تصوير سالم الريس، المنصة
نازحون في انتظار السماح لهم من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي بعبور الشريط الساحلي والعودة إلى ديارهم في شمال غزة، 25 يناير 2025

في غزة.. المساعدات لمن استقر والأسواق لمن اقتدر

منشور الثلاثاء 28 يناير 2025

ابتهج محمد حسون، أخيرًا، بأخبار وقف النار في غزة، فالراجل الغزاوي البالغ من العمر 46 عامًا، واللاجئ بأحد مخيمات وسط القطاع، عاش أشهرًا من الشتات والألم والفقد في ظل الحرب، مع ذلك فإنه يبدي حسرته الآن وهو يرى صور الشاحنات المحملة بالمساعدات تمر أمام عينيه دون أن تنال أسرته النازحة شيئًا منها.

وبمجرد إعلان وقف إطلاق النار، وفتح المعابر أمام المساعدات التي انقطعت منذ احتلال معبر رفح في مايو/أيار الماضي، لم تتوقف صور الشاحنات التي تدفقت من المعابر.

وتدخُل أكثر من 600 شاحنة يوميًا، مُحملةً بالمساعدات الإغاثية الإنسانية، والبضائع، إلى مختلف مناطق القطاع، حسب ما تنص بنود الاتفاق الذي بدأ سريانه الأحد 19 يناير/كانون الثاني الحالي، غير أن أصواتًا غزاوية تعالت بالحديث عن عدم وصول المساعدات للنازحين في خيامهم، خصوصًا المواد الغذائية الأساسية، مثل الطحين وزيت القلي والسكر والأرز والمعلبات والحليب.

المساعدات للمستقرين

يشكو حسون في حديثه لـ المنصة من أنه لم يحصل على أي مساعدات منذ عدة أشهر رغم رؤيته صورها "إحنا بس بنشوف الشاحنات بتحمل مساعدات ع الأخبار لكن ع أرض الواقع ما بنشوف ولا بنستلم إشي".

يكمل الأب الذي نزح بسبب الحرب من شمال القطاع إلى وسطه "بعد الاتفاق، قالوا بدّه [سوف] تدخل كميات كبيرة من المساعدات، قلنا بييجي دورنا، لكن كمان على الفاضي، ما استلمنا أي إشي ولا شفنا لا طحين ولا أي مساعدات، طيب وين بتروح؟ ولا حدا بعطينا جواب نفهم بوقت إحنا بأمسَّ الحاجة نطعم ولادنا".

فقدَ حسون عمله ومصدر دخله، فقد كان يعمل في مجال البناء الذي توقف تحت تأثير القصف والتدمير والتوغلات البرية التي استمرت لنحو 15 شهرًا، ولم تعد مدخراته تكفي لتوفير الطعام لأبنائه، ما دفعه للبحث عن حقه في المساعدات الإغاثية والإنسانية الواردة للقطاع، متابعًا "إحنا لولا تكيات الطعام اللي بتوفرلنا كميات بسيطة بتخلينا عايشين، كان زمان متنا من الجوع".

مسيرات العودة إلى شمال غزة لأول مرة منذ 15 شهرًا، 27 يناير 2025

بدورها تنتظر فاطمة حمودة نصيبًا من المساعدات، فهي وأبناؤها بلا أي مصدر للعيش بعدما فقدت زوجها عائلها الوحيد جراء قصف إسرائيلي استهدف سوقًا في خانيونس.

لدى فاطمة البالغة من العمر 40 عامًا، أربعة أطفال، تقول لـ المنصة "أنا بقضي اليوم كله بس بجري من مكان لمكان عشان أوفر كوبونة أو أكل من التكية، من وين أنا بدي أطعمي ولادي، كانوا يقولوا فش شاحنات بتدخل، بعدين قالوا الشاحنات بتنسرق، طيب اليوم وين الشاحنات بتروح؟ وين المساعدات بتروح واحنا مش شايفين منها اشي لدا الحين".

وفيما يؤكد مسؤول يعمل في إحدى منظمات الإغاثة الدولية لـ المنصة وصول عشرات الشاحنات المحملة بالطحين والمواد الإغاثية إلى وسط وجنوب قطاع غزة، بعد سريان وقف إطلاق النار، فإنها، وبحسب التعليمات الواردة إليهم من إدارة المنظمة، لن تُوزَّع في الوقت الحالي.

يكشف المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، أنهم "في انتظار عودة النازحين إلى مناطق سكنهم، لنبدأ في تسليمهم المعونات".

كان المنسق الإسرائيلي أعلن الجمعة الماضي عبر فيسبوك دخول 4200 شاحنة تحمل مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة عبر المعابر المختلفة خلال الأسبوع الأول لبدء سريان وقف إطلاق النار، وذلك بعد خضوعها للتفتيش من قبل الجيش، وفقًا لبنود الصفقة.

انتعاش الأسواق

إلى جانب شاحنات المساعدات، دخلت شاحنات أخرى محملة بالبضائع الخاصة بالتجار، وهو ما أنعش الأسواق وأدى لانخفاض الأسعار، لكنه بالمقابل يثير حفيظة من لا قدرة لديهم على الشراء، تقول فاطمة "أولادي شايفين الحلويات اللي انتشرت في الأسواق وبدِّهم منها، وأنا مش قادرة أوفر الاحتياجات الأساسية، من وين بدِّي أوفر لهم الشغلات الثانوية؟ وهدول أطفال بشوفوا بضايع بالسوق ونفسهم فيها، طيب إيش نعمل ولوقتيش بدنا نستنى!".

مع دخول البضائع، عادت عشرات الأنواع من المواد الغذائية التي كانت قد اختفت من غزة خلال شهور إغلاق المعبر، للظهور بالأسوان، من بينها اللحوم والدواجن المجمدة والخضروات والمُسليات من المكسرات بمختلف أنواعها، وعدد من ماركات الشوكولاتة والبسكويت وحتى المياه الغازية.

اللافت أن الكثير من هذه الماركات تتبع شركات تعرضت لحملات المقاطعة بسبب تمويلها جيش الاحتلال الإسرائيلي مثل شركة كوكاكولا.

انخفض سعر لتر السولار من نحو 20 دولارًا إلى 7 دولارات فيما كان ثمنه قبل الحرب أقل من دولارين

ويشكو صابر عبد العزيز، النازح من شمال مدينة رفح وعمره 56 عامًا، من عدم ثبات الأسعار رغم دخول الهدنة أسبوعها الثاني، يشرح أكثر لـ المنصة "الأسعار كل يوم بحال، صحيح نزلت عن قبل، بس حسب كميات البضايع اللي داخلة، والحكي عن استمرارها، لكن السوق لسه عطشان وما في أي ضبط للأسعار لنرجع نشتري بالأسعار الطبيعية".

فيما يستبعد محسن عبيد، الأربعيني النازح من غزة إلى وسط القطاع، عودة الأسعار إلى معدلها قبل الحرب، مبررًا ذلك لـ المنصة بأنها "بتنباع بالسوق السودة، اللي بتسمح للبياعين يتلاعبوا بالأسعار على مزاجهم ومزاج الوضع السياسي والحالة العامة، لا حسيب ولا رقيب".

يحكي عبيد "أنا مثلًا من أول الحرب ما شغلت السيارة بسبب ارتفاع سعر البنزين اللي بيزيد عن 50 دولار للتر الواحد، واليوم اضطريت أشتري عشان نرجع لبيوتنا. دفعت حوالي 20 دولار للتر، وهادي تكاليف كتير عالية لناس نازحة فاقدة عملها ومصادر دخلها وإحنا بنحكي عن سلعة بعيدة عن الأكل والشرب، لأن أسعار الأكل كمان كتير مرتفعة مقارنة بحالتنا العامة ووضعنا بعد شهور من الحرب فقدنا فيها كل ما نملك وراجعين على خراب".

ورصدت المنصة انخفاض سعر كيلو الدقيق من نحو 7 دولارات إلى ثلاثة، في حين كان ثمنه قبل الحرب أقل من دولار واحد، كما انخفضت أسعار البيض وزيت القلي والسكر والمعلبات لأقل من النصف عن سعرها خلال الحرب، لكنها أيضًا لا تزال مرتفعة.

وشهدت أسعار المحروقات انخفاضًا ملحوظًا، وهبط سعر لتر السولار من نحو 20 دولارًا إلى 7 دولارات، فيما كان قبل الحرب أقل من دولارين.

المزاج سعره عالي

ورغم وصول معظم المنتجات التي تتعطش لها السوق، فإن السجائر ظلت واحدةً من الممنوعات على المعابر الرئيسية، لترتفع أسعارها لما يزيد عن 50 دولارًا للسيجارة الواحدة، ولكن مع ورود أخبار عن تجهيز شاحنات محملة بالسجائر والتبغ تنتظر الدخول إلى القطاع، انخفضت الأسعار إلى ما يقارب من 7 دولارات. ومثل بقية البضائع، ورغم انخفاض سعرها، تبقى أغلى من أسعارها قبل الحرب، حيث لم يكن سعر علبة السجائر التي تحتوي على 20 سيجارة يتجاوز الـ6 دولارات لأغلى الماركات. 

ومع مرور أسبوع لم تدخل خلاله أي من شاحنات الدخان التي تداول الغزيون أخبار وصولها، عاد التجار وباعة السجائر للتلاعب بسعر السيجارة ما بين ساعة وأخرى، حسب ما ينتشر من شائعات، ليصل الفرق في سعر السيجارة بين ساعات الصباح والمساء لنحو 4 دولارات.

يُحمِّل عبد السلام ممدوح، وهو غزّاوي تجاوز الخمسين بسنة واحدة، ويصف نفسه بأنه "مُدخِّن شره"، الاحتلال الإسرائيلي، مسؤولية التلاعب في الأسعار، بسبب منعه دخول السجائر والتبغ منذ بداية الحرب، وسماحه بتهريبها مع البضائع والمساعدات الإغاثية لتصل إلى المدخنين بأسعار فلكية، حسب وصفه.

يضيف ممدوح لـ المنصة "ولا عمرها لا أسعار السجاير ولا المواد الغذائية بترجع لسعرها الطبيعي إلا بعد ضمان استمرار عمل المعابر، وضبط حركة البيع والشراء في الأسواق، أما طول والوضع هيك كل واحد بشتغل من راسه يبقى الناس حتاكل بعض عشان ثمن سيجارة أو رغيف خبز".

مع مسيرات العودة المستمرة منذ الأمس بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من محور نستاريم، ورجوع عشرات آلاف النازحين إلى أحيائهم وبيوتهم، يأمل محمد حسون ومعه أكثرية الأسر الغزاوية في وصول المساعدات إليهم، ويأملون أكثر في أن تصمد الهدنة، وتنتهي الحرب، ليعودا لحياتهم الطبيعية يبيعون ويشترون في أسواق غزة.