رغم مرور سنوات طويلة، فإنني لا أزال أتذكر بوضوح السعادة البالغة والابتسامة العريضة التي ارتسمت على وجه وزير فلسطيني بارز وهو يخرج إلى الصحفيين حاملًا بين يديه ملفًا أسود ضخمًا يضم مئات الأوراق ويرفعه عاليًا ويقول "هذه هي الاتفاقية أخيرًا"، التي أنهت جولة مفاوضات شاقة ومضنية.
عُرف هذا الملف الأسود لاحقًا باسم اتفاقية غزة-أريحا الموقعة في القاهرة عام 1994 لإقامة حكم ذاتي في قطاع غزة ومدينة أريحا في الضفة الغربية، ضمن تفاهمات أوسلو. تتكون الاتفاقية من أكثر من 400 صفحة تضم كافة وأدق التفاصيل المتعلقة بشروط الحكم الذاتي الفلسطيني في هاتين البقعتين فقط من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، كاختبار أولي، تمهيدًا لنقل المزيد من السلطات للسلطة الفلسطينية بقيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات في مناطق أخرى من الضفة الغربية.
طبعًا تضمن الاتفاق عدد القوات الفلسطينية التي سيُسمح لها بدخول غزة وأريحا، ونمط تسليحها بالمسدسات فقط، والصلاحيات الموكلة لها، وأماكن تمركزها، والموافقة المسبقة على أسماء كل أفراد الشرطة الفلسطينية، بل والملابس التي سيرتدونها، وكل التفاصيل التي يمكن والتي لا يمكن تخيلها.
تلك التفاصيل الدقيقة الواردة في الصفحات الأربعمائة، هي ما ستسمح لإسرائيل لاحقًا بالتنصل من تنفيذ ما ورد في الاتفاقيات، بذريعة أن الطرف الآخر لم يلتزم بتعهداته، التي لم تقتصر فقط على جوانب أمنية، بل شملت كذلك مطالب مطاطة من قبيل "مكافحة ثقافة الإرهاب والعنف"، بالإضافة إلى تغيير مناهج التعليم التي لا تعترف بشرعية دولة إسرائيل، وبالطبع مواجهة الجماعات الفلسطينية المسلحة، والتنسيق الأمني مع إسرائيل.
الإغراق في التفاصيل
في كل الجولات اللاحقة من المفاوضات الماراثونية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي انتهت باتفاقيات تشبه اتفاق القاهرة، كانت إسرائيل تعتمد نفس التكتيك: استغراق وقت طويل في التفاوض، والإغراق في التفاصيل، والزعم بالبحث عن "حلول خلاقة" لتجاوز الخلافات، ثم إعلان الاتفاق على 95% من القضايا الخلافية، لتتبقى 5% يرفض الفلسطينيون التنازل بشأنها.
يشارك في المفاوضات مسؤولون على أرفع مستوى من قطر ومصر وأمريكا أغرقتهم إسرائيل جميعًا
ولكن في كل هذه "الحلول الخلاقة" المدعومة أمريكيًا في العادة، لم تقدم إسرائيل تنازلًا واحدًا فيما يتعلق بثوابتها؛ فلا تقسيم لمدينة القدس، ولا عودة للاجئين الفلسطينيين، ولا إنهاء للاستيطان غير الشرعي في الضفة الغربية، التي تحولت إلى قطعة من الجبن السويسري مليئة بالثقوب، وفق تشبيه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش!
نص اتفاق أوسلو على اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلةً عن الشعب الفلسطيني. أما قضايا "المرحلة النهائية"؛ أي الحدود والقدس والمستوطنات واللاجئين، فتأجل بحثها إلى فترة انتقالية تستغرق خمس سنوات، نصل بعدها إلى اتفاق نهائي. ولكن مع نهاية هذه السنوات، تأكدت نية اسرائيل في التنصل من تعهداتها.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين بكل بجاحة "لا توجد مواعيد مقدسة"، وهو ما يعني عمليًا تحقيق وعد سلفه إسحق شامير عند حضوره مؤتمر مدريد للسلام، الذي رعته الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي من أجل تهدئة الأوضاع المشتعلة في الأراضي المحتلة خلال الانتفاضة الفلسطينية، والحصول على دعم الدول العربية في حرب تحرير الكويت، عندما قال إنه سيتفاوض مع الفلسطينيين والدول العربية عشر سنوات، ثم لن يعطيهم شيئًا في نهاية المطاف.
ولكنَّ الأسوأ، أنه ومع فشل المفاوضات، فإن الوضع على الأرض لم يبقَ على حاله. تتوسع دولة الاحتلال في بناء المستوطنات، وتضم القدس الشرقية المحتلة وتعتبر المدينة كلها عاصمتها "الأبدية"، ثم تضم الجولان السوري المحتل، وتعتبر نفسها دولةً للشعب اليهودي فقط، ما يعني المزيد من الانتقاص لحقوق فلسطينيي الداخل الإسرائيلي، من تشبثوا بأرضهم عام 1948.
وبعد العديد من التطورات التي طرأت على المنطقة العربية، من هجمات 11 سبتمبر 2001 ثم وفاة الرمز عرفات في 2004 مسمومًا في الغالب، وأخيرًا ثورات الربيع العربي التي ساهمت في تهميش القضية الفلسطينية، انتهى عمليًا مسار التفاوض بين الطرفين منذ 2014، رغم الآمال التي كانت قائمة في ذلك الوقت بأن يستطيع أوباما، بأفكاره التقدمية وأصوله الإفريقية، تحقيق اختراق عجز عنه من سبقوه.
يحدث مجددًا
المفارقة في ذلك المسار المتواصل منذ أكثر من ثلاثين عامًا، هي أن منطقه كان دائمًا مقلوبًا. فالطرف الفلسطيني الذي يعاني مرارة الاحتلال العنصري البغيض بكل إجراءاته اللا إنسانية هو الطرف المطالب بتقديم التنازلات لإسرائيل، سلطة الاحتلال المخالفة لكل القوانين الدولية. لذلك كانت أولوية المفاوضات دائمًا هي منح إسرائيل الضمانات والتطمينات خوفًا على أمنها واستمرار وجودها، لا إنهاء الاحتلال ومعاناة الفلسطينيين.
تذكرت كل ذلك، وأنا أراه يتكرر في المفاوضات الجارية للتوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، بعد نحو 9 شهور من حرب الإبادة.
يشارك في هذه المفاوضات التي استغرقت عدة جولات مسؤولون على أرفع مستوى؛ رئيس الوزراء القطري، مديرو المخابرات في مصر والولايات المتحدة. وكالعادة، أغرقهم المفاوض الإسرائيلي جميعًا في أدق التفاصيل، لضمان مصالح تل أبيب بتحرير محتجزيها في غزة، مع ترحيل القضايا العالقة لمفاوضات لاحقة، في بحث دائم عن ثغرات تسمح لها بخرق الاتفاق واستئناف قتل الفلسطينيين.
قوات الاحتلال دمرت قطاع غزة بالكامل تقريبًا، بما في ذلك بنيته التحتية الأساسية من كهرباء ومياه، وعاد الحديث عن تفشي المجاعة ووفاة الأطفال بسبب سوء التغذية وانتشار الأمراض. كما احتلت إسرائيل الجانب الفلسطيني من معبر رفح في انتهاك فاضح، ليس فقط للاتفاقيات الموقعة مع الفلسطينيين، ولكن كذلك لاتفاق السلام الذي وقعته مع مصر. وابتلع الرئيس الأمريكي كل تحذيراته السابقة لإسرائيل من اجتياح رفح وإجبار الفلسطينيين على النزوح مجددًا، رغم أنه لم يتبقَّ هناك أي مكان صالح لإيوائهم.
ولكن ذلك كله لم يمنع إغراق المفاوضات في كل التفاصيل الدقيقة بنفس المنطق المقلوب: البحث عن حماية أمن إسرائيل برعاية أمريكية وضمان تحقيق كل مطالبها، بدلًا من إنهاء الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين ومحاسبة المسؤولين عنها.
طالما استمر ذلك النهج، الذي يتعامل مع إسرائيل وكأنها دولة مستثناة من القوانين والمعاهدات الدولية، لا يبدو أنه ستكون هناك نهاية قريبة لجرائم الاحتلال الصهيوني، خاصة في سنة انتخابات أمريكية شديدة السخونة تحولت خلالها مأساة الشعب الفلسطيني، ربما للمرة الأولى، إلى قضية انتخابية داخلية، يزايد فيها المرشحان على بعضهما البعض في الدعم المطلق والولاء التام لإسرائيل.