تصاعدتْ في عالمنا العربي أصوات نسوية متفائلة بترشح كامالا هاريس في الانتخابات الأمريكية باعتبار أن فوزها قد يمثل انتصارًا للنساء، وهي فرضية مشروعة وجديرة بالطرح، ولكن إثباتها لا بد وأن يأتي مترددًا، لماذا؟
انطلاقًا من الشعار النسوي الشهير "كل ما هو خاص فهو سياسي"، نجد أن الموجة النسوية الثانية في الستينيات والسبعينيات ركزت على الأبعاد السياسية لحياة المرأة الشخصية. وفي 1969، نشرت المُنظِّرة النسوية الراديكالية كارول هانيش دراسةً تناولت فيها منهجية القمع الذي تتعرض له المرأة، أبرزت فيها العلاقة الوثيقة بين مشاكل المرأة الشخصية وقضاياها السياسية.
لاحقًا، أصبحت الدراسة تُعرف بعنوان "الشخصيّ سياسيّ"، وتحولت هذه العبارة إلى شعار يُجسِّد علاقة تجربة المرأة الشخصية بالبنى الاجتماعية والثقافية والسياسية. حظي الشعار بشعبية واسعة ورفُع في عدة حركات احتجاجية.
لذا تهتم النسوية كثيرًا بالأوضاع السياسية التي تُشكِّل حيوات النساء وتؤثر في خياراتهن في الحياة، ومن هنا يأتي الاهتمام النسوي بهاريس. فالأمر لا يقتصر على احتمال أن تصبح رئيسة للولايات المتحدة، وإنما يتخطى ذلك بكثير ليبرز تساؤل مهم: ماذا ستجني النساء حينما تحكم امرأة؟ هذا هو الأمل النسوي المنشود.
معايير الأمم البدائية
ولدت كامالا هاريس، نائبة الرئيس الأمريكي حاليًا، في أوكلاند بكاليفورنيا، لأبوين مهاجرين؛ أم هندية وأب جامايكي من أصول إفريقية. درست هاريس في جامعة هوارد، وكلية الحقوق بجامعة كاليفورنيا، في بيركلي. وبدأت حياتها المهنية محامية، ثم انتُخبت مدعية عامة لمدينة سان فرانسيسكو، ثم مدعية عامة لولاية كاليفورنيا.
في 2016، أصبحت سيناتورة في مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية كاليفورنيا، وفي 2020 اختارها المرشح جو بايدن نائبةً له في الانتخابات الرئاسية، لتصبح أول امرأة تشغل المنصب في تاريخ الولايات المتحدة، وأول من يشغله من أصول هندية أو إفريقية.
وبينما يرى كثيرون أن وصول هاريس إلى منصب نائب الرئيس، كونها امرأة وتنتمي لأقليات عرقية، انتصار نسوي كبير، ويعلقون أملًا على نجاحها في الانتخابات الرئاسية لتعظيم هذا الانتصار ومنح الإنسانية أملًا أكبر. هذا ما تُظهره الصورة التي يتم تصديرها لنا، لكن هل هذه الصورة حقيقية؟
نحن نعلم أن الحضارة الغربية، التي تقوم على مبادئ حقوق الإنسان التي تحظر التمييز ضد الأقليات وتدعو إلى الانفتاح الفكري والحضاري على شعوب العالم، أصبحت بعد ما يحدث في غزة مجرد أسطورة. فقد رأينا أن هذه الأسس هشة للغاية وسرعان ما تهاوت، ليكتشف من في العالم العربي أنها مجرد رداء شعاراتي فضفاض يخفي وراءه المركزية الغربية البغيضة.
ولكن لا أحد ينكر الآن، في أوساط الدراسات الإنسانية، أن البناء المعرفي الغربي لم يعد قائمًا على أساس متين، وأنه بحاجة إلى إعادة بناء بسبب غياب الأسس. لكن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: ماذا بعد انكشاف الحقيقة؟ من يملك القدرة على وضع الأسس الجديدة؟ هل هم الأكاديميون، الذين رأينا كيف تتعامل معهم السلطة بالقمع الذي طالما روَّج الغرب لأنه من سمات المجتمعات المتخلفة، التي تُجبر أحيانًا على احتلالها من أجل زرع بذور ديمقراطيتها وحضاراتها اللامعة.
رأى العالم طلاب وأساتذة الجامعات في أمريكا يُعتقلون بطرق غير إنسانية، ويُنكَّل بهم على مرأى ومسمع من الجميع. كما رأينا الأستاذات ورئيسات الأقسام وهنَّ ملقيات على الأرض ومقيدات الأيدي كالخراف، وكأنهن لِصَّات يشكلن خطورة على المجتمع.
تعاملت شرطة العالم الأول مع النساء المحتجات بأفعال الأمم البدائية الأولى، لا وفق المعايير الغربية التي تجلب نسائم الحضارة، ولا حتى وفق معايير الدول التي يطلقون عليها اسم "العالم الثالث"، فنحن على الأقل لا نزال في مجتمعاتنا ننتقص من قيمة من يعتدي على النساء.
أكلهم الذئب
والآن، وبعد أن خفَّت حدة لمعان المبادئ الغربية واستطعنا أن نرى بوضوح ما يقف خلفها، لا يزال البعض يأمل أن تنتصر المرشحة المرأة الهندية الإفريقية ابنة المهاجرين للإنسانية، ويعتبر مجرد وصولها إلى هذا المستوى من السلطة يُعبِّر عن الديمقراطية الضائعة، أو ربما هذا ما يبدو للوهلة الأولى، وربما هذا ما تروّج له الحضارة الغربية الآن بعد أن تهاوت أعمدتها الأنانية، في محاولة لحفظ ماء الوجه.
الرئيس الأمريكي ليس سوى واجهة والسياسة الأمريكية تتطلب أن تكون هذه الواجهة مبهرة
ولكن الحقيقة، بعيدًا عن العاطفة النسوية، تقول غير ذلك؛ فالأمر لا يتعدى محاولة من فريق خاسر لاسترداد الكرامة، بخوض تمثيلية ظاهرها جيد ومتماسك لكنَّ باطنها خرب. ولكن على مستوى عملي، هل سينعكس انتصار هاريس على السياسات الغربية؟
الإجابة هنا مهمة وملموسة، لأن الحكم الغربي ليس حكم الفرد بل هو سياسات عامة ذكورية تقليدية ومتجذرة إلى أبعد الحدود. تتناول الدراسات النسوية الهيمنة الغربية ودراسات الاستعمار، وقد رأينا بأم أعيننا رفض المجتمع الأمريكي كأفراد للإبادة الجماعية في غزة، دون أن يكون لذلك الرفض أي تأثير فعلي. لذلك نعتقد أن الشعب الأمريكي يدرك الآن حقيقة السلطة التي تحكمه، التي تدّعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وقيمة الفرد.
ورغم السياسات العلنية التي انتهجها الأفراد برفض ما يحدث في غزة، لم تُقابل تلك المواقف بالتأييد، وكلما تأزّم الموقف، أتت تصريحات الحكومة الأمريكية باردة وخالية من المعنى لاحتواء الموقف. شعر المواطن الأمريكي، للمرة الأولى ربما، أنه لا يمتلك قيمةً فرديةً كما أخبروه، وأن رأيه ليس مؤثرًا بالفعل، ولا يُسمح له إلا بما توافق عليه السلطة.
يحلل يوڤال نوح هراري في كتابه العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري كيف أن السياسات الأمريكية هي التي تدير الكوكب بأسره، وأن الهيمنة الأمريكية تشمل الجميع، وأنها تحكم حتى إسرائيل، وإن كنا لا ندرك تمامًا من يقود من، لكنها في النهاية القوة الشريرة التي تطغى على الإنسانية، قوة مهيمنة تقود العالم.
طبيعة هذه الهيمنة ذكورية في الأساس، فهي نتاج الفكر الأبوي. كما أن وجود النساء في هذا السياق غير مؤثر، لأن النساء اللاتي يصلن إلى السلطة يفعلن ذلك بعد إعدادهنَّ بشكل مسبق ليتوافقن مع النظام القائم. وبالتالي، لا توجد فرص حقيقية كما يُشاع. لا يمكننا أن نعتقد بسذاجة أن وصول امرأة إلى السلطة سيُنهي التفكير الذكوري السائد، لأنها في النهاية نتاج هذا النظام، الذي يغلف نفسه برداء الحقوق والحريات وإتاحة الفرص ليصرف الأنظار عن حقيقته.
بات واضحًا أن الرئيس ما هو إلا واجهة براقة تخفي وراءها أطنانًا من الظلم والتهميش والعنصرية. وينطبق هنا المثل الأمريكي dress to impress/تأنَّق لتخطف الأنظار. ونحن، وإن كنا نستلهم من المؤثرات الثقافية، فهذا لأنها تعبر عن نبض الشعوب، واستمرارها أو ازدهارها في حقبة معينة ينُمَّان عن شبكة من المعاني، التي يمكننا أن نستخلصها من فهم الشائع الثقافي والمقبول مجتمعيًا في هذه الحقبة أو تلك.
والحقيقة أن الرئيس الأمريكي ليس سوى واجهة، والسياسة الأمريكية، في ظل الوضع البائس الحالي على الساحة العالمية، تتطلب أن تكون هذه الواجهة مبهرةً، وهذا كل ما في الأمر. لذا ستكون إجاباتنا عن التساؤل الذي تصدَّر المقالة بالنفي.
كامالا هاريس ليست امرأة حرة وأصيلة، بل في الغالب امرأة مُدَجَّنة أوجدها النظام لتكون في الظل. ليس غريبًا أن تكون هندية وإفريقية وفقيرة، وربما لو كان بإمكانهم لجعلوها من ذوي الهمم. إنها حلم، لكنه ليس أكثر من أضغاث أحلام. قد تبدو كما لو أنها أمل نسوي، لكنها في الحقيقة أملٌ كاذبٌ ومضللٌ يملؤه الزيف.
أتذكرون قصة "الخراف والذئب" التي كانت تُروى للأطفال؟ كان يُحكى أن الأم تركت خرافها الصغار وخرجت لتأتي بالطعام، فتنكر الذئب في ملابس الأم، فظن الصغار أن من ترتدي الملابس هي أمهم، ففتحوا لها الباب؛ فأكلهم الذئب.
لا تنخدعوا بالمظاهر، فمهما ارتدى الذئب يظل ذئبًا.