يلعب مالك، ذو الـ6 سنوات، أحيانًا لعبة بابجي الشهيرة، يكره خسارته المستمرة فيها "كل ما اجي أضربهم يستخبوا مني، ويموتوني الأول"، يقولها بعباراته الطفولية، مفضّلًا عليها لعبة السيارات التي تُشعره بمتعة الانتصار.
تشترط اللعبة، أن تكون سن من يمارسها +16، كونها تتضمن معارك قتالية عنيفة، في محاولة لتجنيب الأطفال، بينهم مالك، تلك المشاهد الدموية، غير أن الحرب على غزة جعلته يتورط في متابعة عنف حقيقي على الشاشة، لا يتحمله البالغون.
لا مفر من مشاهد القتل التي يذهب ضحيتها أطفال في مثل عمره، لا جنود في الجيش. يقول مالك لـ المنصة "الولد.. إسرائيل بيكسروله إيده"، ما يدركه من أبعاد الحرب أنهم "بيحرقوها بالصواريخ، وفلسطين مش عارفة تضرب".
كما الألعاب العنيفة، تترك مشاهد الحرب آثارها على سلوك الأطفال، يقول محمد عبادي والد مالك، "لاحظت عنفًا في سلوكه أكتر من الأول"، لذا قرر ألا يشاركه مشاهدة الأخبار، لكن ذلك لم يجدِ نفعًا، على حد وصف الأب، مع امتلاك الصغير موبايلًا يضعه في أتون الحرب ومشاهدها الدموية بضغطة على أيقونة يوتيوب.
حسب قواعد يوتيوب، لا يجب أن يُسمح للأطفال باستخدامه قبل سن 13 عامًا، أما الأطفال دون هذه السن فيمكنهم مشاهدة يوتيوب كيدز، وهو تطبيق آمن تتم مراجعة كل محتواه بدقة ليناسب تلك الفئة العمرية، لكن كثيرين لا يلتزمون بتلك القواعد ويتحايلون على شروط السن.
فات الأوان بالنسبة لمالك، فعلى مدار الشهر الماضي اعتاد مَشاهد الحرب وتفاعل معها. خلال حديثنا معه، بعد موافقة والده، عن المدرسة وهواياته واللعب وفلسطين، قال "عايز آخد أنبوبة ويكون معايا مفتاحها وأروح أضرب إسرائيل".
في الحديث مع الأطفال عن الحرب لابد من التركيز على قصص من يقدمون العون
ومثل مالك، تُشاهد هَنا التي تبلغ من العمر 7 سنوات ونصف السنة مع أسرتها نقلًا حيًّا لما يحدث في غزة، لكنها على عكسه لا تدرك أنها مشاهد حقيقية. حين تملأ الدماء الشاشة تتساءل "هو الفيلم ده صعب ليه كده؟"، حسب حديث والدتها وداد محمد، التي تعمل مدرسة في حضانة لـ المنصة.
تعتبر هَنا ما تراه فيلمًا اعتمادًا على خبرتها، تقول وداد "كانت بتتفرج معايا على أول حلقتين من مسلسل سفاح الجيزة، واتفزعت وخافت. قولتلها إن كل ده تمثيل في تمثيل ومش حقيقي، ومبيحصلش"، فباتت مشاهد العدوان في وعيها جزءًا من "فيلم صعب".
ومثل شروط الألعاب العنيفة، لم يكن من المفترض أن تشاهد هنا "سفاح الجيزة"، الذي صنفته جهة عرضه أنه مناسب للبالغين فقط، لكنْ من يلتزم بتلك القواعد!
نافذة القضية.. قد تكون قصة قط
كل من مالك وهَنا في مرحلة الطفولة المبكرة التي تحدد بعمر ما دون الـ9 سنوات، حسب سوسن فايد أستاذة علم النفس بالمجلس القومي للبحوث الاجتماعية، التي تحذّر من تعرض الأطفال في هذه المرحلة لمشاهد العنف والقتل، "يمكن أن يسبب لهم اضطرابات نفسية وسلوكية، خاصةً أنهم لن يستوعبوا ما يحدث" تقول لـ المنصة.
تتفق معها آية الحفناوي، الاستشارية النفسية للأطفال، قائلة لـ المنصة إن الأطفال دون الـ6 سنوات "ليسوا فقط معرضين للخوف والقلق لكنهم لن يستطيعوا حتى التعبير عن هذه المشاعر، وستُخزّن مشاهد الدم والقتل في ذاكرتهم، ويمكن أن تظهر بعد ذلك في شكل نوبات هلع".
وتنصح آية بأن يتم ربط الأطفال في هذه السن بقضية التحرر الوطني باستخدام التعبير القصصي، "هم بيفهموا القصص كويس، ممكن نحكيلهم عن قط سرق بيت قط تاني وقعد فيه، وضرب القط الأول. وعن قط تالت بيساعد القط الأول إنه يسرق البيت، وبعد كده أقولهم إن القط ده إسرائيل وده فلسطين وده أمريكا". وإن كان هذا يفتح تساؤلات عن الظلم وقسوة العالم قد لا يستطيع الآباء الإجابة عليها.
وعلى العكس، تنادي يونيسف في دليل استرشادي للتعامل مع الأطفال وقت الحرب، بالتركيز على الجانب الطيب والتضامني من العالم، عن طريق سرد "قصص من يقدمون العون وقت الحرب"، جاء فيه "مهم للأطفال أن يعرفوا أن الناس يساعدون بعضهم البعض بأفعال تتسم بالشجاعة واللطف. ابحث عن قصص إيجابية، مثل المستجيبين الأوائل الذين يقومون بمساعدة الناس، أو الشباب الذين ينادون بالسلام".
ترى الاستشارية النفسية أن الأطفال من 6 سنوات حتى 12 عامًا، قادرون على فهم ما يحدث، لكنهم لا يجب أن يشاهدوا الأخبار على نحو مباشر، بل يمكن أن تروى لهم. وحذّرت "المشاهد دي ممكن تسببلهم مشاكل في النوم، أو خوف من أنهم يناموا لوحدهم، أو قلق"، وتضيف "وقد تعزز السلوك العدواني لديهم".
وهو ما حدث مع سجى، ذات الأعوام السبعة، التي طاردتها الكوابيس بعدما رأت مشاهد من الحرب، رغم أن والديها حرصا على عدم مشاهدتها الأخبار. تقول والدتها أميرة محمد لـ المنصة، "كانت بتشوف اللي بيحصل على تيك توك"، مشيرة إلى أنها حذفت التطبيق، الذي تنص قواعده على ألا يقل عمر المستخدم عن 13 عامًا، لكن سجى عادت وحمّلته مرة أخرى على الموبايل، ثم "بقت بتخرف وهي نايمة وتشتم إسرائيل".
لا يمكن أن تكون ردود فعل الأطفال وقدرتهم على الاستيعاب واحدة
"بعد سن الثانية عشرة يستطيع الأطفال المشاهدة. في العمر ده وعيهم بيكون أكبر، ويقدروا يفرقوا إن اللي بيحصل بعيد عننا، وميسببلهمش خوف مباشر"، تقول آية.
أما منى شطا، الأخصائية النفسية، فترى في حديثها مع المنصة أن الاستجابات الفردية مختلفة، فلا يمكن أن تكون استجابة الأطفال وقدرتهم على الاستيعاب واحدة.
القضية على المائدة
على مائدة الإفطار، قرر عمر، ذو العشر سنوات، أن يشارك شقيقه الأصغر منه بعامين سليم لعبة تمثيلية يكون فيها هو فلسطين، في حين يلعب سليم دور إسرائيل، بدأت فلسطين تتحدث بلسان طفولي معددة جرائم الاحتلال من قتل وتدمير.
تقول مروة مجدي، أم عمر وسليم، لـ المنصة، أن ولديها، خصوصًا الأكبر، لم يكونا يعرفان الكثير عن فلسطين قبل العدوان الأخير، لكنها الآن همهما الأول. "على طول مشغلة التليفزيون على القنوات الإخبارية، عمر بيقعد يتفرج معايا ومتابع جدًا ومتأثر عاطفيًا أوي، الأول كان فاكر اللي بيموتوا إسرائيليين فكان فرحان، لكن أما فهمته إنهم فلسطينيين بقى زعلان عليهم أوي".
وتعلق الأخصائية منى شطا "مفيش حد هيعرف الطفل أكتر من الأم نفسها، هي عارفة أولادها واستجابتهم وتأثرهم، الأولاد الحساسين يُفضّل يبعدوا عن الأخبار تمامًا، والأطفال اللي يقدروا يستوعبوا من غير ما نؤذي نفسيتهم نستقبل أسئلتهم ونجاوب عليها".
يقضي عمر وسليم أوقاتهما في رسم أعلام فلسطين ومصر، "عمر كل كام يوم يطلب مني أكتبله كلمات أغنية عن فلسطين عشان بيغنيها في الطابور"، تقول مروة.
لم تلحظ مروة على ابنيها حتى الآن تغيرات سلوكية مقلقة، وترى أنها لا تستطيع منعهما عن المتابعة "حتى لو مشفوش الأخبار معايا، معاهم تليفون هيشوفوا عليه كل حاجة".
وردًا على من يبررون مشاهدة أطفالهم لأحداث الحرب، بأن العنف يحيط بالأطفال من كل جانب في المجتمع، قالت آية الحفناوي "ليس من المفترض أن يتعرض الأطفال للعنف، وإذا كان ذلك يحدث فلا يجب أن نزيد الجرعة".
ويُشير دليل يونيسف الاسترشادي إلى أن "للأطفال الحق في معرفة ما يحدث في العالم، ولكن يتحمل الكبار أيضًا مسؤولية إبقائهم في مأمن من الضيق. أنت تعرف أطفالك أفضل من غيرك، فاستخدم لغة مناسبة للعمر، وراقب ردود أفعالهم، وكن حساسًا لمستوى قلقهم".
ويعلق سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأمريكية، قائلًا لـ المنصة "في الأفلام والمسلسلات الخيالية يوجد تصنيف بناء على السن، الحاجات اللي فيها عنف بتتصنف +18 أو +16، ولا تصلح للمشاهدة العائلية، فنيجي إحنا نعرض الأطفال للمشاهد دي وهي واقعية مش خيال!".
المقاطعة.. طريق آمن
منذ العدوان على غزة، ومع الحديث عن المقاطعة، اتخذ مالك موقفًا متشددًا، حتى أنه "خبّأ شاي ليبتون اللي كان عندنا من الأول"، يقول والده، ورغم محاولة إقناعه بأن الشراء تم قبل المقاطعة، إلا أن الأسرة استجابت لرغبته، ولم تستخدم الشاي.
وترى الاستشارية النفسية آية الحفناوي أن "المقاطعة سبيل آمن وفعال لربط الأطفال بالقضية الفلسطينية، وتصلح لأي سن". وتعكس فيديوهات عدة على تيك توك إمكانية ربط الأطفال الأصغر عمرًا بالمقاطعة. يظهر في أحدها طفل في الثالثة أو الرابعة من عمره، وهو يمسك علبة عصير ويسأل والدته "ماما هادا بيحب فلسطين؟"، فتجيبه الأم بالإيجاب، بينما يمسك شقيقه بآخر فينهاه الطفل الصغير "هادا ما بيحب فلسطين".
أما مالك، فلم يعد بحاجة لسؤال والده عن المنتجات، إذ حمّل على موبايله تطبيقًا يستطيع من خلاله البحث عن المنتج لمعرفة ما إذا كان ضمن قائمة المقاطعة أم لا.
تتعجب وداد، والدة هنا، من تبني أطفال في الحضانة فكرة المقاطعة، "متفاجئة من كم الوعي" على حد وصفها، "لقيت طفل عندي في الفصل بيزعق لزميله عشان معاه شيبسي، وهو نفسه بياكل هوهوز" تقول ضاحكة، في إشارة إلى أن المنتجين ضمن قائمة المقاطعة.
كما شاهدت في سوبر ماركت، طفلًا صغيرًا بعدما اختار كيس فيشار، سأل البائع "عمو هو ده مقاطعة؟"، فأجابه بالنفي، فحمل الطفل الكيس ومضى.
تعلّم مالك كيف يسجل فيديو يعبر فيه عن آرائه فيما يتعلق بالحرب، أصبح يطلب من والده كل جمعة أن يساعده. يجلس مالك على مكتب، يتحدث بلغة عربية فصحى، اكتسبها من مشاركات والده الإخبارية، يبدأ خطبته الغاضبة بالحديث عن "شاي ليبتون الذي تشربونه إنه مقاااااطعة"، ويضيف بعصبية بينما يخبط بيده على الكرسي، "هذه القضية تسيطر علي، تسيطر علي".
يتمنى مالك أن تهدأ الأوضاع في فلسطين، وتنتهي الحرب وتنتصر، كي يعود إلى عاداته السابقة في ممارسة لعبة سباق السيارات، والمذاكرة دون أن يؤرقه ما حدث للطفل "اللي إيده مكسورة" في فلسطين.