بعد مائة يوم من حرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدو الصهيوني على الشعب الفلسطيني الصامد في غزة، أصبحت لديَّ القدرة على تناول طعام الغداء وأنا أشاهد استعراض قناة الجزيرة لصور الشهداء ضحايا مجازر الاحتلال، والعمليات التي ينفذها مقاومو حماس.
تفوق فظاعة الصور أحيانًا قدرتي على مضغ الطعام. أتوقف لوهلة متسمِّرًا أمام الشاشة حتى تنتهي صور الأشلاء وجثامين الأطفال، لكنّي بعدها أواصل تحريك فكيَّ بطريقة آلية حتى يبدأ الخبر التالي، غالبًا عن مجزرة جديدة في مدرسة أو مستشفى أو منزل انهار فوق رؤوس ساكنيه ليقتل العشرات.
أصبحت أسماء المدن والأحياء والمخيمات في غزة جزءًا من حديثي اليومي كأنها أحياء في القاهرة، لا قدر الله. جباليا، الشجاعية، الزيتون، بيت لاهيا، دير البلح، خانيونس، رفح، محور فيلادلفيا. وعندما نلتقي على المقهى في المساء، نسبُّ نتنياهو وأعضاء وزارة حربه جالانت وجانتس، وطبعًا بن غفير وسموتريتش، وبقية الدواعش في حكومة دعاة تفوق العرق اليهودي الحالية.
يتراوح متوسط القتل اليومي من 250 إلى 300، وبالرغم من ذلك يتحدث وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بعد أن أنهى جولته الأخيرة عائدًا إلى بلاده "إيد ورا وإيد قدام" عن انتقال العدو الصهيوني إلى مرحلة أقل كثافة من القتال، قد يسمح عندما تتوفر الظروف بعودة سكان الجزء الشمالي من القطاع إلى منازلهم، وكأن منازل بقيت ليعود إليها أي أحد.
يتحدث بلينكن باستفاضة عن حلم الدولتين وأنَّ العرب، بما فيهم السعودية، لا يزالون يتطلعون لتطبيع العلاقات مع إسرائيل ودمجها في المنطقة. يؤكد أنَّ إدارته، التي تقصف اليمن ومواقع في العراق وسوريا، لا تسعى لتوسيع الحرب. أتصور أنني أستمع لمجنون يهذي، ولذلك لا يجب أن آخذه على محمل الجد، خاصة مع تمسكه بأنَّ الوقت لم يحن بعد لوقف إطلاق النار، مورطًا نفسه بالاشتراك في جريمة قتل الفلسطينيين.
أخبار العجب والموت
أعود إلى طعامي. يجب أن تمتلئ معدتي لأواصل يومي، وأكتب مقالاتي وأصطحب ابنتي لحضانتها وأحضر الاجتماعات السياسية وأشارك في الفعاليات الكلامية والاحتجاجية. غزة غزة أرض العزة. افتحوا معبر رفح، إن الكيل قد طفح.
أتخيل الموقف لو كان ترامب في البيت الأبيض في السابع من أكتوبر
دموعي تحجرت إلى حدٍّ كبيرٍ مع اعتياد صور الموت المفزعة، ولكن تبقى هناك استثناءات لا أتمكن من حبس دموعي عندها، فتنهمر ويصاحبها أحيانًا نحيب يعكس العجز وقلة الحيلة أمام هذا الكم من الهمجية والوحشية.
حدث ذلك الأسبوع الماضي عندما شاهدت مراسل الجزيرة وائل الدحدوح يقبل يد ابنه الشهيد حمزة وهو مسجىً أمامه بعدما استهدفت قوات الاحتلال سيارته بصاروخ انطلق من طائرة مسيرة. وحدث ثانية عندما رأيت صورة طفلة صغيرة اسمها لارا، تشبه إلى حدٍّ كبير ابنتي التي تبلغ من العمر عامين تقريبًا، كانت ترتدي ملابس تشبه تمامًا ما ترتديه ابنتي.
صورة ما قبل لطفلة تخطف ابتسامتها القلوب ويشع من عيونها الفرح، وأخرى لما بعد، الطفلة نفسها لكن في ملابسها الشتوية وقد فارقت الحياة واختفت الابتسامة، عيناها مفتوحتان فتحة ضيقة تعلن انطفاء الروح.
فكرت أنَّ المشاهدة المتكررة لصور الجثث والقتلى تؤثر على صحتي النفسية، وتصيبني باكتئاب دائم وشعور بثقل في القلب. قررت التحول إلى قناة سي إن إن الأمريكية. الحياة هناك لا يحكم وقعها ما يحدث على حدودنا في مصر.
بالطبع هناك تغطية أمريكية مكثفة لما يجري في غزة، حيث تحولت القضية إلى شأن داخلي يؤثر في نتيجة الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني مع تنامي الضغط الشعبي، خاصة من قبل جيل الشباب، لمطالبة الرئيس جو بايدن بوقف الحرب وسط تراجع غير مسبوق في شعبية الكيان الصهيوني، وهو ما لم يكن من الممكن تخيله حتى سنوات قليلة مضت.
ولكن تبقى تطورات الوضع في غزة جزءًا من نشرة أخبار سي إن إن، وسط اهتمامات أخرى عديدة يتصدرها المشهد الداخلي والمحاكمات التي لا تنتهي للرئيس السابق دونالد ترامب، وبدء الانتخابات التمهيدية لاختيار المرشح الجمهوري الذي سينافس بايدن.
لم يشارك ترامب في أي من المناظرات التي يقوم بها المرشحون الجمهوريون لثقته في الفوز، بل إن استطلاعات الرأي أشارت إلى أنه يتقدم على بايدن بنقاط قليلة. دفعني ذلك لتخيل الموقف لو كان ترامب في البيت الأبيض في السابع من أكتوبر.
هل كان سيقوم بإرسال قوات أمريكية للقتال مباشرة مع إسرائيل، ويوقع وثيقة اعتراف واشنطن بضم الضفة الغربية جزءًا من أراضي دولة الاحتلال ويلغي الالتزامات الأمريكية السابقة باعتبار غزة والضفة أراضي محتلة؟ كم هو صعب موقف الناخبين العرب والمسلمين الأمريكيين في الانتخابات الرئاسية المقبلة. هل يعاقبون بايدن الذي يفتخر بأنه صهيوني، ويمتنعون عن التوجه لصناديق الاقتراع؟ بالطبع لن يصوتوا للمجنون ترامب.
ومع انتقال النشرة لمتابعة تطورات الحرب الأوكرانية والنزاع مع الصين والانتخابات في تايوان، ثم الفقرة الرياضية، يصيبني الذنب لتوقفي عن متابعة أخبار غزة.
حرب وغلاء وأمل جنوبي
أعود سريعًا إلى الجزيرة. هل فاتتني مجرزة جديدة؟ غالبًا. فالقتل كل دقيقة وكل ساعة. كيف يتسامح العالم مع آلة القتل هذه؟ تتردد في ذهني مقولة الرئيس الراحل أنور السادات بعد أيام من انطلاق حرب أكتوبر 1973: نحن لا نحارب إسرائيل بل نحارب أمريكا. هكذا قال.
انتهت للأبد أسطورة ووهم إسرائيل واحة الديمقراطية وسط الهمج العرب
تغلي الشعوب العربية غضبًا وتشتعل حناجرها هتافات، لكنَّ الأنظمة العربية تتجنب محاربة أمريكا، ولذا تستمر الحرب ويستمر القتل من دون أن نتحدَّى تلك الدولة المدللة بإرسال المساعدات مباشرة إلى غزة، أو أن يقوم أيٌّ من رؤسائنا العرب بزيارة القطاع أسوة ببعض المسؤولين الأجانب من المنظمات الدولية.
هل يؤيد بعض الحكام العرب سرًا الحرب الإسرائيلية للقضاء على حماس ليتم حرمان ما يسمى بـ"محور المقاومة" الذي تقوده إيران من تحقيق انتصار قد يهدد مصالحها ويعزز من موقع طهران كأكبر قوة إقليمية؟ ربما.
تراجع اهتمامي كثيرًا بالشأن الداخلي، وإن بقي همّي الاقتصادي مع زيادات الأسعار هدية الحكومة لنا مطلع العام الجديد، وانتظار التعويم مع أمل الحصول على قرض صندوق النقد لنسدد ما علينا من فوائد وأقساط قروض، واقتراض المزيد.
شعرت بأنَّ هناك طرفًا يتعمد استفزاز المطحونين من الغلاء عندما قرأت تقريرًا نشرته رويترز بعنوان "مصر تخطط للتوسع في العاصمة الإدارية الجديدة"، يتحدث عن بدء مرحلة ثانية من المشروع بتكلفة تتراوح بين 250 و300 مليار جنيه، وذلك بعد إنفاق 500 مليار جنيه على المرحلة الأولى، حوالي 16 مليار دولار بالسعر الرسمي.
لحظة الانتشاء الوحيدة في خضم كل هموم الحرب بعد مائة يوم، كانت يوم 11 يناير/كانون الثاني الجاري، عندما مثلت إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، مُتهمةً من جنوب إفريقيا بممارسة جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
كنت أتمنى لو أنَّ دولة عربية هي من رفعت الدعوى، لكنَّ حقيقة أنَّ جنوب إفريقيا بما لها من تاريخ في مكافحة العنصرية والانتصار على النظام الوحشي هي التي قامت بذلك، منحتني بعض الأمل.
انتهت للأبد في الغرب وحول العالم أسطورة ووهم إسرائيل واحة الديمقراطية وسط الهمج العرب، ووقف محاموها يدافعون عن اتهام غالبية الشعوب لها تقريبًا بالإبادة الجماعية، مدركين أنها آخر بقاع الاحتلال العنصري في العالم.
وكما انتصرت جنوب إفريقيا، حتمًا ستنتصر فلسطين. هذا هو شعوري الذي ازداد ترسخًا بعد مائة يوم.