تصوير سلمى القدومي لـ المنصة
محمد أبو عيدة يعزف على الكمان بعد فقده كف يده، خانيونس 2024

الموسيقى لم تنقطع في غزة "وطن الأطراف المبتورة"

منشور الثلاثاء 14 يناير 2025

قبل أن تغدو الحرب روتينًا يوميًا لأبناء غزة، كان الطفل محمد أبو عيدة من مخيم جباليا شمال القطاع يقضي يومه بين التعليم المدرسي ولعب كرة القدم والعزف على العود؛ الهواية التي أحبها وتعلق بها من خلال جلساته مع جارهم الذي يمتلك عودًا.

"العود كان بيفرحني"، يقول محمد الذي لم تتجاوز سنُّه الرابعة عشرة لـ المنصة، لكن سعادته برفقة آلته، التي أتقن العزف عليها في وقت قصير، لم تدم، إذ فقد يده اليمنى في قصف إسرائيلي خلال الحرب، ليتغير بعدها روتينه اليومي ومعه حياته وأحلامه.

يتذكر محمد لحظة القصف، حيث كان يقف في طابور انتظار أمام دورة المياه الوحيدة المتوفرة لقضاء النازحين حاجتهم داخل مركز الإيواء بالمدرسة، يقول "ما اسمعت أي صوت، فجأة شفت اشي انفجر وناس اطايرت ودم بكل مكان، بعدين أصوات ناس، اطلعت ع ايدي لقيتها دم وصرت أصرخ".

حمل الشُّبان محمد إلى مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح لتلقي العلاج، وهناك لحقت أمه به لتتابع إصابة طفلها، الذي انفصلت يده اليمنى من أعلى الكف وانقطعت الشرايين والأوردة الدموية، كما أخبرهم الأطباء، الذين قرروا تحويله إلى المستشفى الأمريكي الميداني بخانيونس.

فور وصوله، أجرى الأطباء الفحوصات وتقرر بترُ يده مع عدم استطاعتهم إجراء عملية تحفظ له القدرة على تحريكها بعد قطع الأوتار والأوعية الدموية، حسب منى أبو عيدة، والدة محمد لـ المنصة.

بُترت يد محمد وخضع لعلاج على مدار 11 يومًا عانى خلالها من آلام حادة، قبل أن يخرج من المستشفى ويعود للمدرسة ذاتها التي تعرض فيها للإصابة.

تتذكر منى الأيام الأولى التي عانى فيها محمد "دايمًا قاعد ومكتف إيديه، ما بده حد يشوفه هيك، وطول اليوم يعيط ويسألني وين ايدي راحت". شعر الطفل بفقد جزء مهم من جسده؛ جزء كان يمنحه الكمال والقدرة على البيع والشراء، والدراسة والكتابة، وحتى العزف على العود الذي حُرم منه، فيما كان الجميع يحاوطونه في محاولة لانتشاله من حالة الحزن والاكتئاب، وربما هذا ما منحه بعض الأمل.

غزة موطن أكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في العصر الحديث

أيام العزلة والبكاء، كسرها مدرب الموسيقى؛ فبعدما كان محمد انقطع عن دروس تعلم العود بسبب فقد يده، استلزم الأمر الكثير من الكلام ليصلا معًا إلى تغيير الدروس لآلة لا تحتاج إلى كف يده، تقول الأم "اقترح المدرب الكمان"، لم يلق الاقتراح حماسًا كافيًا من الصغير المحبط.

لكن المدرب لجأ لربط قطعة قماش على رقبة محمد وثبت الكمان، وأعطاه الوتر في يده اليسرى ليتمكن من العزف، لحظتها شعر أن من الممكن خوض التجربة "اتدربت كل يوم لحد ما قدرت أعزف ع الكمان" يقول العازف الصغير.

"صرت بزور المدرب وبعلمني العزف، بستمتع لما بكون عنده وبحس إني مبسوط"، يضيف الطفل الذي أبت الحرب أن تتركه على حاله، إذ وصله خبر مقتل والده شمال القطاع في قصف إسرائيلي خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليعاود الحزن السيطرة عليه.

إن كان محمد قد وجد في الكمان ما يعينه على قضاء الأيام، فهناك آلاف من غيره من الأطفال فقدوا أطرافهم حسب بيانات وزارة الصحة بغزة دون أن يجدوا ما يعوضهم فقدهم. ويفقد 10 أطفال إحدى الساقين أو كليهما، لتصبح غزة موطنًا لأكبر مجموعة من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث. حسب تقرير الأمم المتحدة.

ولا توجد معلومات دقيقة حول أعداد من بُترت أطرافهم خلال الحرب، غير أن بعض التقديرات تشير إلى أن عددهم يتراوح من 5 إلى 6 آلاف جريح حسب تصريح هشام مهنا الناطق باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر بغزة لـ المنصة.

تتفق هذه التقديرات مع أعداد المسجلين ضمن برنامج مساعدة مبتوري الأطراف بسبب الحرب الإسرائيلية، الذي أطلقه الصليب الأحمر الدولي، التي تجاوزت أكثر من 5 آلاف جريح. يوفر البرنامج أطرافًا صناعيةً لهم، يعتقد مهنا أن هؤلاء هم من تمكنوا من الوصول للبرنامج فيما لا يزال غيرهم مئات لم يسجلوا أنفسهم.

ليست صعوبة الوصول للتسجيل وحدها ما تواجه تنفيذ البرنامج، فهناك تحديات أخرى أهمها قلة الدعم الإنساني الذي يسمح الاحتلال الإسرائيلي بإدخاله للقطاع، بما يشتمل من أجهزة مساعدة وأدوات لازمة لتجهيز وتركيب الأطراف الصناعية، إلى جانب صعوبة التنقل بين محافظات القطاع بسبب الفصل الإسرائيلي وتمركز الجيش على الحواجز.

الطفل محمد أبو عيدة، يعزف على الكمان مبتور الكف، خانيونس 2024

.. وهناك المزيد

في مارس/آذار الماضي، كانت الطفلة ملك الغول من سكان منطقة المغراقة وسط قطاع غزة نزحت إلى مدينة حمد السكنية، شمال غرب خانيونس، وبعد توغل جيش الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، بدأت الجرافات بتجريف المنزل الذي كان يؤويها وأسرتها المكونة من 13 فردًا، "كنا محاصرين من الجيش، وكنت داخل الغرفة، فجأة الجرافات دخلت علينا ووقعت الحيط الخرسانية عليا أنا وأمي وأخويا وتصاوبنا"، تقول لـ المنصة.

دخل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وانتشل ملك وأمها ونقلهما إلى المنزل المقابل، وقدم لهما إسعافات أولية قبل أن يتواصل مع الصليب الأحمر الذي لم يتمكن من الوصول لنقلهما لتلقي العلاج في المستشفى بسبب خطورة ووعورة الطريق.

اضطر جيش الاحتلال إلى نقل ملك وأمها إلى منطقة ثانية، وانتظرتا إسعاف الصليب الأحمر الذي نقلهما إلى مستشفى شهداء الأقصى لتلقي العلاج، لكن بسبب عدم توفر الإمكانات وخطورة إصابتها في القدم، نُقلت مرة أخرى لتلقي العلاج في المستشفى الإماراتي الميداني، جنوب شرق رفح، ليضطر الفريق الطبي الإماراتي لبتر قدمها بعد 5 أيام من الإصابة، وتبدأ مرحلة علاج من نوع آخر.

شعرت ملك البالغة من العمر 14 عامًا بنقصٍ أصاب جسدها بعد بتر قدمها، لكنّ الأطباء منحوها الأمل بعد الحديث عن تحضيرها لتركيب طرف صناعي، وأُخذت المقاسات، استعدادًا لتركيب طرف صناعي.

وبدأ العمل على مشروع تركيب الأطراف الصناعية في المستشفى الإماراتي بعدد 61 طرفًا صناعيًا حسب الدكتور سلطان الكعبي مدير المستشفى الإماراتي الميداني، لـ المنصة، كمرحلة أولى للمشروع.

تبلغ تكلفة كل طرف اصطناعي نحو 1400 دولار أمريكي

"ركزنا في المرحلة الأولى على مبتوري الأطراف الذين يتلقون العلاج داخل المستشفى، ومع توافر الأطراف والمواد الخام اللازمة سيمتد المشروع إلى من هم خارجها"، يضيف الكعبي.

يضم كادر المستشفى طاقم أطباء من ألمانيا يعمل على تركيب 10 أطراف يوميًا، ويأتي ذلك ضمن العمل على منح مبتوري الأطراف من أطفال ونساء وشباب الأمل في العودة لممارسة مهامهم اليومية وشبه الاعتيادية، كما يقول الكعبي.

لا تقتصر جهود مساعدة أطفال غزة على مشروع تركيب الأطراف بالمستشفى الإماراتي، إذ يعمل فريق طبي في المستشفى الأردني من مساعدة العشرات من مبتوري الأطراف عبر إطلاق وحدات طبية متنقلة لتلبية الاحتياجات الكبيرة، ضمن مبادرة مشتركة بين الفريق الأردني وشركتين بريطانيتين، باستخدام تقنية جديدة، مدعومة بتصنيع بريطاني من شركتي "Koalaa" و"Amparo"، تتميز بسهولة تركيبها وتقلل من فترة الانتظار.

وتبلغ تكلفة كل طرف اصطناعي نحو 1400 دولار أمريكي، بتمويل من المملكة الأردنية ومؤسسة خيرية أردنية.

مع الأعداد الضخمة من الضحايا الذين يتساقطون جراء العدوان الإسرائيلي اليومي، فقد الكثيرون الأمل، إلا أن هناك القليلين لا يزالون يقاومون في ظروف إنسانية صعبة، فمحمد أصبح المعيل الوحيد لأسرته، وبدأ في بيع بعض البسكويت والمواد الغذائية لتوفير قوت يومهم خلال الحرب.

ولم يعد لدى العازف الصغير من حلمٍ سوى الوصول إلى جثمان والده، والسفر إلى حيث يستطيع الحصول على كف صناعي جديد، يقول "فقدت كل اشي هنا، بديش أموت، بس بدي أدفن أبويا وأسافر أستعيد إيدي زي باقي الأطفال وأقدر أعمل كل اشي زي زمان".