
تحولات الفردانية والعنف| رأس المال لا يتسرب إلى جزر المهمشين
هل ستنتقل الثروة من جزر المنعزلين في الأبراج إلى مدن المهمشين الصفيح؟
على طريقة "أنا السؤال والجواب، أنا مفتاح السر وحل اللغز" لبشر عامر عبد الظاهر/يحيى الفخراني في مفتتح مسلسل زيزينيا لأسامة أنور عكاشة، يقدِّم الكثير من الرأسماليين، مِمَّن يُقرُّون بأزمات المجتمعات الرأسمالية المعاصرة وتحوِّلها شيئًا فشيئًا إلى جزر معزولة، حلًا لا يخرج عن منطق النظام نفسه، يستند إلى تأثير مفترض يُعرف بـ"الانسكاب"/spillover effect.
وفق هذا المفهوم، فإن النمو في قمة الهرم الاقتصادي، سواء عبر تراكم الثروات أو ازدهار الاستثمارات، سينعكس تلقائيًا على باقي طبقات المجتمع. لأنه مع تنامي أرباح الشركات وزيادة دخول النخب الاقتصادية، يُفترض أن تتسرب هذه المكاسب تدريجيًا إلى الطبقات الدنيا على شكل فرص عمل جديدة، وخدمات أفضل، وتحسّن عام في مستوى المعيشة.
ولكن هل حدث ذلك بالفعل؟ وهل من الممكن أن يحدث؟ أن تأتي الحلول على طريقة بشر عامر عبد الظاهر، من داخل النظام نفسه الذي يرسخ للحلقة المفرغة التي تطرَّقَت لها المقالات الثلاثة الأولى من هذه السلسلة، حيث تتعزز الفردانية والاغتراب ليعيد الانعزال إنتاج الانعزال في دائرة لا تنتهي.
أصبح بإمكاننا ملاحظة كيف يتحوَّل الاغتراب في المجتمعات الرأسمالية المعاصرة مع اتساع الفجوات الطبقية من مجرد مفهوم نظري في الأدبيات الماركسية إلى واقع ملموس يتحقق ليُنتج عزلةً اجتماعيةً مَرَضيةً. لأنه كلّما ازداد تركيز الثروة في يد نخبةٍ صغيرة، ازدادت حدة اغتراب الطبقة العاملة والطبقات الوسطى المُنهَكة.
هذا الاغتراب لا يقتصر على فقدان العامل سيطرته على إنتاجه، بل يمتد ليُضعف روابطه الإنسانية بين "عزلة المُهمَّشين" في الأحياء الفقيرة، حيث تُحاصر الأسر بديونها، وينغلق الأفراد على أنفسهم غير قادرين على المشاركة في الحياة الاجتماعية أو الثقافية إلا بشكل هامشي، في مقابل "انكفاء النخب"، مع انسحاب الطبقات الميسورة إلى مجتمعات مُحصَّنة/gated communities. في نيويورك كما في القاهرة الجديدة، حيث تتقلص تفاعلاتها مع باقي المجتمع إلى حدّها الأدنى.
الفجوة تتسع والفردانية تتكرس
منذ أواخر السبعينيات، بدأت الفوارق الطبقية حول العالم تتسع باضطراد. وكما يوضح توماس بيكيتي في كتابه رأس المال في القرن الحادي والعشرين (2013)، لم يؤدِّ تراكم رؤوس الأموال إلى "تسرب الثروة" نحو الطبقات الأفقر كما وعدت الأيديولوجيا النيوليبرالية، بل على العكس.
فوفق تقرير عدم المساواة المالي العالمي 2022، زادت حصة الـ1% الأغنى من الثروة العالمية من 22% عام 1980 إلى نحو 38% عام 2020. في هذا السياق، لم يعد الفقر مجرد نقص في الدخل، بل أصبح موقعًا دائمًا من التهميش البنيوي، يولّد عزلةً واغترابًا وانسحابًا من المجال العام.
وفي منطقتنا العربية، تفاقمت الأزمة مع تبنّي الحكومات سياسات الخصخصة و"الإصلاحات الاقتصادية" التي زادت الفجوة بين الطبقات. ففي مصر، كما يحلل الدكتور محمود عبد الفضيل في كتابه رأسمالية المحاسيب، اتخذت السياسات الرأسمالية شكلًا خاصًا من خلال تحالف السلطة مع رجال الأعمال، حيث خُصص القطاع العام لصالح شبكات مصالح ضيقة.
كما يُظهِر كتاب الاقتصاد المصري في القرن الحادي والعشرين من تحرير وائل جمال، كيف تحول الاقتصاد إلى ساحة لنهب المنافع في العشرين عامًا الأخيرة، حيث استفادت أقلية من خصخصة المرافق العامة بينما تحملت الأغلبية تبعات ارتفاع الأسعار وتدهور الخدمات.
أدّت هذه السياسات إلى تآكل الطبقة الوسطى بين عامي 2000 و2015 بنسبة تقترب من 48%، حيث انخفض عدد أفرادها من 5.7 مليون شخص بالغ عام 2000 إلى 2.9 مليون 2015، وفق البنك الدولي. حدث ذلك تأثرًا بسياسات حكومة رجال الأعمال برئاسة أحمد نظيف، التي تبنَّت سياسة نيوليبرالية زادت ثروة الطبقات الأغنى، مقابل ارتفاع نسب البطالة والفقر، لتنمو طبقة أوليجارشية مرتبطة بالسلطة، نرى معها بوضوح كيف عززت سياسات الخصخصة من شبكات المحسوبية والريع.
لكن الأخطر أن الخطاب السائد، بدفعٍ من الإعلام والسوق، أعاد تعريف النجاح والفشل كخصائص فردية، لا تتصل بهيكلية النظام الاقتصادي. هنا يتحوّل الفقير من ضحية له إلى فاشل/loser، والثري من مستفيد من علاقات الريع والاحتكار إلى "رائد أعمال ناجح".
ينعكس ذلك في إرهاصات فكرية مثل دعوة أسامة الغزالي حرب في أبريل/نيسان الماضي لعودة الرتب المدنية، كمثال صارخ على آليات تعزيز الفوارق الاجتماعية، حيث طالما استخدمت هذه الألقاب تاريخيًا أداةً لترسيخ التسلسل الهرمي الاجتماعي. اليوم، يعيد الخطاب السائد إحياء هذه الممارسات أداةً لتمييز النخب الجديدة المرتبطة برأس المال والسلطة، حيث تُربط هذه الألقاب بمظاهر الاستهلاك الباذخ والعضوية في نوادي النخبة.
وفي هذا الإطار يأتي البديل المطروح في شكل برامج للحماية الاجتماعية في ظل السياسات النيوليبرالية نفسها. لكن هذه البرامج تكون غالبًا انتقائية ومؤقتة، بمعنى أنها لا تُصمم على أساس حقوقي شامل يضمن الحماية لكل المواطنين بشكل دائم، بل لتستهدف فقط الفئات "الأكثر فقرًا" وفق معايير ضيقة، وغالبًا ما تكون مشروطة ومحددة بزمن أو بتمويل خارجي.
الرأسمالية النيوليبرالية بخلاف ما يُروّج لا تنتج تسربًا للثروة بل تعمّق الفوارق
هذا النوع من البرامج لا يعالج الجذور الهيكلية للفقر أو يعيد توزيع الثروة، بل يكتفي بالتدخل لتخفيف الصدمة الاقتصادية بشكل مؤقت، وفي حدود لا تمس مصالح النخبة أو توجهات السوق. وهي بذلك تختلف جذريًا عن مفهوم العدالة الاجتماعية الذي يتطلب ضمانات دائمة وشاملة لجميع المواطنين تُمكّنهم من حياة كريمة ومشاركة فاعلة في الاقتصاد والمجتمع، فكما يشير دليل الحماية الاجتماعية الصادر عن منتدى البدائل العربي للدراسات، تواسي هذه السياسات الفقراءَ دون أن تتعامل مع الفقر ذاته.
الرأسمالية النيوليبرالية، بخلاف ما يُروّج، لا تنتج تسربًا/spill over للثروة بل تعمّق الفوارق. لا توجد آلية تلقائية لإعادة التوزيع؛ بل على العكس، الدولة تُفرّط في أدواتها وتتحوّل إلى ضامن لمصالح رأس المال. في عالم كهذا، لا يحدث الفائض المزعوم، ولا ينتفع الفقراء بنمو ثروات الأغنياء، بل يزدادون فقرًا. النتيجة؟ مجتمعات مشظاة، يسكنها الانعزال والاغتراب، مكونة من أفراد يبحثون عن خلاص فردي وسط أنقاض الجماعة.
جزر العنف المنعزلة
هكذا يُنتج النظام الاقتصادي "جزرًا بشرية" منعزلة: الفقراء مَقصيون في الهوامش الفقيرة، والأغنياء مُحصنون بأبراجهم في الضواحي الفارهة، وكلاهما يعجز عن رؤية الآخر شريكًا في المجتمع. هذه الديناميكية لا تُذيب التضامن الاجتماعي فحسب، بل تُحوّل العزلة إلى أداة قمع للتغيير، يعجز معها المنعزلون في الأبراج والمُغتربون في مدن الصفيح عن تخيّل بدائل للنظام القائم.
حين تلتقي هذه الفردانية مع اتساع الفجوة الطبقية يولد العنف
يعود بنا ذلك إلى حادث الاعتداء في المدرسة الدولية التي افتتحت بها المقال الأول من هذه السلسلة، كمثال حي على هذا الاغتراب المُركَّب. فحين تعتدي طالبة مراهقة على طفلة أصغر أمام زملاء يصورون ما يحدث دون أي محاولة للتدخل، فإننا لا نرى فقط أزمة سلوك فردي، بل تجليًا اجتماعيًا لانقطاع العلاقات التضامنية واغتراب الجميع عن بعضهم البعض.
الطالبة المعتدية تمارس عنفًا يبرره تفوقها الوهمي، ومَن حولها يشهدون باعتبارهم متفرجين لا شركاء. هذا بالضبط ما توقعه ماركس حين رأى أن الرأسمالية تنتج بشرًا منعزلين، غرباء في واقع مشترك، لا يتصلون ببعضهم إلا عبر علاقات استهلاكية أو تنافسية. فلا المعتدية تشعر بانتماء، ولا المشاهدون يشعرون بمسؤولية، بل يعيش الجميع نوعًا من الفردانية المطلقة.
وحين تلتقي هذه الفردانية مع اتساع الفجوة الطبقية يولد العنف، مثلما حدث في أمريكا اللاتينية سبعينيات القرن الماضي، من تصاعد حاد للعنف نتيجة الانفصال الطبقي الحاد.
في الأرجنتين بين 1973 و1976، ومع تركز 42% من الثروة في يد 10% من السكان، بلغ معامل جيني، وهو مقياس إحصائي يستخدم لقياس عدم المساواة في الدخل أو الثروة أو الاستهلاك، 46%. أدت عزلة النخبة في بوينس آيرس، حيث استحوذت على غالبية الاستثمارات العمرانية، إلى ظهور جماعات عنف مثل مونتونيروس التي نفذت 1200 عملية عنف سياسي.
أما في البرازيل بين 1968 و1974؛ فارتفع معامل جيني من 53% إلى 63% خلال "المعجزة الاقتصادية"، مما أشعل 450 احتجاجًا عنيفًا للمزارعين بدون أرض ودفع بنمو تجارة المخدرات بنسبة كبيرة في الأحياء الفقيرة.
كما يمكننا رصد ذلك أيضًا في التوزيع غير العادل للقاحات خلال جائحة كورونا، بين الدول نفسها، وكذلك داخليًا في كل مجتمع. ففي دول كثيرة حصل الأثرياء على التطعيم قبل الفقراء. بينما فضّلت شركات الأدوية الربح على الحياة، تأخرت الشعوب الفقيرة في الحصول على الجرعات.
وبينما ذلك كله يحدث، كان رجال الأعمال يسابقون الزمن لإعادة العمال إلى أماكن العمل، في تطبيق صريح لمبدأ الربح فوق الحياة. أما كما يقول فؤاد حداد في حكاية أول مايو:
الرأسمالى بيملك الآلة
الرأسمالى بيسجن الإنسان
الرأسمالى بيملك الآلة
أغلال على استغلال على بطالة
يجعل حياتك يا فقير عالة
ويموتك ويبيع لك الأكفان
ويتجلى ذلك بوضوح في المفاهيم التي تُشكّل وجدان الإنسان، لينعكس على مواقفه من القضايا الحياتية، وهو ما سنتناوله في المقال المقبل.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.