تصميم سيف الدين أحمد، المنصة 2025
أصابت الرأسمالية حتى حركات مقاومة التهميش والتمييز بعدوى الفردانية

تحولات الفردانية والعنف| من سيلعب مع الخسران؟

منشور السبت 28 يونيو 2025

في نهاية فيلم الحريف، يصل فارس/عادل إمام إلى الملعب ليسأله منظم المباريات "هتلعب مع مين؟"، فيرد بإيجاز حاسم "هالعب مع الخسران". أصبحت هذه العبارة لاحقًا ترمز إلى موقف أخلاقي لمساندة الضعفاء. لا يكتفي فارس بإعلان التضامن، بل ينزل فعلًا إلى أرض الملعب. يتحمل صعوبة البداية، ويتعاون مع الفريق المهزوم حتى يُحوِّل خسارته إلى فوز.

اللافت أن العبارة نفسها باتت تستخدم اليوم لأغراض التطهّر الشخصي، دون الالتفات إلى بقية المشهد. ولم يعد التحوّل من موقف فردي إلى فعل جماعي، ومن تعاطف سلبي إلى شراكة فعالة، حاضرًا في استدعاءات "اللعب مع الخسران".

يكتفي الكثيرون بتشجيع الخسران عن بُعد، دون المشاركة في الخسارة. هم لا "يلعبون مع الخسران" بل يراقبونه من حافة الملعب، لأن الفردانية ليست منزوعة الأخلاق، بل لها أخلاقها وحيلها.

يتجلى ذلك في المواقف التطهرية حين يظهر الفرد وكأنه أسمى أخلاقيًا من الجميع، رافضًا "الواقع المزري" ومزايدًا على الآخرين. هذه المواقف بدلًا من أن تُسهم في التغيير، لا تُسبب إلا راحة نفسية فردية تُقصي صاحبها عن إمكانات الفعل الجماعي، وتعزله عن أي مشروع مشترك.

في المقابل، نجد من يتماهى بشكل كامل مع سردية الأقوياء، كما أوضحنا في حديثنا عن المواقف من غزة، في محاولة لشعور زائف بالواقعية والانتماء لمنطق السائد، ما يُفضي إلى تبرير الاستسلام ورفض فكرة المقاومة ذاتها. 

وبين هذين النموذجين، تنشأ فئة ثالثة تبحث عن مبررات "عقلانية" لقبول الواقع، وإن تعارضت تلك المبررات مع منظومتها القيمية. فترى من يتوجّس من قوافل التضامن الشعبي مع غزة متذرعين بكونها "فوضوية"، أو يشككون في خلفيات المشاركين، أو يقللون من أهمية الأمر.

تعتمد الفردانية إذن على آلية نفسية معقدة تخلق لكل فرد مخرجًا مريحًا؛ إما عبر ادعاء التفوق الأخلاقي، أو بالتماهي مع السائد، أو بالتمويه العقلاني، وكلها مسارات تُفضي إلى نفس النتيجة: تعطيل الفعل الجماعي، وتكريس العجز السياسي، وهو ما ينعكس في بناء السرديات الخاصة بالقضايا الاجتماعية.

فارس يحرز آخر وأجمل أهدافه. مشهد النهاية من فيلم الحريف (1983)، إخراج محمد خان

التمايز النسوي

طُرحت قضايا النوع الاجتماعي والمساواة بين الجنسين كجزء من مشروع سياسي-اجتماعي يسعى لتصحيح خلل تاريخي في توزيع الموارد والحقوق، مستندًا إلى فكرة المواطنة المتساوية وحقوق الإنسان.

لكن مع تصاعد أزمات النظام الاقتصادي العالمي وتعمّق الفجوات الطبقية عالميًا، حيث يمتلك 1% من السكان 45% من ثروة العالم وفقًا لتقرير credit suisse الصادر في 2022، لم تسلم الحركة النسوية من انعكاسات هذا التصدّع، فظهرت الشروخ بين نسوية نخبوية تمثّل مصالح "الـ1%"، وأخرى تحاول أن تعيد ربط القضية النسوية بسياقها الطبقي والسياسي الأوسع.

في كتاب نسوية من أجل الـ99% (2019)، تؤكد الكاتبات أن النسوية التي لا تُعنى إلا بوصول بعض النساء إلى مواقع السلطة داخل نفس النظام الجائر، إنما تخدم المنظومة بدلًا من أن تواجهها.

هذه الحالة من "الانعزال النسوي" تعززت بفعل التفاوت الاقتصادي مع وصول معدل فجوة الأجور بين الجنسين عالميًا إلى نحو 20%، فباتت قضايا النساء الأكثر فقرًا والتهميش خارج دائرة الضوء. بل إن هذا الانعزال ساهم، من جهة أخرى، في خلق نوع من الاغتراب داخل الفئات الشعبية والطبقات العاملة، التي بدأت ترى في بعض أطروحات النسوية تهديدًا لهويتها أو ثقافتها.

على مستوى الدول، تظهر انعكاسات هذا الانقسام أيضًا بين شمال منعزل وجنوب مغترب. ففي بلدان الشمال، يُستخدم الخطاب القومي المحافظ لتقييد حقوق الإنجاب، والهجوم على المناهج التقدمية مثلما يفعل ترامب. أما في الجنوب، فيأخذ هذا الاغتراب شكلًا أكثر حدة، كما في حظر الحكومة العراقية استخدام مصطلح "الجندر" في الخطاب الرسمي والتعليمي، وهو ما يعكس اغتراب الدولة عن المفاهيم الحقوقية الحديثة، ومحاولة لحصر النقاش في قوالب الهوية الثقافية الضيقة.

نتيجة لهذا التشظي، نرى اليوم حركات نسوية ذات طابع هوياتي، مثل النسوية الإسلامية التي تحاول في بلد مثل إندونيسيا التوفيق بين الهوية الدينية والمطالبة بالحقوق، أو حركات نسوية عرقية وثقافية تنطلق من خصوصية مجتمعاتها كما في حالة نسوية السود في البرازيل. في بعض الحالات، يُمكن لهذه الحركات أن تفتح أفقًا بديلًا لمواجهة التهميش المزدوج من النظام الرأسمالي ومن الهيمنة الثقافية الغربية. لكنها قد تسهم أيضًا في تعزيز منطق التمايز بدلًا من إنتاج خطاب نسوي جامع.

دين بلا تضامن

في ظلّ الرأسمالية النيوليبرالية لم يعد الدين مجرد إيمان جماعي، بل تحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى، وأصبحت ممارساتها علامات هوية فردية تُقاس بالشكل الخارجي: حجاب مُعين، لحية مُقصوصة بطريقة محددة، صليب كبير ملفت للنظر.

حتى العبادات صارت استهلاكًا: قنوات دينية تتنافس على المشاهدين، تطبيقات للتنبيه بمواقيت الصلاة، منصات تبيع "الدورات الشرعية" بأسعار تنافسية. في هذا السياق، لم يعد الدين يعبّر عن علاقة روحية جماعية، بل صار أداة لتعزيز الفردانية تحت غطاء من القداسة.

لكن المفارقة تكمن في تحوّل هذه الفردانية الدينية إلى هويات طائفية مغلقة. في لبنان مثلًا، لم تعد الطوائف مجرد انتماءات دينية بل صارت شركات تقدم الخدمات للمواطنين مقابل الولاء المطلق. وفي الخليج، تحوّلت السلفية إلى ماركة/براند يعتمد على المظهر الخارجي أكثر من المضمون الأخلاقي.

وحتى في مصر، شهدنا في التسعينيات ظاهرة إسلام السوق كما يسميه باتريك هايني في كتابه بالعنوان نفسه، وهي ظاهرة حوّلت الدين إلى موضة عبر شرائط الكاسيت والأزياء الموحّدة. هذه الهويات الطائفية الجديدة لا تقوم على الإيمان المشترك بقدر ما تقوم على الإقصاء: مَن ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يُظهر إيمانه مثلنا فهو إما كافر أو مهرطق أو منحرف.

لم يعد الدين مجرد إيمان جماعي، بل تحوّل إلى سلعة تُباع وتُشترى

الضحايا الأكبر لهذه المعادلة هم دائمًا الأكثر ضعفًا؛ الأقليات الدينية التي تواجه التهميش، والنساء اللاتي يتحمّلن عبء "حماية الهوية" عبر ملابسهن وسلوكهن. لكن الغريب أن هؤلاء الضحايا أنفسهم يمارسون المنطق نفسه حين تتاح لهم الفرصة.

نرى نساءً محجبات ينتقدن غير المحجبات، وأقليات دينية تعلن صراحة رفض التعايش مع الآخرين، وعمالًا فقراء يمنعون زملاءهم من ممارسة طقوسهم الدينية. ففي صراع الهويات، تُكشف أبشع المفارقات: المجموعات المهمشة التي عانت الاضطهاد، سواءً بسبب الجندر أو العرق أو المعتقد، تتحول أحيانًا إلى نسخة طبق الأصل من مضطهديها بمجرد حصولها على هامش قوة.

هذه ليست وصمة أخلاقية بقدر ما هي نتيجة حتمية لثقافة الفردانية التي تشرّبها الجميع. فالاضطهاد لا ينتج وعيًا تحرريًا، بل غالبًا ما يكرس الأدوات نفسها التي استُخدمت ضد الضحايا. في مصر، نرى بعض المسيحيين الذين عانوا من التمييز الطائفي يتبنون خطابًا إقصائيًا ضد البهائيين أو الملحدين حين يُسألون عن حقوق الأقليات. وفي لبنان، تحوّل بعض الناشطين الذين طالما شكوا من هيمنة طرف ديني على المعادلة السياسية  إلى مناهضين شرسين لحقوق اللاجئين. 

حتى في المجتمعات الغربية، نلاحظ كيف أن بعض الفارين من الاضطهاد في دولهم يمارسون عنصرية صريحة ضد اللاجئين العرب أو الأفارقة، وكأن معاناتهم الخاصة لم تعلمهم شيئًا عن آلام الآخرين.

الأكثر إيلامًا أن هذه الديناميكية تتجلى حتى داخل المجموعات الواحدة: فبعض النساء اللواتي عانين من اضطهاد الذكور يصبحن أشرس المدافعات عن النظام الأبوي حين يتعلق الأمر بمن هم "أدنى" منهن في السلم الاجتماعي.

وفي إيران، نجد نساءً محجبات ينتقدن المتحررات، بينما في السعودية نرى نساءً عنّفتهن هيئة الأمر بالمعروف سابقًا يُهاجِمن الآن مَن ينتقدن الحجاب الإلزامي. فحين يُقال "كلنا ضحايا"، فهذا لا يعني أن كلنا أبرياء، بل أننا جميعًا -بدرجات متفاوتة- حاملون للفيروس نفسه. هذا ليس نفاقًا أخلاقيًا، بل نتيجة حتمية لمنظومة حوّلت الدين إلى سلعة واستبدلت بالتضامن الروحي التنافس الفرداني على نقاط التقوى.

المشكلة الحقيقية ليست في الدين نفسه، فالدين أحد العوامل الثقافية المهمة في تشكيل الهوية، ويكون تأثيره في ظل السياق السياسي والبنية التحتية لهذا السياق والتي هي النظام الاقتصادي، حيث صرنا نعيش في عالم يبيع لنا الإيمان كباقة خدمات فردية: خلاص شخصي، تفوق أخلاقي، هوية جاهزة.

في هذه المعادلة، لم يعد المسجد أو الكنيسة مكانًا للجماعة بل مجرد محطات في رحلة الفرد نحو تحقيق ذاته الروحية. حتى الصراعات الدينية صارت وسيلة لتفريغ الغضب الاجتماعي بدل مواجهة اللاعدالة. والنتيجة: دين بلا تضامن، وهويات بلا انتماء، ومجتمعات تبحث عن يقين روحي فتجده معلّبًا في منتجات استهلاكية.

في المحصلة، أصابت الرأسمالية حركات مقاومة التهميش والتمييز بعدوى الفردانية، تحولت بعض مشاريع العدالة إلى مطالب فئوية ضيقة، بينما ظلت الفئات الأضعف في موقع المغترب عن الخطاب، والمغيب عن السياسات. ما يطرح علينا ضرورة إعادة بناء الحركات الاجتماعية، على أساس رؤية شاملة للتحرر، تُدرك تشابك النوع مع الطبقة والعرق والهوية، وتسعى لعدالة حقيقية لا تقتصر على القمة بل تشمل القاعدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.