في أحد تصريحاته المذهلة الأخيرة، قال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إنَّ "أيَّ يهوديٍّ يصوِّت للديمقراطيين هو كاره لدينه، وكاره لكل شيء يتعلق بإسرائيل"، وأن عليهم "الشعور بالخجل من أنفسهم لأن إسرائيل سيتم تدميرها".
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تواجه فيها غالبية اليهود اتهامات ترامب الذي قدَّم لإسرائيل خدمات جليلة خلال السنوات الأربع التي قضاها في البيت الأبيض، بل سبق له اتهام من يصوِّتون منهم لصالح الحزب الديمقراطي بعدم الولاء، وبأنهم لا يفعلون الشيء الصحيح لإسرائيل.
في المنافسة الساخنة التي خاضها ترامب وبايدن في 2020، صوَّت 77% من اليهود الأمريكيين لصالح المرشح الديمقراطي مقابل 21% فقط لترامب، ولا توجد مؤشرات على أنَّ هذه النسبة ستشهد تغيّرًا كبيرًا في انتخابات تكسير العظام المقبلة بين الرجلين في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
تقليديًا، تذهب أصوات معظم اليهود الأمريكيين إلى الحزب الديمقراطي، باعتباره الحزب الأكثر تنوعًا وانفتاحًا مقارنةً بالحزب الجمهوري المحافظ الذي يسيطر عليه الأثرياء البيض، الأمر الذي بدأ الجمهوريون مساعي تغييره تدريجيًا خلال السنوات الماضية، في ضوء تنامي تأثير التيار الديني التبشيري المحافظ، الذي يرى في إسرائيل نبوءةً دينيةً لا بد من تحققها، بالإضافة إلى تعالي الأصوات المؤيدة للفلسطينيين بين حركات دعم الأقليات، التي ينشط فيها الكثير من الديمقراطيين.
أصبح الناس يعرفون
هذه المرة، ضربت تصريحات ترامب المُعادة وترًا شديد الحساسية لدى الأمريكيين اليهود، مع مرور نحو ستة شهور على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة، التي تسببت في انقسام غير مسبوق في صفوف الحزب الديمقراطي، مع تصاعد نفوذ "الجناح التقدمي" في الحزب، الذي يطالب بالوقف الفوري لهذه الحرب ويرفض السياسة الأمريكية الراسخة منذ عقود في دعم ومساندة إسرائيل حتى وهي تنتهك الحقوق والقوانين ويدينها العالم.
سياسة الدعم الأعمى هذه لم تكن تسمح للأمريكيين حتى بسماع الرواية الفلسطينية، عبر حجبها عن وسائل الإعلام الواقعة تحت سيطرة بعض كبار رجال الأعمال الأمريكيين اليهود، وتعتمد بالتالي الرواية الصهيونية التي تبرر كلَّ وأيَّ انتهاك بالمحرقة، وتقدم إسرائيل نموذجًا يتشابه في بعض جوانبه مع التجربة الأمريكية في إقامة الوطن الجديد على يد مهاجرين أتوا لتعميره من أصقاع الأرض وسط ظروف صعبة وأجواء معادية، تطلبت أولًا التخلص من السكان الأصليين.
والمحصلة أنَّ انتقاد إسرائيل في الولايات المتحدة ظلَّ من المحرمات لعقود طويلة، إلى أن بدأ يتغير تدريجيًا في السنوات الأخيرة، مع تجاوز السوشيال ميديا قدرة وسائل الإعلام التقليدية على التأثير، خاصة في الأوساط الشابة، ونجاح الفلسطينيين في تقديم قضيتهم على أساسٍ إنسانيٍّ مرتبط بحقوقهم كبشر متساوين، وبغضِّ النظر عن ديانة من يمارس الاحتلال والعنصرية.
اليهود المشاركون في مظاهرات وقف الإبادة في غزة أقلية نسبية ولكن مهمة
ولهذا السبب، يجد الفلسطينيون تأييدًا وتعاطفًا أكبر بين الحركات التي تدافع عن حقوق السود والأقليات عمومًا. وبالطبع تصاعدت حدة ذلك التأييد شعبيًا، مع ذهول العالم وقطاع كبير من الأمريكيين من حجم الدمار والقتل الذي تشهده غزة، الذي يفوق بكلِّ تأكيد أيَّ خسائر تعرضت لها إسرائيل في هجوم السابع من أكتوبر.
في هذا السياق، تكتسب إدانة زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، السيناتور تشاك شومر، سياسات إسرائيل في غزة ومضيها قُدمًا "بهذا الاستهتار في قتل الأطفال والنساء"، أهميةً خاصةً، كونها قادمةً من أرفع مسؤول أمريكي يهودي منتخب، اجتهد كثيرًا ليؤكد في خطابه أنه لا يزال صهيونيًا يحب إسرائيل وسيبقى كذلك، وأنّ هذا الحب هو ما يدفعه لانتقاد سياسات نتنياهو، التي قد تتسبب في عزل إسرائيل دوليًا وجعلها دولة منبوذة.
لم تأتِ إدانة إسرائيل هذه المرة على لسان ناشط يساري راديكالي يشارك في المظاهرات الأسبوعية التي تجتاح المدن الأمريكية دعمًا للفلسطينيين، بل من صهيوني عتيد يبلغ عمره 74 عامًا، ينتمي إلى جيل بايدن (81 عامًا)، وهو جيل الساسة الأمريكيين الذين زاد انبهارهم بالمشروع الصهيوني في لحظة انتصاره المدوية عام 1967، وتبلورت سياسة بلادهم لاحقًا على دعمه بثبات.
ولكنَّ الأجيال الأمريكية الشابة، تحديدًا الفئة العمرية بين 18 و35 عامًا، لم تشهد تلك المرحلة في تاريخ الدولة الصهيونية، ولم تعرف خلال السنوات الأخيرة إلا صورًا لاحتلال وعنصرية بغيضة بحق الشعب الفلسطيني، حروبًا دورية يُقتل فيها آلاف الفلسطينيين من دون رادع أو عقاب.
موت بقرةٍ مقدسةٍ
في استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك/Quinnipiac University الأمريكية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تبين أنَّ عدد من يدعمون فلسطين في الحزب الديمقراطي تجاوز للمرة الأولى عدد مؤيدي إسرائيل، وبفارق 11%. في عام 2022، كانت نسبة من يدعمون إسرائيل تزيد بفارق 34%.
ولكنَّ الأرقام الأهم، كانت في الفئة العمرية الأقل من 35 عامًا، إذ بلغت نسبة مؤيدي الفلسطينيين 58%. بالطبع نسبة دعم إسرائيل عمومًا بين الأمريكيين، بغض النظر عن انتمائهم الحزبي، لا تزال مرتفعة، ولكنها بكل تأكيد لم تعد كما كانت في السابق، ولم يعد من المحرمات أن يقترح مشرعون ديمقراطيون النظر في وقف إمداد جيش الاحتلال بالسلاح الهجومي حال استمر في القتل العشوائي للفلسطينيين وتجويعهم.
ولهذا السبب يجد الكثير من الأمريكيين اليهود الذين اعتادوا تبني المواقف التقدمية التي يتبناها الحزب الديمقراطي، مثل المساواة بين الأعراق وحرية التعبير والحق في الإجهاض والدفاع عن المثليين، يجدون أنفسهم الآن في موقف شديد الصعوبة والتناقض، يتمثل في كيفية التوفيق بين أن تكون تقدميًا وصهيونيًا في آن واحد، وكذلك منح إسرائيل والقائمين على المشروع الصهيوني حق احتكار الحديث باسم اليهود في العالم، وكأنَّ اليهودية والصهيونية مترادفان متساويان.
يبقى عدد الأمريكيين اليهود المشاركين في مظاهرات وقف الإبادة في غزة أقليةً نسبيًا، لكنها مهمة وبداية لتحول غير مسبوق في التعامل مع المُسلَّمات التي فرضتها المؤسسة الرسمية الأمريكية، التي تعتبر أيَّ انتقادٍ لإسرائيل معاداةً للسامية.
وبعد أن اتهم ترامب بايدن وشومر بأنهما "كارهان لإسرائيل"، تمامًا كاليهود الأمريكيين الذين يصوتون للحزب الديمقراطي، فسَّر موقفهما هذا بسعيهما خلف المزيد من أصوات الناخبين، متجاهلًا أنَّ استمرار الدعم المطلق الذي يقدمه مع الجمهوريين لإسرائيل نابع بدوره من رغبة مماثلة في حصد المزيد من الأصوات، ولكنها أصوات اليمين المحافظ.
ربما يكون هذا تحولًا آخر بارزًا في مزاج الناخبين الأمريكيين، بجانب المعضلة التي تواجه اليهود الأمريكيين الذين سينتخبون الحزب الديمقراطي، وهو أنَّ الموقف من إسرائيل والقضية الفلسطينية تحوَّل إلى قضية انتخابية في بلد عادة ما تهيمن القضايا الداخلية على اهتمامات الناخبين فيه، ولكنَّ المؤكد أنَّ إسرائيل لم تعد بقرةً مقدسةً في الولايات المتحدة، وعليها أن تخوض معركة أكثر صعوبةً مع الأجيال الأمريكية الشابة التي ترفض كذب المؤسسة الرسمية.