جماعة الليبراليين الأمريكيين، وجسدهم السياسي المسمى بالحزب الديمقراطي، هم في ظني أكثر الجماعات غرورًا في تاريخ السياسة والأيديولوجيا. كتل حاكمة ومهيمنة، بضاعتُها التعددية، لكنها لا تَسمع إلا صدى صوتها يتردد في غرف مغلقة، ليظل كل خطاب أو ظاهرة تناقض تصوراتها المصمتة محليًا أو عالميًا أمورًا إشكاليةً تحيد عن جادة الصواب، أو أطروحات بالية تجاوزها الزمن في أحسن الأحوال.
أما إذا اشتبكَت مع ما تعتبره "إشكاليًا"، فيكون اشتباكها جامعًا لمعاني التأفف والتجاهل والتعالي والتخويف. ولا غرابة في ذلك، وهم الورثة الشرعيون لعالم ما بعد الاتحاد السوفيتي، بعد أن ظل الحزب الجمهوري بمؤسساته هو الأكثر تعبيرًا عن الروح الصدامية المتحفزة التي ميزت عالم الحرب الباردة.
لكن بعد انتهائها، تسلل الديمقراطيون بنزعتهم الإتمامية لنجاح الإمبراطورية الأمريكية وقيمها، وتحت شعار لنجعل عالمنا الناجح الجميل عالمًا أجمل وأنجح، للإمساك أكثر بمراكز الحكم والقرار الاستراتيجي، تحديدًا في فترة رئاسة بيل كلينتون وآل جور. أصبحوا مَن يُعبِّر عن الوجود الجديد للولايات المتحدة؛ حيث الكونية المتعولمة التي تتسيد البديهة، وتستند على السبق التكنولوجي الساحق وفائض التسلح المخيف، مع الهيمنة الأيديولوجية التي تعتبر وجود ما عداها مشكلة بالتعريف.
معالم على طريق الغرور والصدأ
بينما كان دونالد ترامب يرفع في حملته الانتخابية عام 2016 شعار "لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، بسبب ما رآه تراجعًا أمريكيًا على مستوى العالم لا سيما بعد أزمة 2008 المالية الكبرى، كانت هيلاري كلينتون تسخر منه بغرور وهي تؤكد أن أمريكا عظيمة بالفعل، وستظل. وأتذكر يوم الانتخابات أن امرأة بيضاء من دراويشها كانت تخطب أمام حشد من الجموع وتسألهم بثقة ما إذا كانوا مستعدين لتلقي خبر انتخاب أول رئيسة للولايات المتحدة الأمريكية.
تعاملت إدارة ترامب مع الجائحة بحماقة عقائدية مثل أي إدارة يمينية نيوليبرالية
حسنًا سيدتي، طالما اعتبرتِ دونالد ترامب مجرد مهرج إشكالي، وها قد فاز في النهاية. خسرت السيدة كلينتون الانتخابات أمام الرجل البرتقالي الذي سمع الأمريكيون قبل انتخابه تسجيله المسرب الذي يتفاخر فيه بشد النساء من فروجهن، والأهم أنها خسرت أصوات النساء البيض اللاتي يشبهنها هي تحديدًا أمام هذا الذكر المنحط بأي معايير أخلاقية محافظة أو تقدمية. فهل تعلَّم أحد أي شيء؟
وصل ترامب إلى السلطة وحقق نجاحات داخلية لافتة في السنوات الثلاث الأولى لحكمه عكس ما يُشاع. تحسنت مؤشرات الاقتصاد الكلي بوضوح، بعد أن اعتمد معادلة تجمع بين البساطة والبلطجة؛ سأنعش الاقتصاد والتجارة الداخلية مرحليًا عبر خفض الضرائب على المشروعات المتوسطة والصغيرة، وسأمول هذا العجز الضريبي الفيدرالي الناتج عن الخفض من جيوب حلفائي العالميين. برضاهم أو قسرًا، وفي الأغلب كان القسر.
نجح ترامب بالفعل في إتمام صفقات السلاح التريليونية مع دول الخليج، وخاشن الأوروبيين بفجاجة حول جدوى الناتو في ظل تحمل الولايات المتحدة العبء المالي الأكبر لمنظومته. من هنا بدأ مشهد المهادنة مع بوتين كجزء من خطة ابتزاز للحليف الأوروبي. وعلى مستوى أكبر، هدد الشريك الصيني الكبير وتوعده بالعقاب ما لم يوافق على إعادة صياغة قواعد الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، التي يجب ألا تسمح للصين بإغراق السوق الأمريكية بسلعها دون ثمن وحماية جمركية ما.
لكن جاءت جائحة كورونا التي تعاملت معها إدارة ترامب كما تتعامل أي إدارة يمينية نيوليبرالية مع كارثة عالمية كبرى. سادت الحماقة العقائدية التي ترى تدخلَ الدولة في عمل السوق خطيئةً كبرى، فتولد عن ذلك تباطؤ وإنكار وعناد لا يليق بجلال لحظةٍ تاريخيةٍ ساعةُ الزمن فيها قد تُحدث فارقًا. أمر يشبه إخفاق وتباطؤ إدارة الرئيس الجمهوري هربرت هوفر في مواجهة الموجات الأولى للأزمة المالية عام 1929، ما أدى إلى الكساد العالمي الكبير.
تمكن الديمقراطيون من البناء على أخطاء ترامب الكارثية في إدارة أزمة الجائحة، ونجحت ماكينتهم الإعلامية في إعادته مرة أخرى إلى مربع المعتوه البرتقالي في نظر قطاعات واسعة من الناخبين، بل ونجحوا بالفعل في إخراجه من البيت الأبيض وهم يزفون للعالم نبأ إنقاذه من رجل يتباطأ في مواجهة وباء كوني ولا يملك خطة للتعامل معه، فماذا حدث بعد ذلك؟
ذهب المجنون ليأتي المجرم
أتى جو بايدن وهو يعد الأمريكيين بتغييرات كبرى وبمحاربة احتكارات الدواء. وجاءت الشهور الأولى لإدارته مطعمة بخطابات حلفائه من كتلة بيرني ساندرز الذين ساندوه مساندة مشروطة في معركته مع ترامب. لكن شهورًا قليلة مرت لينكشف أن الطريقة التي قررت بها الإدارة الجديدة مواجهة الأزمة داخليا وعالميًا لم تبارح التصورات التقليدية المدمرة للمنطق الرأسمالي في التعامل مع الأزمات الكبرى، وهي إشعال وتسخين بؤر الصراع الدولي، ونزع الفوائض الرأسمالية من دول العالم بالسلاح، مع تحميل الدول النامية التكلفة الفعلية للخسائر.
العالم أصبح أكثر وعيًا بأنه أصبح قرية صغيرة لكنها قرية صغيرة سجينة
لم يستعمل بايدن رأسه بل مسدسه، ما هي إلا شهور قليلة حتى انفجر الوضع في شرق أوروبا انفجارًا غير مسبوق منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تسبب حتى الآن في قتل نصف مليون شخص على الأقل. وحين انفجر الوضع في الشرق الأوسط في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، راح يستثمر فيه ليطيل أمده قدر الإمكان، فأصبحت لدينا إبادة على الهواء مدعومة بالسلاح الأمريكي المتطور وغير المتطور وبالخبراء الميدانيين. تود إدارة بايدن وغيرها في المستقبل أن يظل العالم على حافة هاوية وهو يرفع يديه هلعًا من مصير أكثر إظلامًا.
وفي غضون ذلك، يرفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سعر الفائدة على الودائع بالدولار، لترتفع العملة الأمريكية أمام عملات العالم بمعدلات متفاوتة. وكلما كانت العملة أضعف كالجنيه المصري أو الليرة التركية، كلما كان الأثر أكثر تدميرًا على مفردات الحياة اليومية للإنسان القابع في تلك البلدان، الذي يدرك تدريجيًا أن القرار الذي يُتخذ في واشنطن سيؤثر على عشائه بعد أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، وأن العالم أصبح فعلًا قرية صغيرة، لكنها قرية صغيرة سجينة.
لا تُقدِّم الولايات المتحدة نفسها للعالم إلا باعتبارها القوة العسكرية الأكبر والأشد فتكًا، القادرة على ردع الجميع وإرعابه، بما في ذلك الشعب الأمريكي نفسه، الذي صارت قطاعات منه تئن تحت وطأة الأزمة الاقتصادية.
بيرني ساندرز مثلًا ليس راديكاليًا بالمرة، ولا يعبِّر مع تياره عمَّا هو أبعد من الليبرالية الاجتماعية. تصورات في مصفوفة السياسة الأمريكية التاريخية سبق وتحقق صداها بالفعل في سياسات الرئيسين ليندون جونسون وفرانكلين روزفلت.
لا تزال الولايات المتحدة أسيرة سياسات ريجان المتوحشة ولا تستطيع الخروج من ذلك القفص. أصبح أي نقاش بشأن أزمة الرأسمالية أو أزمة البؤس الاجتماعي والإنساني المتراكم ترفًا يساريًا، أما أحاديث زيادة مظلة الحقوق الاجتماعية للمواطنين، وإن بصوت خافت، فهي نوع من الماركسية المتطرفة. وفي النهاية، لم تترك أمريكا الريجانية التي شربت من نهر الجنون النيوليبرالي أي مساحة للروح المساواتية، إلا من خلال سياسات الهوية، وفي أشد أشكالها نفاقًا واستعراضًا.
هذا النفاق والاستعراض وصل في فُحشه إلى أنهم يُصدِّرون إلى العالم جدلًا بشأن أحقية العابرين جنسيًا في امتلاك دورات مياة خاصة بهم، بينما يعيش الأمريكيون في المدن الكبرى واقعًا لا يُسمح فيه للعامة الفقراء بدخول حمامات المطاعم والمقاهي بدون أن يكونوا زبائن لائقين، لدرجة أن لدورات المياه في أغلب السلاسل الشهيرة أرقامًا سرية، يجب على الإنسان إدخالها قبل الفوز بنعمة التبرز.
ينسحب الآن جو بايدن من انتخابات الرئاسة وتستبدل به كامالا هاريس. ستكون الدعاية أنها أول امرأة وأول سوداء وأول هندية، إلخ إلخ إلخ، الأمر الذي ثبت فشله أكثر من مرة. لكن لا يبدو على أي حال أن الحزب الديمقراطي يريد بجدية الفوز في الانتخابات، بل ربما خسارتها وهو متمسك بتاج السفه والسخف فوق رأسه. أن يخسر لأن أمريكا غير مستعدة بعد لرئاسة أول امرأة ملونة، حيث المزيد والمزيد من العجين الليبرالي الممل الذي يستند إلى أن أمريكا عظيمة بالفعل، وعلينا أن نضع حبة الكرز فوق كعكة الخراء.
على كل حال، الولايات المتحدة منقسمة بشدة، والانتخابات الفعلية ستجرى عمليًا في خمس أو ست ولايات متأرجحة على الأكثر هي بنسلفانيا وويسكونسن وميتشجان وجورجيا وأريزونا، ما لم تحدث اختراقات كبرى من دونالد ترامب لولايات تصوت عادة للديمقراطيين أو العكس، ربما مينيسوتا كخسارة محتملة للديمقراطيين أو نورث كارولينا كخسارة محتملة للجمهوريين. عدا ذلك فأصوات المجمع الانتخابي شبه محسومة لصالح مرشح كل حزب.
أمريكا منقسمة بشدة وهذا الانقسام هو ما يجعل فعل السياسة شديد الصعوبة، لأن كل طرف بات يتحدث إلى جمهوره بالأساس. وفي منافسات التعالي على الجمهور المنافس وعدم الاكتراث بمخاطبته ينتصر الديمقراطيون على الجمهوريين. ولهذا السبب بالذات؛ فعودة ترامب إلى الرئاسة أكثر ترجيحًا من فوز أول امرأة.
لكن في كل الأحوال.. هل العالم مستعد لاستقبال أول امرأة تحكم الولايات المتحدة لتفجر بؤرًا عسكريةً عالميةً جديدةً، وتحافظ على أناقة الإبادات ورونقها؟