع العجز ينسحب إلى الداخل باحثًا عن نجاة فردية، ومن يستهلك نمط الحياة الفاخر يُقنع نفسه بأنه يستحق هذا الفصل عن البقية. في الحالة الأولى يتعمّق الاغتراب، وفي الثانية يزيد الانعزال. وفي الحالتين تزداد نزعة العنف في حال شعور الاستحقاق من جانب، وشعور استلاب الحق من جانب آخر.

ما يحدث في مصر نموذج يتكرر في عواصم عدة حول العالم، من مومباي إلى ساو باولو، حيث لا تعكس وسائل الإعلام فقط الفجوة الطبقية، بل تُساهم في تعميقها وتحويلها إلى بنية نفسية وثقافية مستقرة. وهذا يجعل من مفهوم "الاغتراب" في الفكر الماركسي، ذلك الشعور بأنك غريب في عالم يفترض أنه عالمك، ليس مجرد نظرية، بل تجربة يومية تتكرّس بوسائل الاتصال والإعلان والاستهلاك البصري. وغير خافٍ أن التجارب التي سبقتنا في هذا المضمار خاضت غمار العنف المجتمعي حتى أقصى درجاته.

وبينما يُروِّج البعض للفردانية باعتبارها آلية ناجحة في حقوق الأقليات الدينية والمهمشين ضد استبداد الأغلبية، فإنها تؤدي في الواقع إلى نتائج معكوسة؛ فهي تزيد شعور الأقليات بالاغتراب أو تدفعهم لمزيد من الانعزال بدلًا من التفاعل مع قيم المواطنة الجامعة. والأخطر، أن هذه الفردانية تُضعف التنظيمات الاجتماعية التي يمكنها الدفاع عن الحقوق الجماعية، حتى الأساسية منها مثل حرية المعتقد أو الحق في الكرامة. 

في هذا السياق، لا تعود الفردانية مجرد مسار انعزالي، بل تتحول إلى بيئة خصبة لتفكك الروابط المجتمعية، وتغذية عنف مستتر يتصاعد تدريجيًا: عنف في اللغة، في التمثيل، في الاحتقار المتبادل، وفي أشكال متزايدة من التهميش والاستبعاد، تمهّد جميعها لاحتمالات الانفجار الاجتماعي.

وهنا تحديدًا تتقاطع الفردانية مع العنف، لا كحادث عرضي، بل كنتيجة منطقية لتآكل الروابط الجماعية وانسحاب السياسة إلى الداخل الفردي. ويدخلنا ذلك دائرة مفرغة حيث تتفاقم الفجوة فيزداد الاغتراب وهَلُمَّ جَرّا.

وهذا موضوع المقال القادم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.