بعد ليالٍ طويلةٍ من الانهيار أمام صور الأخبار، بلغت سوزان محمد حد الاكتفاء من متابعتها. باتت الأنباء مكررة، والصور معتادة، رغم ما بها من جثث وأشلاء ودماء، وارتفاع أعداد الضحايا كل يوم.
تحولت حياة سوزان ذات الـ 32 سنة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى متابعة مستمرة لما تبثه الشاشات من أخبار عن الحرب في غزة.
"كنت بتابع طول اليوم الأخبار وأتفرج على الفيديوهات وأعيط، لكن مع الوقت بدأت أتعود" تقول سوزان لـ المنصة. وتضيف "أكتر من أسبوعين بتابع بهيستيريا، لدرجة إني بقيت مقصرة مع ولادي ومع مذاكرتهم والاهتمام بيهم". لكنها عادت أخيرًا للتركيز على تفاصيل يومها.
ما مرت به سوزان وهي أم لطفلين يعرف بــ تعب الأخبار News fatigue، ويعني تعب المشاهد من كثافة الأخبار حول موضوع ما لفترة طويلة، ويتقاطع في علم النفس مع التكيف الحسي. وهي الحالة التي يصل إليها الفرد بعد التعرض لضغط شديد، فيفرض عليه جهازه العصبي الاعتياد من أجل المقاومة والاستمرارية. ويعرَّف التكيف الحسي بـانخفاض في الحساسية لمحفز بعد التعرض المستمر له. فنصبح قادرين على تحويل انتباهنا إلى أشياء أخرى في بيئتنا بدلًا من التركيز عليه.
لا يعد الإرهاق الناتج عن الأخبار أمرًا سيئًا في حد ذاته
تكبلك الأخبار خاصة مع وجود السوشيال ميديا التي جعلت الأمر بالغ الصعوبة، لأنها مصممة بطبيعتها لتجعلك تبقى؛ تلعب على الخوف من الضياع. كلما حاولت الإفلات من سيل الأخبار والفيديوهات، تشعر وكأنك تفوّت شيئًا.
إذا كنت تستخدم تيك توك أو إنستجرام، فمن المحتمل أن تلاحظ أن الفيديوهات تستمر بلا انقطاع، لا تنتهي ولا يوقفها سوى إرادتك في ضغط زر الخروج، وذلك هو ما يقود إلى التعب.
لا يعد الإرهاق الناتج عن الأخبار أمرًا سيئًا في حد ذاته، إذ إنه مجرد إشارة إلى أن جسدك وعقلك يمنحانك فترة راحة عقلية. تحدث المشكلة عندما يؤدي هذا التعب إلى تجنب الأخبار، مما يعني أنه بسبب السأم من الأخبار، فإنك تتجنبها كلها.
التكيف من أجل البقاء
يعد الطبيب النفسي أحمد عزت عامر التكيف رد فعل فسيولوجي، شارحًا لـ المنصة "لو حطينا إيدنا في ماء بارد للمرة الأولى أو ماء ساخن جدًا مع الوقت نتعود عليه ونألفه، لأن الأعصاب الحسية التي تميز درجة الحرارة تُشبع وبالتالي الإشارات المتجهة للمخ تقل، ومن ثم تبدأ الأعصاب تتكيف، وده بيحصل مع كل الحواس الأخرى كاستجابة طبيعية موجودة لدى الإنسان والحيوانات تمنح فرصة للتعايش والاندماج".
ويضيف "لما بنتعرض لنفس المشاهد أو المحفز تقل استجابتنا له مع الوقت، فمهما كان الحدث صعب وجلل وصادم لو استمريت في تعريض حواسك ليه لوقت طويل هتقل استجابتك".
سوزان التي تعمل مدرّسة تخشى الاعتراف بتقليل متابعتها الأخبار، إذ يعد كثيرون الانفصال عن الشأن الفلسطيني خيانة، ويُشعرها ذلك بعبء إضافي ويسبب لها القلق، ليس لشعور فردي بالذنب وإنما تعليقات الآخرين التي تتحدث عن بيع القضية.
تشاركها الوقوع تحت وطأة ضغط المجتمع الثلاثينية هند محمود، التي قررت الاحتفال بعيد ميلاد ابنتها لتواجه بتهم الخيانة وتبلد المشاعر. تقول لـ المنصة "بقالنا أسابيع بنصحى الصبح على سؤال واحد شفت اللي حصل؟ وده تأثيره بدأ يظهر عليا في أعراض جسدية؛ نَفَسي بيضيق، ومش بعرف أنام غير بصعوبة، غير العياط طول الوقت، فكرت أفصل وأعمل لبنتي عيد ميلاد".
التعرض للأخبار السيئة له تأثير سلبي في الصحة النفسية
غير أن أفرادًا من عائلتها التي تعيش في كفر الشيخ لم يفوتوا فرصة تأنيبها على الاحتفال بينما هناك حرب مندلعة مخلفة ضحايا ولاجئين دون بيوت، أما هند فترى أن "الحياة يجب أن تستمر تحت أي ظرف".
تدعمها فيما تقول هانيا جمال، الطبيبة النفسية بالقصر العيني، التي تقول لـ المنصة "التقليل من نسبة المشاهدة ليس معناه بيع القضية، أو أن الشخص أصيب بالتبلد، أو فقد الإحساس، ولكن الشخص بيحاول بس يلاقي منفذ لممارسة طقوسه اليومية بشكل متوازن، مع أهمية استمرار اهتمامه بالقضية ومتابعتها من حين لآخر".
ويقول الدكتور أحمد عزت إن التكيف الحسي عرض صحي، يفرضه الجهاز العصبي على الشخص لحمايته من الضغط غير المحتمل، وينصح "الناس لازم تحاول قدر الإمكان ممارسة حياتها بطبيعية مع المتابعة في أوقات محددة".
بين العجز والمعجزة
تحديد وقت لمتابعة الأخبار يعد طريقة للتعامل مع الأثر السلبي لأخبار الحرب، تضيف دكتورة هانيا "يعتقد البعض أن الابتعاد عن الحياة ومتابعة ما يحدث كل دقيقة هو نوع من الإخلاص للقضية، لكن ذلك غير صحيح، الاستجابة تختلف من شخص لآخر حسب قدرة كل شخص النفسية".
إذ تسبب المتابعة المستمرة لأخبار الحروب قلقًا وتوترًا، كما تؤدي لفقدان القدرة على التركيز، فضلًا عن مشاعر الحزن واليأس والإحباط والاكتئاب والقلق، وقد تصل أحيانًا إلى إهمال الشخص مهامه اليومية أو عمله، والانسحاب الاجتماعي.
اختبرت إلهام عاطف، التي تبلغ من العمر 28 سنة، مشاعر مختلفة، وهي تتابع الأخبار منذ بداية الحرب، الخوف والقلق والتوتر، "كنت فاتحة التليفزيون بشوف الأخبار طول الوقت وأنا بطبخ وأنا قاعدة وأنا بنضف"، تقول لـ المنصة.
إلهام التي تعمل مهندسة في السويد، انتقلت بمشاعرها إلى الحزن مع فقدان القدرة على التركيز وربما وصلت حسب توصيفها إلى "هيستيريا وخاصة لما انضربت مستشفى المعمداني، كنت بعيط طول الوقت، بتكلم بصوت عالي، بحكي وبدعي عليهم وبشتم طول الوقت، منتظرة رد فعل قوي من كل الناس".
غير أنها اليوم وصلت إلى حالة من الإحساس بالعجز واليأس. تقول "بتفرج وأنا ساكتة، مبعيطش خالص ومش منتظرة حاجة تحصل" تفسر ذلك بفقدانها الأمل في تحرك العالم نحو وقف الحرب. "ممكن معجزة ربانية، لكن بطلت أسأل ممكن أعمل إيه عشان ماحدش قادر يعمل حاجة".
وصل الأمر بوالدة الثلاثينية هويدا محمد إلى المرض، تقول لـ المنصة "كانت أمي تتابع الأخبار من غزة باستمرار، ثم شعرت ببعض الإرهاق وزيادة في ضربات القلب وخاصة أن قلبها لا يتحمل مثل هذا التعب والإرهاق، وبالمتابعة مع طبيبها طلب منها الراحة، وعدم الاستماع إلى أي أخبار تسبب لها الإزعاج".
التعرض للأخبار السيئة له تأثير سلبي في الصحة النفسية وفقًا لما تقوله جمعية علم النفس الأمريكية، ومهما اعتقد الشخص أنه يسيطر على الوضع، فإنه يعرِّض نفسه للتوتر.
الخوف من العالم
فيما كشفت الدكتورة سارة فوزي، أستاذة الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة، في حديثها مع المنصة عن أثر آخر لتعب الأخبار، ما يُطلق عليه متلازمة العالم الوضيع Mean world syndrome "وتعني أن يعتاد الناس المشاهد الدموية، ومن ثم يفقدون الثقة في العالم الخارجي ويخشون كل ما حولهم ويصابون بالذعر من المواجهة مع الآخر، فيما يشبه الهلاوس".
التطوع والمشاركة في المظاهرات يمكن أن يكونا طريقين للتخلص من التوتر
تنصح أستاذة الإعلام بضرورة تنظيم وقت التعرض لأخبار الحرب "يجب ألا نجلس أمام التليفزيون 16 ساعة نشاهد هذه الأخبار. ممكن نشاهد فيلم تسجيلي مرة ونتابع الأخبار في مرة أخرى وهكذا".
وحذرت من تعريض من هم دون الـ13 سنة لمشاهد الاعتداءات، لما تسببه من مشكلات كثيرة، "من يتعرض لمثل هذه الأخبار، يتولد لديه خوف على نفسه وكل من حوله" تقول الدكتورة سارة.
وتستنكر أستاذة الإعلام تكرار المشاهد على شاشة التلفزيون "بدون داعٍ"، وتدعو وسائل الإعلام إلى التقليل منها، لأن "المحتوى عنيف ولا يليق بالأطفال وأصحاب القلوب الضعيفة والنفسيات الهشة".
كما من الممكن معالجة مشاعر العجز التي تصاحب متابعة أخبار الحرب، بالبدء في دعم الأشخاص المتضررين بطريقة محددة ومركزة، مثل التبرع بالمال والمساعدات، أو التطوع، ويمكن للمشاركة في المظاهرات أن تكون طريقًا للتخلص من التوتر.
يقدم أحمد عزت، بصفته طبيبًا نفسيًا، نصائح لمن يعانون ضغطًا نفسيًا بسبب الأخبار، تتلخص في ممارسة الرياضة، والجلوس مع الأصدقاء والحديث في موضوعات متنوعة، والمشي والتعرض للهواء الطلق بما يفيد الصحة النفسية والعقلية.
سوزان مع زملائها في العمل بدأوا مع الوقت تنفيذ ذلك، يقطعون حديثهم عن الحرب بأخبار يومياتهم وما يستجد فيها. كما قللت من تعرضها للأخبار "مابقيتش أشوف غير قليل جدًا، ومعظم الأخبار بقيت بسأل عليها أصحابي عشان مش عايزة أتعرضلها بنفسي".